موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأربعاء، ٢٢ سبتمبر / أيلول ٢٠٢١

خَواطرٌ حول "الحَسَد"

بقلم :
د. أشرف ناجح عبد الملاك - كولومبيا
خَواطرٌ حول "الحَسَد"

خَواطرٌ حول "الحَسَد"

 

سؤالٌ يبحث عن جوابٍ: العصفورُ والغِرْبان

كان هنالك عصفورٌ سعيدٌ ومتفرّدٌ،

وكان متعدّد الألوان والخصائل الحميدة،

ويحلّق فَرِحًا ومنفردًا ومغرّدًا في الأعالي،

ويسبّح خالقَه وخالقَ الكون.

ولكنَّ الغِرْبان– قبيحة الشكل والقلب– جاءت يومًا فأحاطت بالعصفور،

مطالبةً إياه– بإصرار وبشتّى الطرق– أنْ يكفّ عن التحليق والتغريد والتسبيح؛

وكانت حجّتهم في ذلك هي أنّ الفضاء هو مُلْكٌ لهم وحدهم،

ولا ثمّة مكانٌ له في هذا الفضاء الحصريّ.

تُرى لماذا تطالب الغِرْبان بأنْ يتوقّف هذا العصفور عن التحليق والتغريد والتسبيح؟

أليس العصفورُ جزءًا من خليقة الخالق أيضًا؟

ولماذا لا تركّز الغِرْبان في اكتشاف أبعاد رسالتها بدلًا من تعطيل رسالة العصفور المُقْتاد بنعمة الخالق وفضله؟

 

المغرورُ والحاقدُ والقاتلُ المساكين

في يوم من الأيّام، اجتمع مغرورٌ وحاقدٌ وقاتلٌ،

واتّفقوا معًا على أنْ يصف كلّ واحد منهم ماهيّته وشخصيّته،

وأنْ يبدأ وصفه بكلمة "مسكين".

فرفع المغرورُ المتكبّر رأسه قائلًا:

مسكينٌ ذاك الدِّيك الذي يظنّ أن الشمس تشرق بفضل صياحه وموسيقته.

وقال الحاقدُ الحاسد:

مسكينٌ ذاك المرء الذي ينشغل بمحاولة هدم منازل الآخرين العالية، حتّى لا تعلو على منزله المنخفض،

بدلًا من الاجتهاد في تشييد منزله والصعود به نحو الأعالي.

ويخيّل له أنّه بالنميمة والثرثرة في الخفاء يتفوّق على شخصيّة الآخرين، وينال من نجاحهم.

وأَرْدَفَ القاتلُ الغادر:

مسكينٌ مَن لم يتعلّم بعدُ الدرسَ من قَايِين قاتل أخيه،

فلقد ماتت هويّته بمجرد موت غيريّة أخيه هَابِيل،

وقد سقطت أُخُوَّته وإنسانيّته سقوطًا ذريعًا حينما غدر بأخيه الموهوبِ غدرًا، وأسقطه أرضًا.

 

 

المَحبَّةُ لا تَحسُدُ

ربّما للردّ على السؤال الذي طُرح أعلاه، ولإيجاد الدافع الكامن وراء ما يشعر به بعضُ الأشخاص ويعيشونه تجاه إخوتهم البشر، يمكن استعمال تعبير "حَسَد".

فلماذا قتل قَايِين أخيه هَابِيل؟ أجل، من جرَّاء الحَسَد (تك 4/ 1-8).

ولماذا حاول إخوة يوسف التخلّص من أخيهم؟ أجل، من جرَّاء الحَسَد (تك 37/ 3-4).

ولماذا صَلَب ثُلَّةٌ من اليهود يسوعَ الناصريّ، أخيهم في البشريّة والديانة؟ أجل، من جرَّاء الحَسَد (مر 15/ 10).

إنّها قِصّة كلّ "عصفور" (هَابِيل، ويوسف، ويسوع)، وتحدث في كلّ الأزمنة والأماكن. فيُطَارَد العصفور الموهوب مِن قِبَل الغِرْبان الحاقدين والحاسدين، لا لشيء إلّا لتغريده المنفرد والفريد، ومُتَاجَرَته بوَزَناته، وتَنْمِيَة مَواهِبه، وقيامه برسالته وخدمته. ولكنَّ هذا العصفور الأمين سينجو بمعونة الله ونعمته مِن المُطارَدات والمُضَايقَات كلّها، وسيزيد أكثر فأكثر (معنى اسم يوسف)، وسينجو ويخلص (معنى اسم يسوع).

لقد وَصَف قداسةُ البابا فرنسيس ماهيّة "الحَسَد"، شارحًا عبارة "المَحبَّة لا تَحسُدُ" الموجودة في النشيد المُسَمّى "نشيد المحبّة"، الذي كتبه القدّيس بولس (1 كو 13/ 1-13)، على هذا النحو:

«يتم بالتالي رفض ذاك الموقف الذي يخالف المحبّة، الذي يعبّر عنه في المصطلح zelos (الغيرة أو الحسد). ممّا يعني أنّه في الحبّ لا مجال للشعور بالاستياء بسبب الخير المتأتّي للآخر (را. رسل 7، 9؛ 17، 5). الحسد هو الحزن للخير الذي يحصل عليه الآخرون مما يدلّ على أننا لسنا مهتمين بسعادة الآخرين، لأنّنا نركّز بشكل حصري على المصلحة الذّاتيّة. في حين أن الحبّ يُخرجنا من ذواتنا، ويقودنا الحسد إلى التركيز على الـ "أنا". الحبُّ الحقيقيّ يقدّر نجاحات الآخرين، ولا يعتبرها كأنها تهديد، ويتحرّر من طعم الحسد المرّ. يقبل أنّ يكون لكلّ شخص مواهب مختلفة وطرق متعدّدة في الحياة. ويحرص بالتّالي على اكتشاف طريقه الخاصّ ليكون سعيدًا، تاركًا الآخرين يجدونها هم أيضًا. في نهاية المطاف إنها مسألة تتميم ما تتطلّبه الوصيتان الأخيرتان من وصايا الله: "لا تَشتَهِ بَيتَ قَريبِكَ: لا تَشتَهِ امرَأَةَ قَريِبكَ ولا خادِمَه ولا خادِمَتَه ولا ثَورَه ولا حِمارَه ولا شَيئاً مِمَّا لِقَريبِكَ" (خر. 20، 17). يقودنا الحبّ إلى تقديرٍ صادق لكل كائن بشريّ، معترفين بحقّه في السعادة. أنا أحبّ هذا الشّخص، فأنظر إليه بنظرة الله الآب، الَّذي يُغْنِينَا بكُلِّ شَيءٍ "لِنَنْعَمَ بِهِ" (1 طيم 6، 17)، وبالتّالي أقبل في داخلي أنّه بإمكانه أن ينعم بلحظات سعيدة» (البابا فرنسيس، الإرشاد الرسوليّ ما بعد السينودس "فرح الحبّ"، بندان 95-96).

 

إنْ لم يتّسع قلبي وعقلي بَعدُ

إنْ لم يتّسع قلبي الصغير وعقلي المحدود،

رغم التقلّبات المستمرّة في مشاعري وأحاسيسي، واختلافاتي الجائزة في الأراء والأفكار،

ليشملا ويحتضنا -نظريًّا وعمليًّا- الكلَّ (قريبًا أو بعيدًا، وصالحًا أو طالحًا، وإنسانًا أو حيوانًا أو نباتًا)،

فأنا لستُ بعدُ محِبًّا وقدّيسًا وكاملًا؛

لأنّني لستُ بعدُ ابنًا للمحبّة الشاملة والمحتضنة للجميع.

وأخشى ما أخشاه أنّني لستُ بعدُ مقيمًا -بالقدر الكاف- في ثالوث الله،

فأنا لم أصِل بعدُ لأنْ أكون حقًّا ابنًا للآب وأخًا للمسيح وهيكلًا للروح القدس؛

فإنّ "اللّهَ مَحبَّة" (1 يو 4/ 4-8، 16)، وحيث توجد المحبّة يوجد الله مثلّث الأقانيم.