موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
مقدّمة
القُراءّ الأفاضل، النصوص الكتابية لهذا المقال نقارن بين قيمتين جوهريتن في العلاقة مع الرّبّ يتمثلان في الصداقة أو الصلاة. هذا المضمون رئيسي. وبالطبع، ليست النصوص الكتابية للمعرفة النظرية فقط وليست تعليم عن نمو الصداقة أو الصلاة مع الله. إلا أنّ سواء الصداقة أم الصلاة هما صورتين يشكلان العلاقة بين الإلهي والبشري فالحوار النابع منهما يصير حدث حي ولقاء مُعاش. في مقالنا هذا، من خلال موضوع الصلاة الّتي تقوي الصداقة مع الله، والّذي نعتبره بمثابة معيار يدُعونا إلى التعرّف على ما تحمله قلوبنا تجاه الرّبّ والطريقة الّتي تساعدنا على التأمل في وجه الله والحوار معه. تشير طريقتنا في الصلاة دائمًا إلى إعطاء إجابة على سؤالين: مَن هو الله بالنسبة لنا؟ وبمَن نؤمن حقيقة؟ وبالتالي فإن الصلاة هي حقيقة مُهمة للغاية في اختبارنا للإيمان بل هي تعبير بعمق عن شكل إيماننا الباطني. يظهر الموضوع بوضوح في كل من نص التكوين بالعهد الأوّل (18: 20- 33) حيث نسمع حوار بين الله وإبراهيم وهو نموذج لنا عن جوهرية الصداقة التي تحمل إبراهيم على نوع خاص من أنواع الصلاة وهي صلاة الإلتماس أو الشفاعة. أما في النص الإنجيلي بحسب لوقا بالعهد الثّاني (لو 11: 1- 13) يصل تعليم يسوع لتلاميذه إلى ذروته، ويكشف عن هدف الصلاة الّذي يتضح في التواصل مع الله الآب. نهدف من خلال مقالنا هذا إلى الدخول في مسيرة حوارية تجعلنا نتصل بالله بشكل حقيقي بفضل الحياة مع الله التي أعطانا إياها في يسوع والوقوف أمامه بقلب إبن وإبنة مما يساعدنا على فهم ابينا السماوي والدخول في مشيئته الخلاصيّة.
1. صداقة إبراهيم (تك 18: 20- 31)
إذا كان نص سفر التكوين الّذي نقرأه اليوم ينقل إلينا فكرة عن صلاة الإلتماس أو الشفاعة، وهي نوع من أنواع الصلاة التي يجد إنسان اليوم صعوبة في فهمها وكأن سبب وجود الله في حيتنا هو فقط الطلب منه لذات وللآخرين. هذا النص يتبع على الفور لقاء إبراهيم مع الرجال الثلاثة في ممرا الّذين رحب بهم وخدمهم بضيافة متميزة والّذين سمع منهم إعلان ولادة ابن وبدء نسل من صلبه. إنه النص الّذي قمنا بتفسيره في مقالنا السابق. ولكن حتى قبل استقباله للرحالة الثلاث فى ممرا، قِبلّ إبراهيم دعوة الله لمغادرة أرضه وبيت أبيه بناءً على وعوده الإلهيّة (راجع تك 12: 1-3). لذلك فإن إبراهيم هو إنسان وثَّقَ في الله وعرف كيف يخاطر بحياته بُناء على كلمة الرّبّ له وثقته فيه. أساس هذه الثقة هي الصداقة بينهما. الصداقة تساعدنا أن نجد معنى لحوار الرّبّ مع إبراهيم وللتقدم في حضرته الإلهية وتشفعه لأجل أهل سدوم وعمورة. من هذا الجانب يمكننا أن نستنتج أنّ صلاة الالتماس، هي المجال الحيويّ أولاً وقبل كل شيء للشركة والصداقة مع الله، ويمكن لإبراهيم أن يكون شفيعًا ووسيطًا لأنه جعل نفسه مِضيافًا لله ولكلمته. على ضوء ضيافة إبراهيم، يمكننا فهم شفاعته للآخرين الّذين لا ينسجموا في علاقتهم بالرّبّ. «وبَقِيَ إِبْراهيمُ واقِفًا أَمامَ الرَّبّ» (18: 22) السماع لله يُعتبر سمة مهمة جدًا في صلاة اليهودي والمسيحي. بدون الإستماع إلى كلمة الله لا يمكن أن تكون هناك علاقة وتواصل يحملا الإنسان لصلاة حقيقية. الصلاة هي ثمرة انسجام بين قلب الإنسان وقلب الله الذي يمكننا الوصول إليه بفضل الاستماع إلى كلمته، وهو ما يجعلنا شفعاء ووسطاء حقيقيين، إذ لا نستطيع أن ننتزع من الله شيئًا بعيدًا عن مشيئته. إن الاستماع إلى الله وقبول إفتقاده لنا في حياتنا وتاريخنا البشري هو ما يجعلنا قادرين على النظر إلى أنفسنا وإلى الآخر وإلى الإنسانية بعين الله ذاته. وبهذا لا يتم التعبير عن الرغبة البشرية في صلاة الإلتماس في جعل الله يغير مخططه بناء على صلواتنا، بقدر ما تحثنا الصلاة على التواصل مع الرّب كصديق في المقام الأول ثمَّ التمتع بحياة الشَّركة واللقاء به كشخص حيّ.
من المثير للاهتمام أن نلاحظ كيف يمكن حقًا أن يُطلق على إبراهيم الإنسان صفة "صديق الله". تحيا الصلاة بناءعلى هذه الثقة البشرية النابعة من القلب البشري تجاه الشخص الإلهي. نعم الصداقة تُكسب الإنسان تواصل يستند على الثقة الّتي تكشف نوع متميز في العلاقة بين العالمين البشري والإلهي. الصلاة الّتي بها تواصل ليست إقتناع خرافي بالقدرة على إبلاغ الله بشيء لا يعرفه، بل هو مظهر من مظاهر صداقتنا معه وثقتنا واعتمادنا عليه الذي هو الموثوق به بامتياز. يا للعجب يصير الإله صديق الإنسان! هذه خاصية الصلاة الّتي تؤكدها إجابات الله، ولا يتعين على إبراهيم أن يبذل أي جهد ليستمع إليه الله، ولكن يتم قبول طلبه الجريئ والعفوي بسبب قلبه المُنسدم مع قلب الله. الصداقة تصير ثمرة الثلاة لا يمكن أن يحصل عليها سوى صديق أمين. حتى بدء هذا المقطع، الّذي يحتوي على مناجاة الله، يوضح لنا كيف أن إبراهيم هو قبل كل شيء صديق الله، لدرجة أن الله ذاته لا يستطيع إخفاء خطته عنه، لأنه راهن عليه وقَبِلَ كلمته.
2. صلاة الأبناء لآبناء (لو 11: 1- 12)
ما اخبرنا به سفر التكوين ما هو إلا نوع من أنواع التواصل الّذي خلق صلة مع الرّبّ. جذر الصلاة هي الصلة الّتي تكشف عن إنسجام قلبين إلهي وبشري. إلا أن بالعهد الثاني هناك بعض السمات المهمة جدًا التي تؤكد بأنَّ الصلاة هي قبل كل شيء، قبل أنّ تكون أنواع من الإلتماس والتسبيح والشكر، هي علامة على الشركة والعلاقة مع الله وكشفه عن وجه الإلهي في عالمنا البشري ورغبته للشركة مع الإنسان. أيضًا في نص العهد الجديد الموازي لنص سفر التكوين بحسب إنجيل لوقا، يظهر موضوع الصلاة بنفس المصطلحات، ولكن هنا يسوع نفسه هو الذي يصبح نموذجًا للصلاة أمام تلاميذه «وكانَ يُصلِّي [يسوع] في بَعضِ الأَماكِن، فلَمَّا فَرَغَ قالَ لَه أَحَدُ تَلاميذِه: "يا ربّ، عَلِّمنا أَن نُصَلِّيَ كَما عَلَّمَ يوحنَّا تَلاميذَه"» (11: 1).
يروي هذا النص أيقونة فريدة للصلاة المسيحية تتمثل في النظر ليسوع الإله الّذي يصلي فهو نموذجنا للتواصل مع الله الآب. إذا حاولنا أن نفهم جيدًا معنى أن الدخول في صلاة يسوع، يمكننا أن نرى أننا لا نبتعد كثيرًا عن سمات الصلاة التي رأيناها في نص سفر التكوين والتي ترتكز على الحوار والمكوث أمام الرّبّ.
إن خبرة الصلاة بالنسبة لنا كمسيحيين لها تهيئة خاصة من خلال الإستعداد للتواصل والصلاة بالإصغاء للنص المقدس وقبوله. وكما إستقبل إبراهيم المسافرين الثلاثة وحتى قبل أن يسمع كلمة الرب ويثق به، فإننا كالتلاميذ لكي تصبح صلاتنا حقيقية يجب علينا أولاً أن ننظر ليسوع رجل الصلاة. وثانيا أن نقبل دعوته للتواصل بالله الآب الغير مرئي «إِذا صَلَّيتُم فَقولوا: أَيُّها الآب» (11: 2). يدعونا لوقا على لسان يسوع أن نستمع إلى الدخول ف علاقة مع ابيه السماوي الّذي خرج منه. وهنا السر إذ يدخلنا يسوع في علاقة جوهرية ليشاركنا في بنوة الآب السماوي مثله. "أيها الآب" بهذا اللقب نتواصل بآب يسوع الغير مرئي بقلب الابناء نناديه يا أبانا. اليوم يدعونا يسوع، مثل إبراهيم، لإتباع أبيه السماوي والسير وراءه وتكييف حياتنا مع الإنجيل الّذي يعلنه. من خلال تعليم يسوع لتلاميذه ولنا اليوم مدعويين للتواصل مع أبينا من خلال صلاة حية تكشف عن وجه الآب. وهذا التواصل يتطلب منا أن نترك شيئًا على مثال إبراهيم. أهم ما يتوجب علينا تركه هو صُورنا الزائفة عن الله حتى نتمكّن من الإنتماء إليه. إنّ الأمر يتعلق بترك يقين الإنسان في ذاته والإنتقال إلى الثقة في الله فهو الإله العظيم الذي ينادينا ويوجهنا.
نستنتج في نص لوقا أن الصلاة هي حقيقة تنمو بالتحلي برّوح البنوة من جانبنا نحن البشر نحو الله. والأمثال الّتي يستخدمها لوقا في النص تتسم بالبلاغة. في المثل الأوّل (راج 11: 5- 8) يُقارن يسوع الإنسان الّذي يصلي بمَن يلجأ إلى صديقه لدرجة أنه يتجرأ على الذهاب إليه ليلاً ليطلب منه طعامًا يقدمه لضيف غير متوقع. نعم، إنه طلب مُلح، لكنه طلب صديق. المثل الثاني (راج 11: 9- 12) له أهميته باستخدام صورة علائقية الأب وابنه. يُقارَن الأب البشري بالله الآب الذي لا يستطيع سوى إعطاء الأشياء الصالحة لأولاده. تزداد أهمية المثلين إذا اعتبرنا أنّ نموذج الصلاة الذي يقدمه يسوع لتلاميذه يبدأ بكلمات "أبانا".
3. التواصل بالله الآب (او 11: 13)
في ختام النص بحسب لوقا يتضح لنا الجديد عن فكر لوقا اللّاهوتي بهذا النص فيما يتعلق بموضوع الصلاة. إعلن يسوع عن أبوة الله الّتي تتجاوز الأبوة البشرية قائلاً: «فما أَولى أَباكُمُ السَّماوِيَّ بِأَن يهَبَ الرُّوحَ القُدُسَ لِلَّذينَ يسأَلونَه» (11: 13). هنا يكمن الجديد شكل التواصل بالله كأصدقاء وكأبناء، إلهنا هو قريب بل هو أبونا. في كل مرة يتواصل فيها المسيحي بالرّبّ يصير صديق لله، وكابن، تمامًا كما فعل إبراهيم وموسى والأنبياء وجميع أصدقاء الله، كما تخبرنا الكتب المقدسة. ومع ذلك، فالمسيحي مع يسوع،يصير بطريقة فريدة ابن لله وصديق له، والروح التي يمنحها الله لها توحد أصواتنا مع صوت الابن. صلاتنا إذن هي صلاة يسوع، صلاة الأخ البكر التي تجمعنا بالآب كأبناء، وهي صلاة الأخوة التي توحدنا في أخويتنا لبعض. الصلة بالله من جانبنا نحن البشريين لا يحتاج لها الله بقدر ما نحتاج إليها نحن فهي تُعمق وتقوي إنتمائنا وإنسجامنا بقلب الله ابينا السماويّ.
الخلَّاصة
من خلال تعمقنا في صداقة الإنسان مع الله نودّ الإشارة إلى خاتمة نص بسفر التكوين الّتي تدل على قوة الإنسجام في صداقة إبراهيم بالرّبّ فيروي الكاتب بأنّه «مَضى الرَّبُّ عِندَما آنْتَهى مِنَ الكَلامِ معَ إِبْراهيم، ورَجَعَ إِبْراهيمُ إِلى مَكانِه» (18: 33). الله يبقى عظيمًا بالرغم من كشفه عن ذاته بالحوار مع الإنسان ومشاركته للبشري في خطته الإلهية. لكن لا يمنع تقارب كِلاً العالمين البشري والإلهي من خلال التواصل بالحوار وصلاة الإلتماس. هذا النص يدعونا إلى الإحساس باحتياج من حولنا وحملهم للرّبّ لخلاصهم. عودة إبراهيم إلى مكانه مُدركًا بإنه خليقة الله، وبأنّ الرّبّ هو الإله الخالق، قلم يتعدى حدوده بالرغم من صداقة الله معه. وهذا ما نتلمس ذروته في كلمات يسوع بحسب مار لوقا الّذي بعد أن أعطى إجابة لتلاميذه بعد أنّ كان قدوة حية للصلاة أمامهم. عَلَّمَنا كتلاميذ بكنزه ثمين وهو كشف وجه الله الآب لنا والأروع إنّه ببنوته صرنا ابناء لأبيه السماوي. دُمتم في بنوة إلهية دائمة أيها القراء الأفاضل.