موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٢ يناير / كانون الثاني ٢٠٢١

سر التجسد هو سر الإفخارستيا المستمر

بقلم :
الراهب بولس رزق الفرنسيسكاني - مصر
زمن الميلاد، زمن الحب والتنازل، زمن عمل الله مع البشر بطريقة فريدة

زمن الميلاد، زمن الحب والتنازل، زمن عمل الله مع البشر بطريقة فريدة

 

في البَدءِ كانَ الكَلِمَة والكَلِمَةُ كانَ لَدى الله والكَلِمَةُ هوَ الله. كانَ في البَدءِ لَدى الله. بِه كانَ كُلُّ شَيء وبِدونِه ما كانَ شَيءٌ مِمَّا كان." (يو 1/1-3). هذا النشيد كان يردده مسيحي أفسس في القرن الأول أثناء الصلاة.

 

ونحن نعيش في زمن الميلاد زمن الحب والتنازل زمن عمل الله مع البشر بطريقة فريدة. نتأمل سر التجسد الذي هو إعلان محبة الله المجانية للبشرية، لكي يعطينا فرصة جديدة بالإتحاد معه، وكما يقول قداسة البابا بندكتوس السادس عشر" رفض الإنسان أن يقبل وجوده وكمال حياته من الله وعندما يقدم بذلك يثق بالكذب بدل الحقيقة، ويلقي حياته في الفراغ، في الموت. الخطية شوهت البشرية أي جرح في العلاقة بين الله والإنسان ولكن محبة الله هي أساس كل شيء النعم والعطايا." وبتجسد يسوع المسيح أسس فينا فردوس أي أسس سر الإفخارستيا الذي يبقي مدى الدهر بحضوره في سطنا. حملت مريم العذراء الكلمة المتجسد في أحشائها وأصبحت أول بيت قربان في العالم يجول على جبال اليهودية يبشر بالخلاص. ونحن نحمل في داخلنا يسوع المسيح  عندما نتاول سر القربان الأقدس. والإفخارستيا هي كالنار التي تحرق الخطية وتقودنا نحو القداسة. الله سيد التاريخ ومصدره يدخل في التاريخ، أي يدخل في الزمان والمكان من خلال سر التجسد وبسر الإفخارستيا يمكث معنا "ها انا معكم طول الأيام" ورغبة التلاميذ عماوس هي "امكث معنا يارب". بتجسد المسيح صار هناك  حدًا فاصلاً للتاريخ، لقد نال التاريخ معناه الحقيقي بتجسد المسيح.

 

إِنَّ اللهَ ما رآهُ أَحدٌ قطّ " (يو 1/18): بالتجسد أصبح الله قريبًا جدًا للإنسان وبسر الإفخارستيا اتحد مع الإنسان. وبميلاده جعل العالم خليقة جديدة تلتف حوله من السماء والأرض وهذا ما حدث في مغارة بيت لحم، الملائكة تُسبحة والمجوس يقدمون له الهدايا، وبالقداس الإلهي نتناول جسده و دمه، ونجعل من  قلوبنا مغارة ومسكنًا له ونكون خليقة جديدة ونشارك مع تسبحة الملائكة:" قدوس قدوس قدوس". وبالميلاد فتح لنا بابًا لكي نتحد به ونعود إلى الحالة الأولى.

 

لقد أتى المجوس وقدموا هداية للطفل يسوع، والتلاميذ مجتمعين معه في العلية. وعندما نسجد ليسوع ونستقبله في سر القربان الاقدس نقدم له قلوبنا كما قدم المجوس الهداية. ونحمل البشرى السارة كما حملها الملاك للرعاة "ولد لكم اليوم...".

 

الإفخارستيا هي درب السماء بل السماء في حد ذاتها، تنازل الله ليشاركنا في ضعفنا البشري ويتحد بالإنسان وعندما نصلي في القداس الإلهي نقول: اجعلنا كلنا مستحقين يا سيدنا إن نكون جسدا واحدًا وروحًا واحدًا. وبدون سر القربان الأقدس لا نستطيع أن نعيش سر الاتحاد معه. الطوباوي كارلو يقول: "إن المسيح ينزل في كل مرة في سر الإفخارستيا يحتفل معنا"  في كل مرة نحتفل بالقداس الإلهي.

 

سر التجسد هو سر الحب غير متناهي الذي اعلنه الله للبشرية، وفي سر القربان الأقدس يكون التلاقي مع يسوع والاتحاد معه وتبدأ الملكوت الحاضر على الأرض. الله يكشف جوهره وكيانه لنا  ويقول قداسة البابا بندكتوس السادس عشر: "إن الميلاد يساعدنا على ادراك أهمية الحياة البشرية منذ اللحظة الأولى لتكوينها حتى الممات". وسر الميلاد يساعدنا في المسيرة الأرضية ويكون لنا رفيق كي لا نشعر بأننا غرباء ولكن مع يسوع في سر القربان الأقدس يقودنا نحو السماء بل نحن في السماء.

 

التجسد هبَه من الله لنا ومجانية، وليست من مستلزمات الطبيعة، فالتجسد مرتبط  بارادة الله الحرة والمعلنة لنا بالوحي الإلهي، والطوباوي يوحنا دونذو إسكوت:" غاية التجسد الاساسية هي لست تجديد البشرية وعلاجها من الخطية وانما هي تتويج الخليقة بالكلمة المتجسده". ومع حبه لنا يمكث معنا إلى مدى الدهر بحضوره في القربان المقدس ويكون غذاء لنا في الطريق الوعرة.

 

سر الميلاد هو إعلان أسلوب ومنهج الله لخلاص الجنس البشري، وأسلوب حياة جديدة وهو تعبير عن الحب الحقيقي، وهذا الحب يستمر معنا في سر الافخارستيا، ويعطينا قوة. والكنسية تحيا بهذا السر العظيم لأنها منبع الحياة المسيحية. ومن المغارة إلى العلية هي مسيرة حب الله بين البشر، وعطية الله ذاته لنا في سر القربان المقدس.

 

القربان المقدس هو عربون الحياة الأبدية ومن خلال كلماته المقدسة على فم  اشعياء النبي القائل: "أيها العطاش جميعًا هملوا إلى المياه والذي ليس له فضة تعالوا اشتروا وكلوا هلموا اشتروا بلا فضة وبلا ثمن خمرا ولبنًا" (أش 55: 1). العالم كله يحتاج أن يرتوي من المياه الحي أي يسوع المسيح مخلص العالم.

 

بالميلاد تنازل الله واتخذ جسدنا بحضوره المنظور في مغارة بيت لحم أي بيت الخبز وفى حضوره السري في العلية قدم نفسه خبزًا للحياة الأبدية " خذوا كلوا هذا هو جسدي". ويقول السيد المسيح» شهوةً اشتهيت أن آكل هذا الفصح معكم قبل أن أتألم «(لو 15:22). ذبيحة عبور حقيقية من العالم إلى الآب ومن الموت إلى القيامة، بجسده الذي »يُكسر «ليتم به العبور. هنا فصح حقيقي يشتهيه العالم ويشتهيه كل إنسان، لذلك اشتهى المسيح أيضاً نيابةً عن كل إنسان أن يأكل هذا الفصح الحقيقي مع تلاميذه قبل أن يتألم حتى لا يعبر وحده! اشتهى أن يحقِّق للعالم أن يكون لكل إنسان عبور إلى الآب معه، وكما كان في العهد القديم ينظرون المخلص هكذا الله يعود بنا الى الآب. التجسّد هو الله الذي يعيش بابنه حياة الإنسان لكي يعيش الإنسان، في الوقت نفسه، حياة مع الله.