موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ١٣ أكتوبر / تشرين الأول ٢٠٢٢

"صلاة أم صراع؟" بين كاتبي سفر الخروج والإنجيل الثالث

بقلم :
د. سميرة يوسف سيداروس - إيطاليا
سلسلة قراءات كتابيّة بين العهديّن (خر 17: 8-13؛ لو 18: 1- 8)

سلسلة قراءات كتابيّة بين العهديّن (خر 17: 8-13؛ لو 18: 1- 8)

 

مقدّمة

 

القراء الأفاضل، الصلاة أيّ الصلة والتواصل مع الرّبّ هي بمثابة الـمَّن الّذي يغذينا في حياتنا اليومية. هذا ما يعلنه كاتب سفر الخروج وكاتب الإنجيل الثالث من هلال النصين الّذين إخترناهما ليكشفا لنا إنصاف الرّب ومساندته لنا في محاربتنا ومواجهة صراعاتنا اليومية. إدراكنا ككنيسة سينودسيّة تسير خلف المعلم والرّبّ على ذات الطريق من خلال الصلاة بالرغم من الصراعات، تحث فينا الثقة والإستمرارية في التواصل من الله الآب. سنتعمق في هذا المقال عن مسيرة الصراع التي إختبرها بني إسرائيل بالصحراء وإلحاح الأرملة على القاضي الظالم. وفي كلا النصين سنكتشف بقوة قدرة الإنصاف الإلهي الّذي يكلل الرّبّ به صراعاتنا ويرافق حياتنا معلنًا أنه القاضي والحاكم بعدل. تصير كلمته هي الأخيرة الّتي تسود على حياتنا وتضع نهاية لصراعاتنا، لأنّه هو الرّب وليس أحد البشر كالعمالقة أو القضاة الظالمين بمجتمعاتنا.

 

 

1. الرَّبُّ رايَتي (خر 17: 8- 16)

 

الصلاة كصراع في الحرب. الصراع والصلاة موضوعان لهما صدى شديد في مقالنا هذا. اليوم، كان الأمر مختلفًا بالنسبة للآباء بالعصر القديم، فنحن نربط الصلاة بالسلام والسكينة والهدوء. إلّا أنّ الكتاب المقدس يربطها بالحرب والصراع. في قراءتنا للنص الأوّل نلتقي بشعب إسرائيل السائر بالصحراء بعد مغادرة مصر في اتجاه جبل سيناء. العقبة الأولى التي يواجهها هم العماليق وهم بمثابة العدو الأوّل لشعب الله. العماليق يحاول عرقلة طريق شعب الله نحو أرض الموعد. هذه العقبة الشبيهة بالحرب لم يتم التغلب عليها بقوة إسرائيل، الّتي سيتم لاحقًا القتال على أيدي يشوع ورفاقه. صلاة موسى هي علامة على الغزوات البشرية الظاهرة لرحلة إسرائيل نحو أرض الموعد الّتي هي في الواقع هبة من الله. ونتأمل ردّ فعل موسى الّذي يتحمل صراعات جمَّة للمثابرة في الصلاة، حتى يتمكن شعبه من الفوز على العماليق الّذين يعيقون طريقهم: «إذا رَفَعَ موسى يَدَه، يَغلِبُ بَنو إِسْرائيل، وإِذا حَطَّها، تَغلِبُ العَمالِقَة. ولَمَّا ثَقُلَت يَدا موسى، اخَذا حَجَراً وجَعلاه تَحتَه. فجَلَسَ علَيه وأَسنَدَ هارونُ وحُورُ يَدَيه، أَحَدُهما مِن هُنا والآخَرُ مِن هُناك. فكانَت يَداه ثابِتَتَينِ إِلى مَغيبِ الشَّمْس» (خر 17: 11- 12).

 

هذه الصورة الأولى تُصور لنا تجربة الصلاة على أنها ما يجعلنا نتغلب على العقبات التي تنشأ في مسيرة حياتنا اليومية نحو ملكوت الله. ومن الوهّم اعتقادنا بأننا سنتغلب على الأعداء الذين يعيقون طريقنا بذواتنا أو بالاعتماد على قوتنا. يخبرنا هذا المقطع من سفر الخروج بأنّ اختبار علاقتنا بالله في الصلاة يمكننا أن نجد دفاعنا. سياق نص سفر الخروج يدور حول الصراع والحرب، ويؤكد هذا النص أن الصلاة، أيّ الثقة في الرّبّ، هي الّتي تجعل بني إسرائيل ينتصر في معاركه. وحين ننتصر على صراعاتنا اليوميّة ما علينا إلّا أن نردد مع موسى قائلين: «الرَّبُّ رايَتي».

 

 

2. صراع الأرملة (لو 18: 1- 3)

 

من الجانب الآخر نجد في النص الإنجيلي صراعًا آخر وهو صراع أرملة ضد قاضي ظالم لا يريد أن يهبها حقها، وجهادها الواثق في عمل الرّبّ في الإلحاح تعطينا نموذج الصلاة الحقة. علّمنا يسوع من خلال هذا التناقض بين الأرملة والقاضي ليكشف لنا أنّ إلحاحنا في المطالبة بالعدالة لشخصيات بشرية لا علاقة لها بالصلاة نقوم بتوجيهها نحو الله. فقد نلجأ إلى الشخصيات البشرية لفعل شيء من أجل ذواتنا، لإصلاح حالات الظلم وغالبًا ما يتصرفون بدافع المصلحة الشخصية البحتة. ليس الأمر كذلك مع الله، فالمؤمن يلجأ إلى الله ليلًا ونهارًا ليس لأنه يجب أن يصلح الموقف، ولكن حتى لا يفقد قلبه في وقت التجربة. الصلاة المستمرة والإلحاح هي أن اختبار العلاقة مع الرب يجعلنا نثابر في تجارب الحياة الّتي نحياها ونحن في انتظار مجيء الرب وملكوت الله.

 

 

3. التناقض بين الأرملة والقاضي (لو 18: 2- 5)

 

إنّ السياق الّذي يضع فيه لوقا هذا المقطع الإنجيلي داخل إطار سياق صعود يسوع نحو أورشليم. في هذا المقال نتعمق في مشهد اقتراب يسوع التدريجي من أورشليم الّذي يوشك وقت محاكمته. إذن السياق هو سياق محاكمته، وهو موضوع يثير اهتمام الإنجيلي عن كثب، والذي دعا أيضًا إلى اللّا مقاومة أثناء انتظار الرّبّ البطيء لمجيئه. وبهذه الطريقة، يساعدنا الكاتب أن نجد ذواتنا في حياة يسوع واضعين أنفسنا بين جماعته الّذين يكتب لهم إنجيله. يساعدنا هذا المقطع للنظر إلى الماضي بعين واحدة، أي النظر إلى وضع يسوع وتلاميذه في رحلتهم إلى أورشليم، والنظر بالعين الاخرى إلى المستقبل أيّ الأزمنة الأخيرة الّتي تعلن مجيء الرب. يهدف الإنجيلي إلى معاونتنا للعيش في الإيمان والرجاء للجماعة المسيحية.  

 

يعتبر إختيارنا لهذين النصين نوع من المحاولة للحث على ضرورة الصلاة. يعتبر التعليم عن الصلاة موضوعًا مركزيًا في صفحات الإنجيل الثالث. ففي النص المختار (11: 5-8) يروي الإنجيلي مَثَل الصديق الـمُلِح. لفهم منظور التعليم عن الصلاة، لا يمكننا أن ننسى أن النصوص التي تسبق هذا المقطع لها صبغة أُخرويّة أيّ نهاية العالم. هذه هي النص متعلق أيضًا بمجيء ابن الإنسان. يشير هذا النص لضرورة الصلاة والّتي دائما تتم دون مجهود. مدعوين لاستيعاب دعوة الكاتب الخاصة بدقة في سياقها وربما مرتبطة بالسؤال الموجود بالنص القائل: «ولكِن، متى جاءَ ابنُ الإِنسان، أَفَتُراه يَجِدُ الإِيمانَ على الأَرض؟» (11: 8ب).

 

ثمّ يعرض الإنجيلي بعض الشخصيات الكتابيّة، على لسان يسوع من خلال المثل التعليمي: «كانَ في إِحدى المُدُنِ قاضٍ لا يَخافُ اللهَ ولا يَهابُ النَّاس. وكانَ في تلك المَدينَةِ أَرمَلَةٌ تَأتيهِ فتَقول: أَنصِفْني من خَصْمي» (18: 2- 3).  يتم تقديم الشخصية الأولى وهي القاضي فيقول إنّه لا يخاف الله ولا يحترم أحداً. وسيُعرف القاضي ذاته بطريقة خاصة في مونولوجه حينما: «قالَ في نَفْسِه: أَنا لا أَخافُ اللهَ ولا أَهابُ النَّاس» (18: 4). تعلم أن القاضي المثالي هو وصف للرّبّ ذاته. إلّا أنّ القاضي بالمثل هو نموذج عكسي عن شخص القاضي الإلهي في حكمه.

 

ثمّ يصف الشخصية الثانية وهي الأرملة. في العهد القديم، الأرامل مع الأيتام والمضطهدين هم الشخصيات الأكثر احتياجًا للدفاع عنهم إذ ليس لديهم من يدافع عنهم، وليس لديهم القوة للمطالبة بحقوقهم، يجب تحقيق العدالة لهم. يتوجب إعطاء الأيتام والأرامل ما نصت عليه الشريعة للدفاع عن ضعفهم. تلجأ الأرملة في المثل إلى القاضي لينصفها من أحد خصومها. ولمّ يحدد النص شيئاً ولكن يمكن الافتراض أن هذه مسائل تخص ميراث الزوج. بموجب الشريعة، لم تكن الأرامل وارثات عن أزواجهن، لكن كان يتم ضمان حقهن في الحصول على إعالة من ممتلكات أزواجهن طوال فترة ترملهن. في هذه الحالة ستحاول المرأة الحصول على حقها.

 

نجد وصفًا لسلوك القاضي تجاها حينما رآها إذ تجاهلها القاضي في البداية، ولم يستمع إلى طلبها، لكن بعد إلحاح كثير نسمعه يقول: «ولكِنَّ هذِه الأَرمَلَةَ تُزعِجُني، فسَأُنصِفُها لِئَلاَّ تَظَلَّ تَأتي وتَصدَعَ رَأسي» (18: 5). هذا المونولوج النموذجي هو أحد المونولوجات التي قدمها الإنجيلي (راج 12: 16-21. 42-46؛ 15: 11 - 32؛ 16: 1 - 8؛ 20: 9 - 19). بسبب إصرار المرأة على عدم الإزعاج المستمر، يتدخل القاضي في النهاية وينصفها. وهكذا ينتهي المثل التعليمي ليسوع.

 

 

4. الرّبّ هو الـمُنصف (لو 18: 6-8)

 

نلاحظ أن التعليم الذي يريد يسوع أن يستخلصه من هذا المثل يرتكز في قوله: «ثّمَّ قالَ الرَّبّ: "اِسمَعوا ما قالَ القاضي الظَّالِم. أَفما يُنصِفُ اللهُ مُختاريهِ الَّذينَ يُنادونه نهاراً ولَيلاً وهو يَتَمهَّلُ في أَمرِهم؟» (18: 6- 7). الآن يُسمى القاضي باسم قاضي الظلم. في الآية 7 نجد سؤالين يتطلبان إجابة حاسمة. استجابة إيجابية في الحالة الأولى، سلبية في الحالة الثانية. تعيدنا تفاصيل المختارين الذين يصرخون إلى الرب ليلاً ونهارًا إلى سياق الضيق الرهيب. إن مستمعي يسوع، نحن اليوم، القراء في كل عصر مدعوون ليعيشوا الوقت الذي يفصلهم عن اللقاء مع ربهم، حاملين هذه الصرخة في قلوبهم، في اليقين المتناقض الذي «يُسرِعُ إِلى إِنصافِهم» (18: 8أ) سوف يستمع إليهم. يجادل الإنجيلي بطريقة مماثلة لما وجدناه في مثل الوكيل غير الأمين من قاضي الظلم إلى سلوك الله. تًذكرنا الآية 8 أن الله سينصف على الفور أي بسرعة.

 

الصلاة في وقت الانتظار هو هدف تعليم يسوع من هذا المثل الّذي يتعلق بالصلاة، وعلى وجه الخصوص الصلاة في وقت المحنة أو بالأحرى صلاة التلميذ في الوقت الذي يفصله عن اللقاء مع رّبّهِ. إنها وقت صلاة الكنيسة التي يكتب لها الإنجيلي، ولكنه وقتنا أيضًا كجماعة تستمع في جميع الأوقات إلى هذا المقطع الإنجيلي. يرتبط السؤال الأخير بيسوع في هذا السياق. هناك ارتباط بين المثابرة على الإيمان والمثابرة على الصلاة. هذا هو الإطار الّذي وضع فيه الإنجيلي هذا المقطع منذ البدء بالحديث عن المثابرة في الصلاة، وفي نهاية المثابرة في الإيمان. المثابرة في الصلاة هي أيضًا ملاحظة مميزة للجماعة البارة. لذا يدعونا الكاتب كجماعته وقرائه في جميع الأوقات للبقاء في هذه المثابرة.

 

 

الخلَّاصة

من خلال رسالتي كاتب سفر الخروج (17: 8- 16) والإنجيل الثالث (لو 18: 1- 8)، اليوم، علينا بالتعمق في أهمية الصلاة التي هي بمثابة صراع في مسيرة إيماننا. علينا ألّا نسعى في البحث عن طرق مختصرة أو طرق الخروج من نضالنا، ولكن عن تلك العلاقة التي تدعمنا في المثابرة في الحياة المسيحية. الصلاة لا تعني أن نمتلك خبرة رومانسية من السلام والرحمة، بل تعني الدخول في صراع مع الله يمكننا أن نخرج منه مثل يعقوب الّذي يعرج، ولكنه خرج بعد أنّ نال البركة الإلهيّة. علينا ألا نخشى الصراع ولكن وبالرغم من كل شيء الاستمرار بإلحاح وبثقة في الصلاة مهما دام الصراع، فالإنصاف من قبل الرّبّ سياتي إنّ أجلاً أم عاجلاً. علينا أن نتقوى في ثقتنا البنوية نحو الرب ونعبر الصراع معه واثقين في إنصاف القاضي الإلهي مهما كان واقعنا المـُترمل أو اليتيم لأن الرب سينصفنا فنحن ننتمي إلهي وهو ينتمي إلينا. دُمتم أيها لاقراء الأفاضل في نمو بتواصلكم بالرّب الّذي يقويكم في صراعاتكم.