موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الثلاثاء، ٢٧ أغسطس / آب ٢٠٢٤

سلام المسيح... أم عنف السيف!

بقلم :
المونسنيور بيوس قاشا - العراق
المونسنيور بيوس قاشا، راعي كنيسة السريان الكاثوليك في بغداد

المونسنيور بيوس قاشا، راعي كنيسة السريان الكاثوليك في بغداد

 

إن الدفاع عن الحياة ومقاومة جميع قوى الاضطهاد والموت والحروب والقتل والكذب والفساد وأخرى مثلها تشكّل موضوعاً أساسياً في الديانة المسيحية وفي الإنجيل المقدس. وما قام به الرب يسوع في إقامته للعازر من القبر ودخوله إلى الهيكل حيث وجد فيه الباعة والصيارفة اعتبره رؤساء الكهنة وكبار الزمن عصياناً وهم لم يدركوا حقيقة اعتبارهم، بينما عمل المسيح ما كان إلا عملاً جريئاً.

 

نعم، إن الحياة قاسية وصعبة، وهي في نظر العديد من البشر ليست أكثر من الموت النهائي والذي يُخضع الناس لنير الجوع والحرب والجهل والتخلّف وحبّ الأنا والتملّك، وفي هذا ويا للأسف يبدو أن العالم يجري هكذا، وكم صعب علينا وعلى عقولنا أن نتنازل عن هذا القول فأصبحت في ذلك مسألة الموت هي الأولى والأخيرة، وانحرفت الحياة وأصبحت القيامة معها حدثاً عابراً.

 

ورغم هذا كله فالمسيح مهّد لنا الطريق نحو السماء فقد قال "جعلتُ لكم من نفسي قدوة" (يو13:13-15). لذا فالإنسان بحاجة إلى النزول من درجته ومن كرسيه من خلال مقاومته للظلم والحرب والفساد والأنانية وهذا ما يتطلب عقل الإيمان.

 

فما نراه اليوم نقول: هل انحرف المعبد ورجاله الكبار من مساره الإنجيلي وليس له إلا أن يقابل "العين بالعين والسنّ بالسنّ" (متى 38:5-48)؟ ونسأل: هل وهب رجال المعبد وفاءهم لإله الحرب المزيف وللظلم القاتل وللموت المميت؟ هل أصبح لهم إله الحياة والقيامة بعيداً عن مسار حياتهم ودعوتهم ولم يعودوا رجال محبة وسلام واللاعنف؟ هل أصبحوا رجال موت وقتل وعنف ومصلحة؟ فالتعامل بالمثل سيء للغاية والرب يقول:"باركوا لاعنيكم" (متى 43:5). وقد قال يوماً أحد كبار المعبد لأحد كبار جنوده بعد خلافه مع أحد من جنوده الصغار "مَن لا يريدنا ولا يحبنا، لا نريده ولا نحبّه" وكأنه في هذه الجملة أصبح يقول أن ذلك سلاحاً فتّاكاً ولا يشكّل إلا الضمانة الوحيدة لنجاحنا، وبالتالي ألا نعترف بفشلنا هذا بدل نجاحنا؟ وإلى متى هذا الأسلوب اللامسيحي؟

 

نعم، إن أزمة المعبد ليس بجديدة، وعدد قليل من رجالها كباراً وصغاراً تجرّأ للوقوف بوجه العنف، وسمحوا لهذا أن يعمل ويكون كما وأصبح هو المجال الأكيد للظلم والحرب والموت، إذ لزم الرجال الصمت أمام سيطرته وتغلغله في قلوبهم، وبات العنف جزءاً لا يتجزّأ من مسيرة حياتهم، وأسوأ من ذلك أنهم أصبحوا يتعايشون معه برضى وقبول تامَّين، وأصبحوا في سلام مع الحرب والظلم كما أصبحوا يتكيّفون من أجل غاياتهم ومآربهم، والحقيقة يجدر بهم جميعاً أن يقرّوا بفشلهم فهم ليسوا إلا مرضى وإنْ كانوا أصحاء الجسد وبسببهم مرضت البشرية وأصبحت ربما على شفير العنف أيضاً والظلم عندما تستسلم لإرادة العالم والشيطان والعنف، وأصبحت لا رجاء لها ولا أمل. رغم أن الله دائماً يدعو هذا الإنسان إلى التحلّي برؤية أشمل واعتبار كل إنسان أخاً وأختاً له من خلال أنه ابن الله "الذي أفاض الحياة فينا" (يو4:1) لأن الحقيقة تتطلب أن نعيش ضمن حدود اللاعنف والمحبة للآخر وحتى للأعداء (متى 44:5)، وهذا يعني أن الرب وجّه دعوة لنا للخروج من ثقافة العنف والموت ورفع الحجر الكبير المتسلّط على قلب الإنسان والانطلاق نحو عالم السلام بدل عالم العنف، وهنا يكون الإيمان بالقيامة الحل الأمين للإنسان لأن القيامة انبعاث جديد لتحرير الإنسان من عالم الظلم والسلطات والتي فقدت قوّتها وهدفها. وزالت لدغة الموت بقيامة المسيح، وبها أصبح الإنسان يرفض العنف الناتج عن أي نوع من الثقافات لأنه خُلق من أجل الحياة. فلا الموت له سلطان على الإنسان لأن الإنسان أصبح ابن القيامة، وهذا هو الاكتشاف الجديد كي يدخل الإنسان في عالم السلام الجديد عبر حرية الحب.

 

فللمعبد ولرجاله دور عظيم في رفع الظلم، وما عليهم إلا المناداة بالخروج إلى الحياة وجعل كل شخص يعيش بحرية معتبرين أن الله أبو الجميع، فالوصية تقول "لا تقتل" (متى 21:5) هي وصية مطلقة وهي تعلّمنا أن المسيح حينما ختم حياته بالموت على الصليب علّمنا الغفران وعدم التعامل بالمثل إذ قال:"اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون" (لو34:23) فلا نحاول أن نتخطّى الكذب بالكذب بل بالحقيقة، وأن لا نغلب اللعنات باللعنات بل بالصمت وبكلمات تعبّر عن المحبة والصداقة. فالمرض لا يُغلَب بالمرض بل بالصحة والدواء، لذا يُطلب من رجال المعابد أن يغلبوا الغضب بالوداعة، والتكبّر بالتواضع، ولا يجوز مقابلة الشرّ بالشرّ "فذلك من الشيطان" (متى 37:5) وقد جاء على فم المسيح لبطرس إذ قال "أردد سيفكَ إلى مكانه، لأن كل الذين يأخذون بالسيف، بالسيف يهلكون" (متى 52:26).

 

وفي ذلك نقول: ليس هدف الله السيطرة بل الحياة. فالرب يسوع كشف لنا حياة جديدة وهي حياة اللاعنف، حياة الغفران، حياة عدم التعامل بالمثل، وهذا ما يتطلّب منّا أن نعمل من أجل خلاص الإنسان وترك التعامل بالمثل من أجل غاية الحياة. فالمسيح ترك لنا جميعاً علامات وهي أن الله دافع ولا زال يدافع عن هذه الحياة التي ستنتصر عبر المحبة، وبقيامته على شيطان الموت. وهذا ما يجعل المسيح في نزاع عنيف ومستميت مع الموت الأبدي لأنه "جاء ليشفي المرضى ويمنح النظر للعميان ويحرّر الأسرى ويخلّص الفقراء ويُشبع المساكين ويدعو الناس إلى عيش الحياة وبعين الرحمة" (لو18:4) فقد كان رحوماً بعمله هذا مناهضاً للموت ومُبدعاً للسلام ومُحبّاً للكل ولا حدود لمحبته، وبذلك انتصر على قوى الموت والظلام والفساد والهلاك والأشرار.

 

لذا نقول: قد حان وقت رجل المعبد لكي نسمّيه صانع سلام مع جنوده وإخوته وأخواته، مع جيرانه وكلامه، فما يطلب منهم الإنجيل في غاية الوضوح وما عليهم إلا تلبية أوامر معلّمهم الإلهي ليقوموا بواجباتهم تجاه الألم والظلم والموت، ومع الأسف أنهم يبقون على تجارة الديانة الكبيرة بمسارها والتي تُحجب نظرهم من أجل إهلاك فقراء هذا العالم. ما هذا الهوس؟ ما هذا عدم التصديق فيما يتعلق بفشلهم؟ إنه ضد النظام والسيطرة والمصلحة العامة من دون أن يدركوا ذلك. وفي عملنا هذا نجعل المسيح صادقاً أو غير صادق، فالحرب والظلم ليسا الحاجة الضرورية فالمشكلة مؤلمة عندما يُنظَر إلى الإيمان واللاعنف على أنهما جنون. لذا علينا أن نتسلّح بالشجاعة والحقيقة لأن الرب يدعونا إلى الخروج من قبو حياتنا نحو حياة أعدّها لنا ويدعونا إليها لعيشها. فملكوت الله هو الحياة، وعلى الإنسان أن يرفض التواطؤ وثقافة الموت، فالحياة قصيرة ولكنها مضمونة بقيامة الرب. فلقد رفض يسوع العنف ولا يمكن أن يقبل أن ندافع عن الظلم باستخدام العنف وهذا ما جعل رؤساء الكهنة يقيّدونه ويضيّقون عليه إذ كان يعلن أن ملكوت الله يرفض ممارسة العنف أو الاعتماد عليه، فما ذلك إلا أمر ممنوع.

 

نعم، يسوع اليوم يواجه ثقافة الموت والظلم والمصلحة والأنانية وحب الذات عبر التعاليم التي منحها لكنيسته وليست لمعبدنا ولنا والذي نحن نسيّره كما نشاء، فنحن وكلاء "وعلى الوكيل أن يكون أميناً" (لو 13:16). فالإنسان مدعوّ إلى متابعة المسيرة، ومسيرته لا تعني شيئاً إلا إذا ارتبطت بتعاليم معلّمه عبر قيامته المجيدة والتي لا تعني وجوداً جديداً وحسب بل ونهاية الظلم والجشع والأنا، فإنها رؤية ونظرة تتخطيان عقولنا البشرية والضعيفة التي يصعب فهمها إلا عبر إيماننا. فالمسيح لا يوقّف حركة السلام والعدل اللتين يريدهما.

 

فلننتبه كي لا نكون مُلكاً للشرير ونحن نحسب أنفسنا أهلاً وهذا ما لا نستحقه كي لا نعمل على توقيع عقد مع الشرير لأنه خائب مَن بقي في القبر دون أن يعرف حاجات جنوده، وأن لا يعاملهم كما يشاء بل بروح المسيح والحب الذي أوصانا به، لأنه بذلك يفقد الأمل في إرجاعهم إلى حظيرة الخراف. فكبار الزمن والدنيا والمعبد ما هم إلا مدعوون إلى عيش ملء الحياة، لذلك عليهم أن يذهبوا ليعملوا في حقل سيدهم من أجل المحتاج لكي يرفضوا ثقافة الموت والظلم وليس أن يناموا دون صلاة وإلى ساعات متأخرة من نهارهم وإنما يعملوا دائماً على عيش الحياة والحياة الحُرّة الكريمة بالمسيح الرب وليس كما يشاء كبارهم وإن كانت طاعتهم واجباً إذا كانوا في خط الإيمان الصحيح وأمناء على دعوة الرب، فسلام الرب غير عنف السيف... نعم وآمين.