موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
لقيتها طفلة صغيرة لم تزل في مهدها ناحلة الجسد، هزيلة القَوام تغفو في سرير من الحصى، وتدّثر بفراش من التّراب، وتسند رأسها إلى وسادة خشناء من الحجارة، وكانت الرّيح حملت بذرتها من بعيد وألقت بها في هذا المكان النّائي قرب شجرة زيتون قديمة من غرس أبي أتنشّق في أنفاسها نفحات عرَق أولئك الأُصَلاء الشّرفاء من آبائنا الّذين "غرسوا فأكلنا ونغرس فيأكلون"!. وقد بان الشّيب في فَوْديها، وابيضّت به ذوائبها مع تطاول الأعوام. فرحَتْ الطّفلة، وهشّتْ، وعادت إليها روحها إذ رأتني، لكنّها لحظة اقتربت منها تقبّضتْ، وتوجّست بي شرًّا..! تبسّمتُ وتلطّفتُ لها، حنوت عليها ولامست شعر رأسها وقد املاسّ تحت قطر النّدى، فأفرخ روعها واطمأنّتْ! شكت لي أن ليلًا ضريرًا يمرّ فوقها كلّ ليلة في ذهابه وإيابه ويطؤُها بقدميه فتستفيق مذعورة وتصرخ! وكم مرّة هوت الرّيح بأجنحتها عليها من فوقُ ثقيلةً، وقد رماها صيّاد بسهمه، وألقت على جسدها وشاحًا ثقيلًا من برد وصقيع! مدّت يديها إليّ فحملتها بين ذراعيّ وغرستها في حديقة منزلي، أرعاها، وأتعهّدها بالحرث والسّقي، فأخذت تكبر يومًا بعد يوم، ولم يمضِ عامان حتّى غدت بين أشجار المنزل غادة حسناء ترتدي ثوبًا أخضر هفهافًا، وتزدان بقامة فارعة تشرئبّ برأسها إلى العلاء اختيالًا، وتدلّ على شموخ وإباء، وعزم وجلَد..! وكم كانت سعادتها أنّ الطّير تقصدها كلّ صباح وتقف على كتفيها، تمكث قليلًا ثم تغادرها، وتعقبها فراشات تتلفّع بخيوط زاهية منوّعة الألوان خاطتها يد الشّمس في العلاء، منقّطة برضاب النّدى، تمكث لحظات ترفرف فوقها وتسافر.!
سألتني ذات مرّة لــِمَ تُغدق عليّ بهذا العطف والحنان دون كلّ جاراتي من الشّجرات المثمرات! وأنا عاقر لا أثمر ممّا تأكل.! قلتُ : ما أَخلقَكِ بعطفي وحناني .. بل أنت أكثر شجراتي ثمرًا، وأشهاهنّ طعامًا ! فما نظرتُ إليك إلاّ رأيت قطوف المواعظ دانيةً من أغصانك، وعناقيد الخُطب يانعةً تتدلّى على فروعك، وحبّات المحبّة زاهيةً تتهدّل تحت أفنانك، وما أُحَيْلاكِ تستقبلين بها أضيافي معي كلّ يوم..! أنت يا أُخيّة لا تبدّلين ثوبًا بثوب يومًا، ولست من المرائين وناكري المعروف، بل يبقى لونك واحدًا لا يتغيّر! كما أنّك ترعَين حقّ وطنك هنا عليك، إذ تقيمين طويلًا في حديقة هذا المنزل ولا ترحلين! كان هنا من الشّجرات أكبر منك سنًّا ودّعن ورحلن ولم يصبرن على عوادي الدّهر وعثرات الأيّام! أمّا أنت فباقية لا تتزعزعين أمام ريَب الفصول، لا يبدّلك شتاء ولا يغيّرك خريف..! لهذا أحبّك وأُجِلّك، لأنّك أمثولة الثّبات وحكاية البقاء فوق الوطن منذ قديم الحقب، وكم أُكبِر فيك ما حباك الله من وقار وسكينة وشمم! إذ لستِ قصبة حمقاء يستخفّك الطّرب حين تناغيك الرّيح برشفة من خمرتها، ويدبّ دبيبها في مفاصلك، فتتأوّدين وتتمايلين، ويغيب رشدك على شدو البلبل وعندلة الهزار...!
أنت سليلة أمّة خضراء كانت كسَتْ جبال بلادي ووهادها قبل أن يكسوها الشّوك والعوسج..! يا ابنة الجليل! ويا أخت الغار وشقيقة النّرجس! ماذا بقي لنا من الأوطان غير أنّها غدت في نعوش نتحلّق حولها، ونبكيها، ونحثو التّراب على رؤوسنا لفقدانها، ونسير وراءها كلّ يوم في الجنازات! أيّتها الحسناء الفاتنة! ليت كلّ أبناء الوطن من سلالتك سنديان يكسونه ثوبًا أخضر! لقد هجروه وهم فيه! حزّوا عنقه فما سفكوا غير دمائهم! شربوا دمه فعطشوا..! وأكلوا لحمه فجاعوا..! ما رأيتك مرّة تنحنين أمام عاصفة، ولا ترتعدين من صاعقة، ولا تقوى عليك السّيول الجارفة، ولا تنكسرين تحت جبال الثّلوج..بل تبقَين معنا في القمم قمّةً في عشق الأوطان. ويا بُشراك! إنّ ذاكرة الجبال تشهد على فضلك وحنينك إلى رفقائك وأحبّائك من أجدادنا الرّاقدين تحت أضلعنا الّذين تحملين خصالهم وأصالتهم، أولئك الّذين عصروا الصّخر بأيديهم فانبثق النّور، وأضاؤوا به أكواخهم يوم عنّاهم العطش والجوع في تلك العهود الغابرة...
أحبّك مذ لقيتك طفلة غريرة، لأنّني أحبّ الأطفال على أجناسهم وألوانهم وأعراقهم.. وما أعظَمَكم يُعظّمكم السيّد المسيح له المجد حين قال "دَعُوا الأوْلَادَ يَأْتُونَ إِلَيَّ وَلَا تَمْنَعُوهُمْ لِأَنَّ لِمِثْلِ هَؤُلَاءِ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ..".
أحبّ الحياة طفلة طاهرة تلد أمًّا لا تبرح طفولتها، وتقيم معها في قلبها وعقلها، تحنو على أبنائها من بني البشر، وتُنفِّض غبار العصور عن ثيابها من عداوات وحروب وتقاليد وعادات صنعتها الأرض لا السّماء، كما تُلقي السّيف من يدها، وتمنع الدّمع عن وجنتيها، وتبدّد ظلمة الأحزان في قلبها، وتجمع فراخها تحت جناحيها على المحبّة والعدل والسّلام في هذا العالم.
أحبّ الكلمة الخالدة حبّة خردل صغيرة تنمو وتكبر في رحم القلم، حتّى تسقط من لسانه على الأرض دوحة سلام ومحبّة وعدل بين الشّعوب، وتكون أغصانها تاجًا على هامة الدّنيا ليأكل النّاس من ثمراتها ولا يجوعون!
أحبّ الحُلم رضيعًا يُخفي في سريره عاصفة رعناء لا يردّها اللّجام، ويغدو غلامًا ثمّ يكبر فارسًا يمتطيها ليصرع على صهوتها التّنّين، ويدقّ سنابكَها فوق القمم!
أشتهي المحبّة في صدور النّاس ومضة قلب تشعّ في مهدها قبسًا ضئيلًا لا تطفئه ريح، وتغدو في كلّ قلب شمسًا وهّاجة تُبدّد بنورها ظلام الصّدور من حقد وحسد وبغضاء في هذا العالم.
ابنة الجليل! لقد هجَرتِ البشرية طفولتَها منذ آماد بعيدة، وقد استحال العالم مغارة مظلمة تزدحم الشّياطين وأجناد الشرّ الرّوحيّة في أكنافها الواسعة! ليت هذا العالم يعود طفلاً طاهرًا، وتستحيل مغارته مذودًا يأتي إليها المجوس من أقاصي الأرض، ويحملون إليه الذّهب واللّبان والمرّ، وهنالك يبشّر الملائكة الرّعاة بمجيء ملك السّلام من جديد، ليبعث المحبّة دمًا يجري في عروق النّاس، ويعيدهم أطفالًا أبرياء رغم كلّ هيرودس في هذا العالم!