موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الثلاثاء، ١٢ يوليو / تموز ٢٠٢٢

شعبنا صليبنا... فلا تبيعوا شعبكم وأرضكم

بقلم :
المونسنيور بيوس قاشا - العراق
المونسنيور د. بيوس قاشا

المونسنيور د. بيوس قاشا

 

في البدء

 

عندما ننظر إلى تاريخ عالمنا، وحالته الحاضرة بعلومه وتقدمه وبدواعشه، تغمرنا التعاسة والقلق، حيث نرى ونسمع ونشاهد ما يحدث وما يحصل من إجرام وظلم وفساد، وما تنتجه الكوارث من مآسي وخسائر بشرية ومادية، والأدهى، أن الإنسان الذي مارس قديماً إجرامه ووحشيته على أخيه الإنسان، ما زال يقوم اليوم بالأعمال عينها.

 

وبسبب هذه التناقضات الصارخة، كثرت هموم الإنسان ومشاكله، وأصبحت مسالك الحياة خطرة، ولا زال البشر الأبرياء يتألمون من آفات الحروب والنزاعات التي تلقي بثقلها على الحياة الخاصة، فردية كانت أم عامة، وأصبح وجودنا نحن المسيحيين في الشرق قضية موت أو حياة. نعم، إنها مرحلة شديدة الخطورة ولا نعلم مداها وتبعاتها، هل هي على المدى القريب أو على المدى البعيد!.

 

 

هذا حالنا

 

هذا هو حالنا أمس واليوم... ففي الأمس القريب والبعيد ثمّة توترات وصراعات نشبت منذ البدايات بين البشر حول السلطة والأولوية، وكذلك خلافات في البقاء والوجود، وهذه كلها كانت مليئة بمشاعر الحسد والغيرة والأنانية والبغضاء والكراهية، كما نخرت في الجسم الواحد، في حين أن الرب وصية واحدة أعطانا وهي"وصية المحبة الإلهية" (يوحنا34:13)، لذلك نرى الكثيرين، ومنهم الأقربين، تعساء أكثر من كل الناس لأنهم لم يعيشوا هذه المحبة بكل أبعادها، بل بالعكس فقد راحوا يعيشون أحياناً إنسانهم القديم الذي لا يصير أو يرفض أن يصير إنساناً. وكما كان حال التلاميذ أمس هكذا حالهم اليوم، إذ ليس أفضل من حال مَن سبقوهم. يكفي أن نلقي نظرة سريعة إلى حالهم اليوم لنرى كم أن هناك خصام وانقسام ونزاع وصراع، وعشائرية وطائفية وقومية ومحسوبية، بدل الوئام والإنسجام والسلام ووحدة الهدف والغاية، وهذا ما يجعلنا أن نرى أيضاً كم أن مشاعر الغيرة والحسد والحقد والكراهية والإنفرادية والمصلحية تعتمر قلوب الكثيرين منهم، ويستثمرون هذه بدل تلك، وهذا ما يجعلني أن أقول: أننا لم نستفد من عِبَر الماضي البعيد والقريب، ولم نحصد ثمار آلامنا وهزيمتنا وتهجيرنا، كي نكون في الوحدة والتماسك والتجديد واحترام القيم في قول الحقيقة عبر مسيرة الحياة. فكفانا أن نُجلس الفاسد في أولى الصفوف، ونبجّلُه بما لا يستحق، ونستقبله بأجمل ترحيب وكأنه أمير أُرسل من قِبَل ربّ العباد، وهذا ما يجعل رسالتنا رسالة خنوع وليست رسالة حقيقة. ولا يجوز أن تكون مهمتنا الدخول في صراع، بل لا يجوز أيضاً أن نكون خانعين أمام المظالم وعبيداً سيئين أمام محبّي المصالح الضيقة وإرادتهم الفاسدة وشهواتهم الشريرة وشهاداتهم المزيَّفة والزورية حيث الشعب عامة والمسيحيين خاصة عانينا ولا زلنا، واحتملنا الآلام بصبر وإيمان ولا زلنا حتى الساعة، والخوف يملأ قلوبنا من الآتي إلينا، ولا زال لبعض منا بذرة الإيمان لديهم لا تدعهم يغادرون أرض أجدادهم، ولكن كما كانت حواء بالأمس لا زالت اليوم تلعب دور الرحيل والهجرة بطرق بائسة مدَّعية أن الله لا يتذكّرهم وأن أقرباءها ينتظرونها في أرض الله الواسعة فتُفسد حياة الشهادة في أرض الأجداد من أجل الرحيل نحو أرضٍ تدرّ لبناً وعسلاً، فتُهدي لآدم تفاحة الكترونية من أجل أن تجعل من حب الأرض ضياعاً وفقداناً وموتاً، وهذه علامة من علامات الزمن. إنها أميرة الدنيا أمام آدم الضعيف، ووزيرة الجنة أمام الثقافة الإلكترونية، وفي هذا فقدنا الإنسان، وفقدنا قيمته، كما فقدنا الأرض ومُلكيتها، وغفلنا عن نداءات المعابد وخدّامها في أن نكون شهوداً وشهداء لذا كفانا من الفقر الإيماني والروحانية الصحراوية، فلا زلنا نفتش عن المال والسلطة بينما الحقيقة تدعونا إلى أن نقرأ كتاب حقيقة إيماننا ووجودنا ومسيرتنا لندرك أنه كتاب مؤلم بسبب إنقساماتنا وطائفيتنا ومصالحنا. ولا يجوز أن يبقى الإنجيل بعيداً عن مسيرة حياتنا، فإذا إستمر التباعد بيننا وبين معابدنا ورجالها، فلن يكون هناك مستقبل لمسيحيتنا ولمسيحيينا في أرضنا، وربما نقرأ السلام في آخر المطاف.

 

 

مواطنة ... وأصالة

 

إنني أخاف أن تضيع المواطنة والأصالة في أرض أجدادنا بسبب إنقساماتنا، وفي ذلك سنشابه الجنود الذين _ ليتمّ الكتاب القائل: "إقتسموا ثيابي بينهم، وعلى لباسي ألقوا قرعة" (يوحنا23:19-24؛ مزمور18:22)، كلٌّ يريد حصّته ويرحل، وفي هذا أخاف أيضاً أن يمحو التاريخ وجودنا بعد الذي نشهده على ساحة الوطن من خلاف واختلافات، من مصالح وعشائريات، من طوائف وكيانات، من تكتّلات وتشكيلات، من أقوياء وضعفاء، من فقراء وأغنياء، من آدم وحواء، من مصالح وفساد، ويُكتَب بدلَ هذا التاريخ الأصيل الذي عاشه أجدادنا وآباؤنا وبُناة ديارنا ومعابدنا وكنائسنا وحضاراتنا، يُكتَب تاريخ مزيَّف يهوى مصالح البشر وأهداف الحركات والأحزاب والتكتّلات والطائفيات والإئتلافات، بأسطر حماية الفاسد المعروف والذي يحميه كبار الزمن، فما ذلك إلا إعلانٌ بزوالنا من حقيقة أرضنا بسبب غايات ومسمّيات وديموغرافيات متعددة، لأنه لا مجال للأصلاء أن يُظهروا حقيقتهم خوفاً من أقرانهم البائسين والفاسدين الذي يطلقون شعارات فارغة لكسب عددٍ من الأبرياء الأصلاء، لذا فمن المؤكَّد أن حقيقتهم ستموت يوماً شئنا أم أبينا إذا ما استمرت حالة إنقساماتنا في مسيرتنا المؤلمة كما هي اليوم.

 

إنني أتألم حينما أرى المواطن البريء سلعةً تُباع وتُشترى، وهذا ما أراه في مسيرة الوطن وما نجده، ومن المؤسف هذا حال الكثيرين أمام رجال الدنيا وكبار الزمن وحرّاس المعابد، وكما يقول المَثَل "الفقير فقير وإنْ لبس ثوباً من ذهب"، فكفانا كبرياءَنا وحمايةَ مصالحنا، وعن أناس سرقوا قوت المهجَّرين وربما أحياناً يُمنح الفقير والشاهد جرعةً مسمومة للتخلّص من شكواه وصراخه ليبقى الفاسد متربّعاً على عرش الدنيا المزيَّف بسندٍ ودعمٍ وحمايةٍ من كبار الدنيا ومن أجل تجارة المصالح، وننسى أن ننظر إلى يسوع الحي الذي علّمنا وسار أمامنا ليرشدنا إلى طريق الحقيقة في "مقاسمة الفقراء والخطأة" (متى11:9) وشهود الحقيقة مسيرتهم.

 

فما أكثر الذين يتراكضون وراء المال الحرام على حساب الأيتام والأرامل، والمهجَّرين والنازحين، الذين يفتشون عن إمتيازات ليست من حقهم وليست مكتوبة بأسمائهم، بينما الشاهد والفقير يبحثان عن لقمة عيش ومكان آمن ليستقرا فيه داخل الوطن وخارجه. أين الضمير الذي يسمع نداء واستغاثة الشاهد؟ أين النخوة المسيحية التي تشهد لحقيقة الإيمان؟... فإنني حتى اليوم كنتُ أفتخر بوطني وبشعبي، وإنني أخاف لعلّني أكون من الذين يخجلون حتى من جوازاتهم، فأكون لاجئاً، فلا آذان تسمع الحقيقة، ولكن بدلاً منها نجد أيادي تحضن الفاسدين ليس إلا!. إن أشد الأخطار هو أن يتخلّى المسيحيون عن رسالتهم وشهاداتهم التي يمكن إيجازها بالإبتعاد عن الصليب ومسيرته، ويهملون آيات الإيمان والصبر والرجاء حتى تنقضي هذه الأيام السوداء. فلا يمكن للمسيحيين أن تزول مسيحيتهم إذا أرادوا لها ذلك، فالمعبد مع الوطن ومع كل مواطن، وهي ليست لحاكم أو نظام، مرتفع فوق الجميع، ومهمته ربط كل شيء بالمسيح الحي.

 

فما نحتاجه أن نتعامل بالضمير وليس بالمنصّات والمنابر، والتهديد والوعيد، بالغيرة والكذب، ولا يجوز أن يكون رجال المعابد والعاملين فيها تابعين لأحزاب أو حركات أو جمعيات لغاية أو لغايات، فلننتبه هناك مصالح عديدة تُمَرَّر، ومخططات بين ظهرانينا وخلف شخوصنا، فلنكفّ عن تقطيع بعضنا البعض وزرع بذور الطائفية المقيتة، ومَن لا يستطيع فعل شيء في هذا المجال عليه أن لا يكون حجر عثرة في طريق المسيرة والإيمان، ومَن بإمكانه أن يعمل فليعمل لأجل شعبنا المظلوم، والإصطفاف معه إنْ كان شخصاً مستقلاً أو حركةً سياسية أو منظمة كباراً كانوا أم صغاراً، فلا يوجد في التاريخ إلا مَن يدخل التاريخ، ولا يفتخر المعبد إلا بأشخاص أخضعوا ذواتهم شهادة للحقيقة من أجل الشعب البائس.

 

إنتبهوا، أقول، لا تشوّهوا صورة الأصيل والمواطن البريء وإبن شعبكم، بل إسمحوا له بتحقيق وجوديته وإنسانيته فهو اليوم مرهون، كما أن صورته مرهونة بعدة عوامل وبعدد من الأسباب ومن أجل غايات، واعملوا أن يحلم بمستقبل ينقله من حالة يائسة وبائسة إلى كرامة إنسانيته ليكون حراً مستقلاً، فهو الركيزة الأساسية، وكلنا أبناء هذا الشعب الجريح، فلا يمكن بعدُ أن تكون الطائفية أو العشائرية أو المحسوبية هي مَن تحمي شعبنا، فلا يجوز أبداً أن يكون الإنسان شاهدَ زور، فمن هنا يبدأ الفساد وهنا تبدأ الخطيئة... إنها مرحلة حاسمة.

 

نعم، إنها دعوة كي نداوي إنشطارنا، كي لا تخيّبنا عواقبه بعد أن نكون قد ضيّعنا مسار طريقنا بانتماءاتنا المختلفة لمصالح متعددة منها كبريائية وأنانية، فالإنقسامات للمسيحيين ما هي إلا خسارة فادحة واضطهاد من أنفسنا لشعبنا، و"أعداء الإنسان أهل بيته" (متى36:10). فلنفتح أعيننا للمسيح الحي وليس لمسيح التاريخ والثقافة فقط، فإذا ما كان لنا إيمان عميق به سنرى كل شيء قد تغيّر بقوته ونعمته وبشهادتنا الحقة.

 

 

الخاتمة

 

ختاماً... فاليوم أبناء شعبنا ليسوا جائعين إلى الخبز، وليسوا عطاشى إلى الماء، بل إلى سماع كلمات السماء إذ يقول:"كونوا واحداً كما نحن واحد" (يوحنا21:17) لأنني أُدرك أن سبب ضعف المعبد في شرقنا ووطننا حاجتها إلى المسيح الضائع منها. فكل إنسان يشتكي ويصرخ من ظلم وقع عليه ويلوم الله على كل شيء، والحقيقة إننا محتاجين أن نعود إلى المسيح بحقيقة الخلاص والشهادة التي تعلّمناها، فشعبنا يتقوى ويمتلئ رجاءً وشجاعة عندما نرى أشخاصاً يحبون ويجسّدون إيمانهم حتى النهاية.

 

فشعبنا صليبنا، وعلينا حمله بكل فرح وإيمان وليس كسمعان القيرواني جبراً ومصلحةً، فأنتم لا تستعطون شيئاً من أحد حينما تطالبون بحقوق شعبكم. فكفانا نقطّع بعضنا البعض، وان كنّا ضحية السياسات الفاسدة، لنعمل من أجل عودتنا الكريمة وبناء سهلنا وديارنا ومعابدنا، وتلك رسالة ووصية الأجداد في أن "لا نخاف" (متى28:10). فإنْ كان شعبنا مظلوماً فلأنكم حافظتم على فسادكم ومصالحكم وغاياتكم ومناصبكم. فلا تبيعوا شعبكم وأرضكم لأنكم أمراء الديرة، بل كونوا خدّاماً لبناء الأديار، ولا تكن أسماءكم في الحصاد ومنجلكم مكسور، وأيضاً لا تنزلوا إلى المعركة وأنتم غير مسلّحين بإيمان الإنسانية والوطنية والمسيحية وليس أكثر من ذلك حيث أنتم خدّام ولستم تجّار، فلا تعملوا لبيع أوطانكم وشعبكم، فأنتم للكلّ لتكونوا مع الكلّ وليس غير ذلك، والرب يحمي الجميع.