موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
النَّص الإنْجيلي (لوقا 2: 22-40)
22 ولـمَّا حانَ يَومُ طُهورِهما بِحَسَبِ شَريعَةِ موسى، صَعِدا بِه إِلى أُورَشَليم لِيُقَدِّماه لِلرَّبّ، 23كما كُتِبَ في شَريعةِ الرَّبِّ مِن أَنَّ كُلَّ بِكرٍ ذَكَرٍ يُنذَرُ لِلرَّبّ، 24ولِيُقَرِّبا كما وَرَدَ في شَريعَةِ الرَّبّ: زَوْجَيْ يَمَامٍ أَو فَرخَيْ حَمام. 25وكانَ في أُورَشَليمَ رَجُلٌ بارٌّ تَقيٌّ اسمُه سِمعان، يَنتَظرُ الفَرَجَ لإِسرائيل، والرُّوحُ القُدُسُ نازِلٌ علَيه. 26وكانَ الرُّوحُ القُدُسُ قد أَوحى إِلَيه أَنَّه لا يَرى الموتَ قَبلَ أَن يُعايِنَ مَسيحَ الرَّبّ. 27فأَتى الـهَيكَلَ بِدافِعٍ مِنَ الرُّوح. ولـمّا دَخَلَ بِالطِّفلِ يَسوعَ أَبَواه، لِيُؤَدِّيا عَنهُ ما تَفرِضُه الشَّريعَة، 28حَمَله عَلى ذِراعَيهِ وَبارَكَ اللهَ فقال:29((الآنَ تُطلِقُ، يا سَيِّد، عَبدَكَ بِسَلام، وَفْقاً لِقَوْلِكَ 30فقَد رَأَت عَينايَ خلاصَكَ 31الَّذي أَعدَدَته في سبيلِ الشُّعوبِ كُلِّها 32نُوراً يَتَجَلَّى لِلوَثَنِيِّين ومَجداً لِشَعْبِكَ إِسرائيل)). 33وكانَ أَبوه وأُمُّهُ يَعجَبانِ مِمَّا يُقالُ فيه.34وبارَكَهما سِمعان، ثُمَّ قالَ لِمَريَمَ أُمِّه: ((ها إِنَّه جُعِلَ لِسقُوطِ كَثيرٍ مِنَ النَّاس وقِيامِ كَثيرٍ مِنهُم في إِسرائيل وآيَةً مُعَرَّضةً لِلرَّفْض. 35وأَنتِ سيَنفُذُ سَيفٌ في نَفْسِكِ لِتَنكَشِفَ الأَفكارُ عَن قُلوبٍ كثيرة)).36وكانَت هُناكَ نَبِيَّةٌ هيَ حَنَّةُ ابنَةُ فانوئيل مِن سِبْطِ آشِر، طاعِنَةٌ في السِّنّ، عاشَت مَعَ زَوجِها سَبعَ سَنَواتٍ 37ثُمَّ بَقِيَت أَرمَلَةً فَبَلَغَتِ الرَّابِعَةَ والثَّمانينَ مِن عُمرِها، لا تُفارِقُ الـهَيكَل، مُتَعَبِّدَةً بِالصَّومِ والصَّلاةِ لَيلَ نَهار. 38فحَضَرَت في تِلكَ السَّاعَة، وأَخَذَت تَحمَدُ الله، وتُحَدِّثُ بِأَمرِ الطِّفلِ كُلَّ مَن كانَ يَنتَظِرُ افتِداءَ أُورَشَليم. 39ولَـمَّا أَتَمَّا جَميعَ ما تَفرِضُه شَريعَةُ الرَّبّ، رَجَعا إِلى الجَليل إِلى مَدينَتِهِما النَّاصِرة. 40وكانَ الطِّفْلُ يَتَرَعَرعُ ويَشتَدُّ مُمْتَلِئاً حِكمَة، وكانت نِعمةُ اللهِ علَيه.
مُقدِّمة
انفردَ الإنجيليُّ لوقا في سردِ روايةِ تقدمةِ الطفلِ يسوعَ للهِ في الهيكلِ (لوقا 2: 22-4-)، حيثُ يصفُ مدى أمانةِ مريمَ ويوسفَ لشريعةِ الرّبِّ التي تنصُّ: "كُلُّ بِكرٍ مِن بَنيكَ تَفْديه" (خروج 13: 13). وفي الهيكلِ، التقيا بسِمعانَ الشّيخِ، آخرِ أنبياءِ العهدِ القديمِ، الذي حَيّا مجيءَ المخلِّصِ وكشفَ لأبويهِ بعضَ ملامحِ شخصيّةِ يسوعَ ورسالتهِ في تضامنهِ مع البشريّةِ. كما يؤكِّدُ الرّسولُ بولسُ قائلًا: "فلمّا تمَّ الزَّمانُ، أرسلَ اللهُ ابنَهُ مَولودًا لامرأةٍ، مَولودًا في حُكمِ الشّريعةِ، ليفتديَ الذينَ هم في حُكمِ الشّريعةِ، فنحظى بالتبنّي" (غلاطية 4/ 4-5).
وتزامنًا مع هذا العيدِ، أرادَ القدِّيسُ البابا يُوحَنَّا بولسُ الثاني، وابتداءً مِن عامِ 1997، أن يُحتَفَلَ في الكنيسةِ كلِّها بيومِ الحياةِ المُكرَّسةِ، التي هي لقاءٌ حيٌّ مع الرّبِّ. وفي الواقعِ، إنَّ تقدمةَ يسوعَ هي نَموذجٌ لكلِّ رجلٍ وامرأةٍ يُكرِّسانِ حياتَهما بكاملِها للرّبِّ. ومن هنا تكمنُ أهمِّيَّةُ البحثِ في وقائعِ النَّصِّ وأبعادِهِ الرُّوحِيَّةِ.
أولا: وقائع النص الإنجيلي وتحليله (لوقا 2: 22-40)
22 ولـمَّا حانَ يَومُ طُهورِهما بِحَسَبِ شَريعَةِ موسى، صَعِدا بِه إِلى أُورَشَليم لِيُقَدِّماه لِلرَّبّ،
تشيرُ عبارةُ "طُهورِهما" إلى تطهيرِ الأمِّ والطّفلِ، في حينِ وردتْ في بعضِ المخطوطاتِ قراءةٌ ثانيةٌ، وهي "طهوره"، التي تتعلَّقُ بتطهيرِ الابنِ، أو "طهورها"، التي تتعلَّقُ بتطهيرِ الأمِّ فقط وليسَ الابنِ. إنَّ الشريعةَ تتناولُ الأمَّ في قولِها: "أَيَّةُ اَمرَأَةٍ حَبِلَتْ فَوَلَدَتْ ذَكَراً تَكونُ نَجِسَةً سَبعَةَ أَيَّامٍ، كَأَيَّامِ طَمْثِها تَكونُ أَيَّامُ نَجاسَتِها، وفي اليَومِ الثَّامِنِ تُختَنُ قُلفَةُ المَولودِ، وثَلاثَةً وثَلاثينَ يَوماً تَظَلُّ في تَطْهيرِ دَمِها. لا تَمَسُّ شَيئاً مِنَ الأَقْداسِ ولا تَدخُلُ المَقدِسَ، حتَّى تَتِمَّ أَيَّامُ طُهرِها" (أحبار 12: 2-4). وكانتِ المُدَّةُ بينَ الولادةِ ويومِ التَّطهيرِ أربعينَ يوماً، أو ثلاثةً وثلاثينَ يوماً بعدَ الختانِ. وكانتِ الأمُّ تُحسَبُ قبلَ نهايةِ تلكَ المدَّةِ نجسةً، أي غيرَ جائزٍ لها أنْ تدخُلَ الهيكلَ. ومن هذا المنطلَقِ، بعدَ ختانِ المسيحِ، انتظرتْ مريمُ يومَ تطهيرِها، إذ تُحسَبُ المرأةُ في الشريعةِ نجسةً حينَ تلدُ، لأنَّها وَلَدَتْ ابناً يحملُ خطايا أبويهِ ومحكومٌ عليهِ بالموتِ، والموتُ نجاسةٌ. وعندَ تمامِ الأربعينَ يوماً منَ الميلادِ، حملتْ الطّفلَ يسوعَ وصعدتْ بهِ إلى الهيكلِ لتتطهَّرَ، وذلكَ قبلَ مجيءِ المجوسِ، لأنَّ يوسفَ ذهبَ بالصَّبيِّ يسوعَ من بيتِ لحمٍ. أمَّا عبارةُ "أُورَشَليمَ" فتشيرُ هنا إلى الهيكلِ في أُورَشَليمَ، حيثُ جاءَ الأبوانِ يوسفُ ومريمُ بيسوعَ ليقدِّماهُ للرَّبِّ. فظهرَ يسوعُ طِفلاً هنا في الهيكلِ، حيثُ استقبلهُ سمعانُ الشّيخُ وحنَّةُ النَّبيَّةُ (لوقا 2: 46)، ثمَّ عادَ إلى الهيكلِ أثناءَ رسالتهِ العلنيَّةِ ليطردَ الباعةَ من الهيكلِ ويُعلِّمَ فيهِ: "دَخَلَ الهَيكلَ فأَخَذَ يَطرُدُ الباعَةَ ويقولُ لهم: مَكتوبٌ: سَيَكونُ بَيتي بَيتَ صَلاةٍ، وأَنتُم جَعَلتُموهُ مَغارَةَ لُصوص! وكانَ يُعَلِّمُ كُلَّ يَومٍ في الهَيكَل" (لوقا 19: 45-47). أمَّا عبارةُ "شَريعَةِ" في الأصلِ اليونانيّ (νόμος) الواردِ في الترجمةِ السبعينيَّةِ، والمشتقِّ من التَّعبيرِ العبريّ "תוֹרַה" (توراه)، فتشيرُ إلى "تعليمٍ" أعطاهُ اللهُ للبشرِ في سبيلِ سلوكِهم. وينطبقُ أوَّلًا على المجموعةِ التَّشريعيَّةِ التي ينسبُها تقليدُ العهدِ القديمِ إلى موسى. فهناكَ ثَمَّةُ توصياتٌ خُلُقيَّةٌ، تبرزُ خاصَّةً في الوصايا العشرِ (خروج 20: 2-17، تثنية 5: 6-21)، تُذكِّرُ بمطالبِ الضَّميرِ البشريِّ الأساسيَّةِ، كما أنَّ هناكَ قواعدَ قانونيَّةً، موزَّعةً في مجموعاتٍ عديدةٍ، تُرتِّبُ العملَ بنُظُمِ المعاملاتِ المدنيَّةِ (الأسريَّةِ، والاجتماعيَّةِ، والاقتصاديَّةِ، والقضائيَّةِ). وأخيراً، توصياتٌ خاصَّةٌ بالعبادةِ تُحدِّدُ كيفَ يجبُ أنْ تكونَ العبادةُ عند بني إسرائيلَ، في طقوسِها، وخدَّامِها، وشروطِ إقامَتِها (قواعدُ خاصَّةٌ بالتَّطهيرِ). واستناداً إلى هذا المعنى التَّقليديِّ في اليهوديَّةِ، يُطلَقُ العهدُ الجديدُ اسمَ "الشريعةِ" على النِّظامِ كلِّهِ، الذي كانَ هذا التَّشريعُ يُشكِّلُ الجزءَ الأساسيَّ فيهِ (رومة 5: 2)، تمييزاً لهُ عن تدبيرِ النِّعمةِ الذي أسَّسهُ يسوعُ المسيحُ (رومة 6: 15، يوحنَّا 1: 17). أمَّا عبارةُ "لِيُقَدِّماهُ لِلرَّبِّ" فتشيرُ إلى الشَّريعةِ التي تنصُّ على واجبَينِ: الأوَّلُ يتعلَّقُ بالأمِّ، والثاني بالطفلِ البكرِ، حيثُ إنَّ كلَّ فاتحِ رحمٍ في إسرائيلَ يُعتَبَرُ مُكرَّساً للهِ بسببِ إنقاذِ أبكارِ بني إسرائيلَ من مصرَ ليلةَ عيدِ الفصحِ، أي بوجوبِ كلِّ الأبكارِ أنْ يخدموا الرَّبَّ كهنةً (الخروج 13: 2). ثمَّ أُخذَ سبطُ لاوي بدلَ الأبكارِ كلِّهم لكي يكونوا كهنةً للهِ (عدد 3: 12). والطفلُ البكرُ كانَ يُفتَدى بذبيحةِ تقدمةٍ (عدد 18: 15). ويتحتمُ على الأمِّ أنْ تُقدِّمَ ذبيحتينِ: الأولى تقديمُ حملٍ للمحرقةِ، والثانيةُ تقديمُ يمامةٍ أو حمامةٍ تكفيراً عن الخطيئةِ (الأحبار 12: 6)، وهذا رمزٌ للمسيحِ الذي قدَّمَ نفسهُ بفدائهِ ذبيحةَ محرقةٍ ليُرضي الآبَ، وذبيحةَ خطيئةٍ ليرفعَ خطايا البشرِ. ولكنْ إنْ كانتِ الأمُّ فقيرةً، فيُمكنها أنْ تُقدِّمَ بدلَ الحملِ يمامتينِ أو حمامتينِ، عن طريقِ الكاهنِ الذي يُعلِنُ تطهيرَ الأمِّ، كما وردَ في سفرِ الأحبارِ: "فَإِنْ لَمْ يَكُنْ في يَدِها ثَمَنُ حَمَلٍ، فَلْتَأْخُذْ زَوْجَي يَمامٍ أَو فَرْخَي حَمَامٍ، أَحَدُهُمَا مُحرَقةٌ وَالآخَرُ ذَبِيحَةُ خَطِيئَةٍ، فَيُكَفِّرُ عَنْها الكَاهِنُ فَتَطْهُر" (الأحبار 12: 8). ويبيِّنُ لوقا الإنجيليُّ أنَّ مريمَ ويوسفَ ينتميانِ إلى عائلةِ فُقراءِ اللهِ، حيثُ إنَّهما قدَّما ذبيحةَ الفقراءِ، وهذا أيضاً تعبيرٌ عن تنازلِ المسيحِ لأجلِنا، كما جاءَ في تعليمِ بولسَ الرَّسولِ: "فَأَنتُم تَعلَمونَ جُودَ رَبِّنا يَسوعَ المَسيحِ: فَقَدِ افتَقَرَ لأَجْلِكُم وهوَ الغَنِيُّ لِتَغتَنوا بِفَقْرِهِ" (2 قورنتس 8: 9). فمريمُ، وإنْ عَجَزَتْ عن أنْ تُقدِّمَ للرَّبِّ خروفاً، قدَّمَتْ في الهيكلِ أفضلَ من ذلك، إذْ قدَّمَتْ "حَمَلَ اللهِ" الذي يرفعُ خطيئةَ العالمِ.
23 كما كُتِبَ في شَريعةِ الرَّبِّ مِن أَنَّ كُلَّ بِكرٍ ذَكَرٍ يُنذَرُ لِلرَّبّ،
تشيرُ عبارةُ "كُلَّ بِكرٍ ذَكَرٍ يُنذَرُ لِلرَّبِّ" إلى الواجبِ الثَّاني الذي تنُصُّ عليهِ الشَّريعةُ، وهو فِداءُ البِكرِ في شعبِ اللهِ، حيثُ إنَّ كُلَّ ذَكَرٍ فاتحِ رحمٍ يُدعَى مُقدَّسًا للرَّبِّ، لأنَّ البكرَ خاصٌّ للهِ، كما جاءَ في شريعةِ موسى: "قَدِّسْ لي كُلَّ بِكْرٍ، كُلَّ فاتِحِ رَحِمٍ مِن بَني إِسرائيلَ، مِنَ النَّاسِ والبَهائِمِ، إِنَّهُ لي" (خروج ١٣: ١)، ووفقاً لهذه التوصيةِ، فإنَّ البِكرَ يُفدَى دائمًا، كما وردَ: "كُلُّ بِكرٍ مِن بَنيكَ تَفْدِيهِ" (خروج 13: 13). وكانَ فِداءُ البِكرِ يتمُّ بدفعِ خمسةِ مثاقيلَ فضَّةٍ خلالَ الشَّهرِ التَّالي للولادةِ، كما جاءَ في الكتابِ: "كُلُّ فاتِحِ رَحِمٍ مِن جَميعِ البَشَرِ، مِنَ النَّاسِ والبهائِمِ، يُقَرَّبُ لِلرَّبِّ، ولكنَّكَ تَفتَدي بِكرَ الإِنسانِ، وتَفتَدي بِكرَ البَهيمَةِ النَّجِسَةِ. وأَما فِداؤُهُ فمِنَ ابنِ شَهرٍ، تُقَوِّمُهُ خَمسَةَ شَواقِلِ فِضَّةٍ" (عدد 18: 15-16). وكانَ واجبُ الوالدَينِ أنْ يُقدِّما فِديةً عن الابنِ الأوَّلِ، اعترافًا بانتماءِ الطِّفلِ إلى اللهِ القادرِ وحدَهُ على أنْ يَهبَ الحياةَ، وكذِكرى لما فعلهُ اللهُ في زمنِ الخروجِ حينَ نجَّى أبكارَ اليهودِ (خروج 13: 11-16). أمَّا عبارةُ "بِكرٍ" في الأصلِ اليونانيِّ διανοῖγον μήτραν (معناها فاتحُ رحمٍ)، فتشيرُ إلى أوَّلِ وَلَدٍ للأبوَينِ. ولا يُطالَبُ أبكارُ المسيحيِّينَ بتقديمِ الفِديةِ، لأنَّهم بواسطةِ المسيحِ صاروا كهنةً، كما وردَ: "أَمَّا أَنتُم فَجِنسٌ مُختارٌ، كَهنوتٌ مَلَكيٌّ، أُمَّةٌ مُقدَّسةٌ، شَعبٌ مُقتَنًى" (1 بطرس 2: 9). أمَّا عبارةُ "يُنذَرُ لِلرَّبِّ" في الأصلِ اليونانيِّ ἅγιον τῷ κυρίῳ κληθήσεται (معناها "سَيُدعى للرَّبِّ قدُّوسًا")، فتشيرُ إلى تخصيصِ البِكرِ وتفريغِهِ لعبادةِ الرَّبِّ وخدمتِهِ تعالى، كما وردَ في الكتابِ: "قَدِّسْ لي كُلَّ بِكرٍ، كُلَّ فاتِحِ رَحِمٍ مِن بَني إِسرائيلَ، مِنَ النَّاسِ والبَهائِمِ، إِنَّهُ لي" (خروج 13: 2). ويبدو أنَّ طقوسَ تقديمِ المولودِ الجديدِ إلى اللهِ في الهيكلِ لم تكنْ مُستخدمةً على نطاقٍ واسعٍ في زمنِ يسوعَ، إذ لم يُشرِ الكتابُ المقدَّسُ أو المصادرُ التاريخيَّةُ إلى ممارستِها بشكلٍ مُنتظمٍ في ذلكَ الوقتِ. ومع ذلكَ، فإنَّ العائلةَ المقدَّسةَ، المُتمسِّكةَ بتعاليمِ الشَّريعةِ الموسويَّةِ، حرصتْ على تقديمِ يسوعَ إلى الرَّبِّ بحسبِ الشَّريعةِ، كما هو مذكورٌ في إنجيلِ لوقا: "وَلَمَّا تَمَّتْ أَيَّامُ طُهُورِهِمَا، حَسَبَ شَرِيعَةِ مُوسَى، صَعِدُوا بِهِ إِلَى أُورُشَلِيمَ لِيُقَدِّمُوهُ لِلرَّبِّ" (لوقا ٢: ٢٢).
24 ولِيُقَرِّبا كما وَرَدَ في شَريعَةِ الرَّبّ: زَوْجَيْ يَمَامٍ أَو فَرخَيْ حَمام.
تُشيرُ عبارةُ "لِيُقَرِّبَا" إلى تقديمِ والِدَي يسوعَ ذَبيحةَ زَوْجَيْ يَمَامٍ أَو فَرْخَيْ حَمَامٍ لِكَي يَسْتَرِدَّاهُ. لَمْ يَكُنْ يَسُوعُ مُحْتَاجًا لِتَتِمَّةِ مَا تَطْلُبُهُ الشَّرِيعَةُ مِنْ خِتَانٍ وَفِدَاءٍ بِزَوْجَيْ يَمَامٍ أَو فَرْخَيْ حَمَامٍ، لَكِنَّهُ انْحَنَى بِإِرَادَتِهِ خَاضِعًا لِلشَّرِيعَةِ مِنْ أَجْلِنَا، كَمَا قَالَ بُولُسُ الرَّسُولُ: "فَكَمَا أَنَّهُ بِمَعْصِيَةِ إِنْسَانٍ وَاحِدٍ (آدَم) جُعِلَتْ جَمَاعَةُ النَّاسِ خَاطِئَةً، فَكَذَلِكَ بِطَاعَةِ وَاحِدٍ (المَسِيح) تُجْعَلُ جَمَاعَةُ النَّاسِ بَارَّةً" (رُومِيَة 5: 19). أَمَّا عِبَارَةُ "كَمَا وَرَدَ فِي شَرِيعَةِ الرَّبِّ" فَتُشِيرُ إِلَى طَاعَةِ وَالِدَي يَسُوعَ لِلشَّرِيعَةِ. وَيَتَحَدَّثُ لُوقَا الإِنْجِيلِيُّ لِيُتِمَّمَا مَا تَنْصُّ عَلَيْهِ الشَّرِيعَةُ. وَالنَّصُّ يُؤَكِّدُ عَلَيْهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ (لُوقَا 2: 22، 23، 24، 27) طَاعَةُ مَرْيَمَ وَيُوسُفَ لِشَرِيعَةِ الرَّبِّ. فَالطَّاعَةُ لِلشَّرِيعَةِ تُحَرِّكُ خُطُوَاتِ مَرْيَمَ وَيُوسُفَ نَحْوَ الهَيْكَلِ، وَبِذَلِكَ نَتَعَلَّمُ أَنَّنَا جَمِيعًا مَدْعُوُّونَ إِلَى طَاعَةِ الشَّرِيعَةِ – أَيِّ مَا يُنَظِّمُ حَيَاتَنَا. وَيُعَلِّقُ البَابَا فِرَنسِيس: "فَلَمْ يَذْهَبْ وَالِدَا يَسُوعَ قَسْرًا أَوْ كَيْ يَسْتَوْفِيَا مُجَرَّدَ وَاجِبٍ خَارِجِيٍّ؛ لَقَدْ ذَهَبَا اسْتِجَابَةً لِدَعْوَةِ اللهِ" (عِظَةُ البَابَا فِرَنسِيس احْتِفَالًا بِعِيدِ تَقْدِمَةِ الرَّبِّ إِلَى الهَيْكَلِ وَاليَوْمِ العَالَمِيِّ الثَّالِثِ وَالعِشْرِينَ لِلْحَيَاةِ المُكَرَّسَةِ، 2020). أَمَّا عِبَارَةُ "زَوْجَيْ يَمَامٍ أَو فَرْخَيْ حَمَامٍ" فَتُشِيرُ إِلَى تَقْدِمَةِ الفُقَرَاءِ كَمَا تَنْصُّ الشَّرِيعَةُ المُوسَوِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَتِ الأُمُّ فَقِيرَةً، فَيُمْكِنُهَا تَقْدِيمُ بَدَلِ الحَمَلِ يَمَامَتَيْنِ أَوْ حَمَامَتَيْنِ عَنْ طَرِيقِ الكَاهِنِ الَّذِي يُعْلِنُ تَطْهِيرَ الأُمِّ كَمَا وَرَدَ فِي سِفْرِ الأَحْبَارِ: "فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهَا ثَمَنُ حَمَلٍ، فَلْتَأْخُذْ زَوْجَيْ يَمَامٍ أَوْ فَرْخَيْ حَمَامٍ، أَحَدُهُمَا مُحْرَقَةٌ وَالآخَرُ ذَبِيحَةُ خَطِيئَةٍ، فَيُكَفِّرُ عَنْهَا الكَاهِنُ فَتَطْهُرَ" (الأَحْبَار 12: 8). وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ كِيرِلُّسُ الكَبِيرُ قَائِلًا: "إِنَّ اليَمَامَ أَكْثَرُ طُيُورِ الحَقْلِ جَلَبَةً وَضَوْضَاءً، بَيْنَمَا الحَمَامُ طَائِرٌ وَدِيعٌ هَادِئٌ. كَانَ الفَادِي يَسُوعُ كَذَلِكَ، فَقَدْ أَظْهَرَ لَنَا مُنْتَهَى اللُّطْفِ وَالرَّحْمَةِ، وَكَانَ أَيْضًا كَيَمَامَةٍ يَسِيرُ فِي كُلِّ مَكَانٍ لِيَمْلَأَهُ عَطْفًا وَرِقَّةً وَبَرَكَةً وَعَزَاءً".
25 وكانَ في أُورَشَليمَ رَجُلٌ بارٌّ تَقيٌّ اسمُه سِمعان، يَنتَظرُ الفَرَجَ لإِسرائيل، والرُّوحُ القُدُسُ نازِلٌ علَيه.
تُشيرُ عبارةُ "بارٌّ تَقِيٌّ" إلى رجلٍ حافظٍ فرائضَ شريعةِ موسى، ومجتهدٍ في القيامِ بكلِّ واجباتِه للهِ وللناسِ (أعمالُ الرسلِ 2: 5). أمَّا عبارةُ "سِمعان"، وهو الاسمُ العبريُّ שִׁמְעוֹן (ومعناهُ: مُستمعٌ)، فتشيرُ إلى سمعانَ الشيخِ، وهو رجلٌ تقيٌّ من سكانِ أُورَشَليم، الذي أُوحِيَ إليهِ الرُّوحُ القُدُسُ أنَّه لن يموتَ حتى يرى المسيحَ المُتجسِّدَ. ويُعَدُّ سمعانُ آخرَ نبيٍّ من العهدِ القديمِ، إذ كان الرُّوحُ القُدُسُ نازلًا عليه، فأعلنَ مجيءَ المُخلِّصِ، وكشفَ لأبويهِ رسالةَ المسيحِ عندما جاءا إلى الهيكلِ في أُورَشَليم ليُقدِّما فريضةَ الشريعةِ. ويعتقدُ البعضُ أنَّ سمعانَ هذا هو ابنُ هِليلٍ الرَّبَّانيِّ وأبو جَمْلائيلَ، مُعلِّمُ بولسَ (أعمالُ الرسلِ 5: 34). ويُعلِّقُ العلَّامةُ أُوريجانوسُ قائلًا: "اسمُ سمعانَ يعني المُستمعَ أو المُطيعَ، فيشيرُ إلى المؤمنينَ الطائعينَ من اليهودِ الذين طالَ بهمُ الزمنُ مترقِّبينَ تحقيقَ النبوَّاتِ للتمتُّعِ بذاكَ الذي هو مُشتهى الأُمم". أمَّا عبارةُ "الفَرَجَ لإِسرائيل" في الأصلِ اليونانيِّ παράκλησιν τοῦ Ἰσραήλ (فمعناها "تعزيةٌ لإِسرائيل")، وهي تشيرُ إلى خلاصِ إسرائيلَ كما وردَ في نبوءةِ أشعيا: "إِنِّي لِأَجْلِ صِهْيَونَ لا أَسكُتُ، ولِأَجْلِ أُورَشَليمَ لا أَهدَأُ، حتَّى يَخرُجَ كضِياءٍ بِرُّها، وكَمَشعَلٍ مُتَّقِدٍ خَلاصُها" (أشعيا 62: 1). والمسيحُ بخلاصِهِ هو تعزيةٌ لإسرائيل، حيثُ اعتقدَ اليهودُ أنَّ المسيحَ المُنتظرَ متى جاء يُعزِّيهم عن كلِّ بلاياهم. وهذهِ التسميةُ تتوافقُ مع تسميةِ بولسَ الرسولِ للمسيحِ "رَجاءَ إِسرائيلَ" (أعمالُ الرسلِ 28: 20). ولا شكَّ أنَّ المسيحَ هو أعظمُ تعزيةٍ لكلِّ الذينَ يعرفونهُ ويقبلونهُ، وهو الذي دعا نفسَهُ كذلكَ، ووعدَهم بإرسالِ مُعزٍّ آخرَ، وهو الرُّوحُ القُدُسُ (يوحنا 14: 16). أمَّا عبارةُ "الرُّوحُ القُدُسُ نازِلٌ علَيه" فتشيرُ، في لغةِ العهدِ القديمِ، إلى أنَّ سمعانَ نبيٌّ بسببِ نزولِ الرُّوحِ القُدُسِ عليهِ، كما جاءَ في الشريعةِ: "فَنَزَلَ الرَّبُّ في الغَمامِ وخاطَبَ موسى، وأَخَذَ مِنَ الرُّوحِ الَّذي علَيهِ وأَحَلَّهُ على الرِّجالِ السَّبعينَ، أَيِ الشُّيوخ. فَلمَّا استَقَرَّ الرُّوحُ عليهِم، تَنَبَّأُوا، إِلاَّ أَنَّهُم لم يَستَمِرُّوا" (عدد 11: 25). والجديرُ بالذكرِ أنَّ طاعةَ سمعانَ الشيخِ للرُّوحِ القُدُسِ وردتْ ثلاثَ مرَّاتٍ (لوقا 2: 25، 26، 27). فالرُّوحُ القُدُسُ هو مُحرِّكُ خُطواتِ سمعانَ للقاءِ المسيحِ المُنتَظَرِ، وهو الذي أتاحَ لسمعانَ تجاوزَ ما تراهُ عيونُ الجسدِ، لإدراكِ المعنى العميقِ للأحداثِ، ليرى الخلاصَ.
26 وكانَ الرُّوحُ القُدُسُ قد أَوحى إِلَيه أَنَّه لا يَرى الموتَ قَبلَ أَن يُعايِنَ مَسيحَ الرَّبّ.
تشير عبارة "أَوْحَى إِلَيْهِ" إلى الوَحْيِ دون الإشارة إلى طَرِيقِ الوَحْيِ، أَحُلْمًا كان ذلك، أَمْ رُؤْيَا، أَمْ صَوْتًا مَسْمُوعًا. وقد تَكَرَّرَ وَحْيُ الرُّوحِ القُدُسِ لِسِمْعَانَ الشَّيْخِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ (لُوقَا 2: 25-27). إنَّنا جَمِيعًا مَدْعُوُّونَ إلى طَاعَةِ الرُّوحِ القُدُسِ، الَّذِي يَصْنَعُ أُمُورًا جَدِيدَةً فِي حَيَاتِنَا. أَمَّا عِبَارَةُ "لا يَرَى المَوْتَ" فَتُشِيرُ إلى سِمْعَانَ الشَّيْخِ الَّذِي لا يَمُوتُ، كَمَا جاءَ في الكِتَابِ: "أَيُّ إِنْسَانٍ يَحْيَا وَلا يَرَى المَمَاتَ؟ وَمَنْ يُنَجِّي نَفْسَهُ مِنْ يَدِ مَثْوَى الأَمْوَاتِ؟" (مَزْمُور 89: 48). وَلَكِنَّ المَسِيحَ صَرَّحَ بِقَوْلِهِ: "الحَقَّ الحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: مَنْ يَحْفَظْ كَلامِي لا يَرَ المَوْتَ أَبَدًا" (يُوحَنَّا 8: 51). أَمَّا عِبَارَةُ "مَسِيحَ الرَّبِّ" فَتُشِيرُ إلى يَسُوعَ المَسِيحِ، الَّذِي وَعَدَ اللهُ بِهِ وَأَرْسَلَهُ وَمَسَحَهُ بِرُوحِهِ، كَمَا بَشَّرَ مَلَاكُ الرَّبِّ الرُّعَاةَ قَائِلًا: "وُلِدَ لَكُمُ اليَوْمَ مُخَلِّصٌ فِي مَدِينَةِ دَاوُدَ، وَهُوَ المَسِيحُ الرَّبُّ" (لُوقَا 2: 11). وَيَنْفَرِدُ لُوقَا فِي سَرْدِ هَذَا اللَّقَبِ فِي الأَنَاجِيلِ، وَيَدُلُّ هَذَا اللَّقَبُ عَلَى أَنَّ يَسُوعَ هُوَ المَسِيحُ، وَالَّذِي يُحْيِي بِمَا لِسِيَادَتِهِ المَلَكِيَّةِ مِنْ طَابِعٍ إِلَهِيٍّ، كَمَا جَاءَ فِي عِظَةِ بُطْرُسَ الرَّسُولِ الأُولَى: "فَلْيَعْلَمْ يَقِينًا بَيْتُ إِسْرَائِيلَ أَجْمَعُ أَنَّ يَسُوعَ هَذَا الَّذِي صَلَبْتُمُوهُ أَنْتُمْ، قَدْ جَعَلَهُ اللهُ رَبًّا وَمَسِيحًا" (أَعْمَالُ الرُّسُلِ 2: 36).
27 فأَتى الـهَيكَلَ بِدافِعٍ مِنَ الرُّوح. ولـمّا دَخَلَ بِالطِّفلِ يَسوعَ أَبَواه، لِيُؤَدِّيا عَنهُ ما تَفرِضُه الشَّريعَة،
تشير عبارة "فَأَتَى الهَيْكَلَ بِدَافِعٍ مِنَ الرُّوحِ" إلى الرُّوحِ القُدُسِ الَّذِي أَوْحَى إلى سِمْعَانَ أَنْ يَأْتِيَ إلى الهَيْكَلِ، وَرُبَّمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ أَنَّ إِنْجَازَ مَا وُعِدَ بِهِ يَكُونُ فِي ذَلِكَ الوَقْتِ. أَمَّا عِبَارَةُ "الهَيْكَلَ" فَتُشِيرُ هُنَا إلى فِنَاءِ النِّسَاءِ، حَيْثُ يُقَدَّمُ الأَوْلَادُ فِيهِ لِلرَّبِّ. أَمَّا عِبَارَةُ "أَبَوَاهُ" فَتُشِيرُ إلى يُوسُفَ وَمَرْيَمَ، بِالرُّغْمِ مِنْ أَنَّ لُوقَا الإِنْجِيلِيَّ رَكَّزَ عَلَى الحَبَلِ البَتُولِيِّ لِمَرْيَمَ بِيَسُوعَ، كَمَا جَاءَ فِي سُؤَالِ مَرْيَمَ: "فَقَالَتْ مَرْيَمُ لِلْمَلَاكِ: كَيْفَ يَكُونُ هَذَا وَلا أَعْرِفُ رَجُلًا؟" (لُوقَا ١: ٣٤). وَتَحَدَّثَ عَنْ يُوسُفَ كَأَبٍ شَرْعِيٍّ لِيَسُوعَ. وَقَدْ عَبَّرَ لُوقَا الإِنْجِيلِيُّ عَنْهُمَا بِالأَبَوَيْنِ جَرَيَانًا عَلَى مَا شَاعَ بَيْنَ عَامَّةِ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ، بَغْضِّ النَّظَرِ عَنِ الحَقِيقَةِ. أَمَّا عِبَارَةُ "لِيُؤَدِّيَا عَنْهُ مَا تَفْرِضُهُ الشَّرِيعَةُ" فَتُشِيرُ إلى الذَّبِيحَةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا أَبَوَا يَسُوعَ لِيُؤَدِّيَا الفِدَاءَ عَنْهُ، مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ يَسُوعَ لَيْسَ غَرِيبًا عَنَّا، بَلْ خَضَعَ لِلشَّرِيعَةِ، كَمَا جَاءَ فِي الكِتَابِ: "تُعْزِلُ لِلرَّبِّ كُلَّ فَاتِحِ رَحِمٍ" (خُرُوج 13: 12). بِالرُّغْمِ مِنْ أَنَّ يَسُوعَ لَمْ يَكُنْ مُحْتَاجًا لِلخِتَانِ وَلا لِلتَّطْهِيرِ بَعْدَ الوِلَادَةِ، فَهُوَ لَمْ يُولَدْ مِنْ زَرْعِ بَشَرٍ، وَلَمْ يَرِثْ خَطِيئَةً، وَهُوَ بِلَا خَطِيئَةٍ، لَكِنَّهُ أَكْمَلَ كُلَّ وَصَايَا الشَّرِيعَةِ لِيَكُونَ كَامِلًا بِحَسَبِ الشَّرِيعَةِ. فَقَدْ نَفَّذَ كُلَّ وَصَايَا الشَّرِيعَةِ وَالْتَزَمَ بِهَا، كَمَا قَالَ بُولُسُ الرَّسُولُ عَنْهُ: "فَلَمَّا تَمَّ الزَّمَانُ، أَرْسَلَ اللهُ ابْنَهُ مَوْلُودًا لِامْرَأَةٍ، مَوْلُودًا فِي حُكْمِ الشَّرِيعَةِ" (غَلَاطِيَّة 4: 4).
28 حَمَله عَلى ذِراعَيهِ وَبارَكَ اللهَ فقال:
تشير عبارة "حَمَلَهُ عَلَى ذِرَاعَيْهِ" إلى أَخْذِهِ بَيْنَ يَدَيْهِ وَحَمْلِهِ، زِيَادَةً لِيَقِينِهِ وَمَحَبَّتِهِ لَهُ وَسُرُورِهِ بِهِ. أَمَّا عِبَارَةُ "بَارَكَ اللهَ" فَتُشِيرُ إِلَى تَسْبِيحِ اللهِ وَشُكْرِهِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي المَزْمُورِ: "بَارِكِي الرَّبَّ يَا نَفْسِي" (مَزْمُور 103: 1)، أَيْ: أَحْمَدِي أَعْمَالَهُ، وَأَثْنِي عَلَيْهَا، وَمَجِّدِي الرَّبَّ مِنْ أَجْلِهَا. نَحْنُ أَيْضًا مَدْعُوُّونَ لِاسْتِقْبَالِ يَسُوعَ الَّذِي يَأْتِي لِلِقَائِنَا كَرَبِّ حَيَاتِنَا، فَإِنَّهُ يَحْيَا، وَيَحْيَا فِينَا.
29 الآنَ تُطلِقُ، يا سَيِّد، عَبدَكَ بِسَلام، وَفْقاً لِقَوْلِكَ
تشير عبارة "تُطْلِقُ، يَا سَيِّدُ، عَبْدَكَ" إلى مُطْلَعِ نَشِيدِ سِمْعَانَ الشَّيْخِ، حَيْثُ يُعْلِنُ الخَلَاصَ الَّذِي حَمَلَهُ يَسُوعُ إِلَى شَعْبِهِ وَإِلَى جَمِيعِ الأُمَمِ. وَبِمَا أَنَّ وَعْدَ اللهِ قَدْ تَحَقَّقَ، صَارَ سِمْعَانُ مُسْتَعِدًّا لِتَقَبُّلِ المَوْتِ بِفَرَحٍ وَابْتِهَاجٍ. وَقَدْ سَبَقَ وَسَمِعْنَا مِثْلَ هَذَا الكَلَامِ يَوْمَ اسْتَقْبَلَ يَعْقُوبُ ابْنَهُ المَفْقُودَ يُوسُفَ، قَائِلًا لَهُ: "دَعْنِي أَمُوتُ الآنَ، بَعْدَمَا رَأَيْتُ وَجْهَكَ، لِأَنَّكَ لا تَزَالُ حَيًّا" (التَّكْوِين 46: 30). وَيُذَكِّرُنَا ذَلِكَ بِمَا قَالَهُ البَابَا القِدِّيسُ يُوحَنَّا الثَّالِثُ وَالعِشْرُونَ: "عَلَيَّ أَنْ أَبْقَى دَائِمًا مُسْتَعِدًّا لِلْمَوْتِ حَتَّى فَجْأَةً، وَلِلْبَقَاءِ عَلَى قَيْدِ الحَيَاةِ طَالَمَا طَابَ ذَلِكَ فِي عَيْنَيِّ الرَّبِّ". وَذَلِكَ عَلَى خُطَى القِدِّيسِ مَرْتِينُس، الَّذِي "لَمْ يَكُنْ يَخْشَى أَنْ يَمُوتَ وَلَمْ يَكُنْ يَرْفُضُ أَنْ يَحْيَا". أَمَّا عِبَارَةُ "بِسَلَامٍ" فَتُشِيرُ إِلَى عَلامَةِ رِضَى اللهِ وَالاطْمِئْنَانِ فِي المُسْتَقْبَلِ. فَإِنَّ اللهَ لَا يُخَيِّبُ رَجَاءَ مَنْ يَتَّكِلُ عَلَى وَعْدِهِ، خَاصَّةً بَعْدَ مُشَاهَدَةِ المَسِيحِ بِعَيْنِ الإِيمَانِ فَادِيًا وَمُخَلِّصًا. أَمَّا عِبَارَةُ "وَفْقًا لِقَوْلِكَ" فَتُشِيرُ إِلَى الوَحْيِ الَّذِي وَرَدَ سَابِقًا: "كَانَ الرُّوحُ القُدُسُ قَدْ أَوْحَى إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا يَرَى المَوْتَ قَبْلَ أَنْ يُعَايِنَ مَسِيحَ الرَّبِّ" (لُوقَا 4: 26). وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ غِرِيغُورْيُوسُ النِّيزِيَنْزِي: "سِمْعَانُ انْطَلَقَ؛ لَقَدْ تَحَرَّرَ مِنْ عُبُودِيَّةِ الجَسَدِ. الفَخُّ انْكَسَرَ وَالطَّيْرُ انْطَلَقَ". دَلَّ سِمْعَانُ بِكَلَامِهِ أَنَّ حَيَاتَهُ كَانَتْ مَشَقَّةً، وَأَنَّ مَوْتَهُ رَاحَةٌ، وَإِنْ طَالَ عُمُرُهُ فَذَلِكَ لِمُجَرَّدِ مُشَاهَدَةِ المَسِيحِ. وَالآنَ وَقَدْ نَالَ مَا تَوَقَّعَهُ، لَمْ يَبْقَ لَهُ سِوَى الرَّحِيلِ إِلَى العَالَمِ الأَبَدِيِّ. لِذَلِكَ تَمَكَّنَ سِمْعَانُ مِنَ المُضِيِّ بِسَلَامٍ آنَذَاكَ، لِأَنَّهُ قَدْ رَأَى المَسِيحَ الرَّبَّ.
30 فقَد رَأَت عَينايَ خلاصَكَ
تشير عبارة "رَأَتْ عَيْنَايَ خَلَاصَكَ" إلى إِعْلَانِ سِمْعَانَ الخَلَاصَ عَلَى يَدِ يَسُوعَ، مُسْتَوْحِيًا مِنْ كَلِمَاتِ إِشَعْيَا النَّبِيِّ: "كَشَفَ الرَّبُّ عَنْ ذِرَاعِ قُدْسِهِ عَلَى عُيُونِ جَمِيعِ الأُمَمِ فَتَرَى كُلُّ أَطْرَافِ الأَرْضِ خَلَاصَ إِلَهِنَا" (إِشَعْيَا 52: 10) . يَسُوعُ هُوَ المَسِيحُ المُخَلِّصُ القَدِيرُ، كَمَا جَاءَ فِي نَشِيدِ زَكَرِيَّا وَالِدِ يُوحَنَّا المَعْمَدَانِ: "فَأَقَامَ لَنَا مُخَلِّصًا قَدِيرًا فِي بَيْتِ عَبْدِهِ دَاوُدَ" (لُوقَا 1: 69)، وَالَّذِي "يُخَلِّصُنَا مِنْ أَعْدَائِنَا وَأَيْدِي جَمِيعِ مُبْغِضِينَا" (لُوقَا 1: 71)، وَيُخَلِّصُنَا بِغُفْرَانِ خَطَايَانَا (لُوقَا 1: 77). وَيُعَلِّقُ البَابَا فِرَنسِيس قائلا: "يَرَى سِمْعَانُ الطِّفْلَ وَيَرَى الخَلَاصَ. إِنَّهُ لَا يَرَى المَسِيحَ يَقُومُ بِمُعْجِزَاتٍ، وَلَكِنْ طِفْلًا صَغِيرًا. إِنَّهُ لَا يَبْحَثُ عَنْ أَيِّ شَيْءٍ آخَرَ، وَلَا يَطْلُبُ شَيْئًا آخَرَ، تَكْفِيهِ رُؤْيَةُ الطِّفْلِ، فَهُوَ الحَيَاةُ، وَهُوَ الرَّجَاءُ، وَهُوَ المُسْتَقْبَلُ" (عِظَةُ البَابَا فِرَنسِيس، احْتِفَالًا بِعِيدِ تَقْدِمَةِ الرَّبِّ إِلَى الهَيْكَلِ، 2020). أَمَّا عِبَارَةُ "خَلَاصَكَ" فَتُشِيرُ إِلَى المَسِيحِ المُخَلِّصِ الَّذِي وَعَدَ اللهُ بِهِ وَأَرْسَلَهُ لِيَمْنَحَ الخَلَاصَ. فَالمَسِيحُ هُوَ خَلَاصُنَا، وَهَذَا الخَلَاصُ سَيُتَمِّمُهُ المَسِيحُ بِمَوْتِهِ عَلَى الصَّلِيبِ. وَلَمْ يُعْلَنُ هَذَا الخَلَاصُ صَرَاحَةً إِلَّا بَعْدَ القِيَامَةِ، كَمَا جَاءَ فِي الكُتُبِ المُقَدَّسَةِ: "تُعْلَنُ بِاسْمِهِ التَّوْبَةُ وَغُفْرَانُ الخَطَايَا لِجَمِيعِ الأُمَمِ" (لُوقَا 24: 47). وَلَكِنْ، مَنْ يَقْبَلُ المَسِيحَ المُخَلِّصَ؟ إِنَّ هَذَا الكَلَامَ الخَلَاصِيَّ يُوَاجِهُ المُعَارَضَةَ العَنِيفَةَ مِنْ قِبَلِ الَّذِينَ يَحْلُمُونَ بِمَسِيحٍ زَمَنِيٍّ، أَوِ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يُحَافِظُوا عَلَى مَصَالِحِهِمُ الشَّخْصِيَّةِ.
31 الَّذي أَعدَدَته في سبيلِ الشُّعوبِ كُلِّها
تشير عبارة "الَّذِي أَعْدَدْتَهُ فِي سَبِيلِ الشُّعُوبِ كُلِّهَا" إلى نُبُوءَةِ إِشَعْيَا: "كَشَفَ الرَّبُّ عَنْ ذِرَاعِ قُدْسِهِ عَلَى عُيُونِ جَمِيعِ الأُمَمِ فَتَرَى كُلُّ أَطْرَافِ الأَرْضِ خَلَاصَ إِلَهِنَا" (إِشَعْيَا 52: 10). لَمْ يَأْتِ يَسُوعُ لِيُخَلِّصَ اليَهُودَ فَقَطْ، بَلْ لِيُخَلِّصَ كُلَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، كَمَا جَاءَ فِي نَشِيدِ سِمْعَانَ الشَّيْخِ: "الَّذِي أَعْدَدْتَهُ فِي سَبِيلِ الشُّعُوبِ" (لُوقَا 2: 31). وَسِمْعَانُ الشَّيْخُ هُوَ أَوَّلُ مَنْ بَشَّرَ بِأَنَّ يَسُوعَ سَيَأْتِي بِالخَلَاصِ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ. أَمَّا عِبَارَةُ "الشُّعُوبِ كُلِّهَا" فَتُشِيرُ إِلَى البَشَرِ عُمُومًا، سَوَاءً كَانُوا وَثَنِيِّينَ أَمْ يَهُودًا.
32 نُوراً يَتَجَلَّى لِلوَثَنِيِّين ومَجداً لِشَعْبِكَ إِسرائيل.
تشير عبارة "نُورًا يَتَجَلَّى لِلْوَثَنِيِّينَ" إلى ذِكْرِ البِشَارَةِ بِخَلَاصِ الوَثَنِيِّينَ لِأَوَّلِ مَرَّةٍ فِي إِنْجِيلِ لُوقَا. وَهَذِهِ البِشَارَةُ تُلَمِّحُ إِلَى نُبُوءَةِ إِشَعْيَا: "أَنَا الرَّبُّ دَعَوْتُكَ فِي البِرِّ وَأَخَذْتُ بِيَدِكَ وَجَبَلْتُكَ وَجَعَلْتُكَ عَهْدًا لِلشَّعْبِ وَنُورًا لِلْأُمَمِ" (إِشَعْيَا 42: 6). يُعْلِنُ المَسِيحُ لِلْأُمَمِ أَنَّهُ طَرِيقُ الحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ بِدَمِ نَفْسِهِ. وَيُعَبِّرُ الكِتَابُ المُقَدَّسُ عَنِ الأُمَمِ فِي قَوْلِهِ: "الشَّعْبُ المُقِيمُ فِي الظُّلْمَةِ أَبْصَرَ نُورًا عَظِيمًا، وَالمُقِيمُونَ فِي بُقْعَةِ المَوْتِ وَظِلَالِهِ أَشْرَقَ عَلَيْهِمِ النُّورُ" (مَتَّى 4: 16)، وَالمَسِيحُ هُوَ "شَمْسُ المَعْرِفَةِ وَالبِرِّ لَهُمْ" (إِشَعْيَا 9: 3). وَلَنْ تُعْلَنَ البِشَارَةُ بِالخَلَاصِ صَرَاحَةً إِلَّا ابْتِدَاءً مِنْ وَحْيِ الفِصْحِ، كَمَا جَاءَ فِي (لُوقَا 24: 47): "تُعْلَنُ بِاسْمِهِ التَّوْبَةُ وَغُفْرَانُ الخَطَايَا لِجَمِيعِ الأُمَمِ". إِنَّ يَسُوعَ قَدْ جَاءَ لِيُخَلِّصَ كُلَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، سَوَاءً كَانَ يَهُودِيًّا أَمْ يُونَانِيًّا، كَمَا جَاءَ فِي تعليم بولس الرَّسول (1 قُورِنْتُس 12: 13). وَهَذِهِ هِيَ رِسَالَةُ يَسُوعَ. أَمَّا عِبَارَةُ "مَجْدًا لِشَعْبِكَ إِسْرَائِيلَ" فَتُشِيرُ إِلَى المَسِيحِ، الَّذِي هُوَ مَجْدٌ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، لِأَنَّهُمْ أُعْطُوا الوُعُودَ بِمَجِيئِهِ أَوَّلًا، وَالمَسِيحُ وُلِدَ مِنْهُمْ، وَعَلَّمَ وَعَمِلَ بَيْنَهُمْ مُعْجِزَاتِهِ، وَبَشَّرَهُمْ أَوَّلًا بِخَلَاصِهِ، كَمَا قِيلَ: "تُعْلَنُ بِاسْمِهِ التَّوْبَةُ وَغُفْرَانُ الخَطَايَا لِجَمِيعِ الأُمَمِ، ابْتِدَاءً مِنْ أُورُشَلِيمَ"(لُوقَا 24: 47). وَقَدْ حُجِبَ هَذَا المَجْدُ عَنْهُمْ وَقْتِيًّا، لأَنَّهُمْ رَفَضُوا مَسِيحَهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ سَيَقْبَلُونَهُ فِي نِهَايَةِ الأَيَّامِ، فَتَكُونُ آخِرَتُهُمْ مُمَجَّدَةً.
33 وكانَ أَبوه وأُمُّهُ يَعجَبانِ مِمَّا يُقالُ فيه.
تشير عبارة "يَعْجَبَانِ مِمَّا يُقَالُ فِيهِ" إلى عَدَمِ إِدْرَاكِ أَبَوَيِّ يَسُوعَ مِمَّا يُقَالُ فِيهِ، فَقَدْ قَالَ سِمْعَانُ إِنَّ يَسُوعَ هُوَ خَلَاصُ العَالَمِ، وَإِنَّهُ مَسِيحُ الرَّبِّ، وَإِنَّهُ نُورُ العَالَمِ. وَهَذِهِ هِيَ المَرَّةُ الثَّانِيَةُ الَّتِي تَسْمَعُ فِيهَا مَرْيَمُ العَذْرَاءُ نُبُوءَةً عَنْ ابْنِهَا. وَكَانَتِ المَرَّةُ الأُولَى عِنْدَمَا اسْتَقْبَلَتْهَا أَلِيصَابَاتُ كَأُمِّ الرَّبِّ، وَقَالَتْ لَهَا: "مُبَارَكَةٌ أَنْتِ فِي النِّسَاءِ وَمُبَارَكَةٌ ثَمَرَةُ بَطْنِكِ! مَنْ أَيْنَ لِي أَنْ تَأْتِيَ إِلَيَّ أُمُّ رَبِّي؟" (لُوقَا 1: 42-45). وَكَانَ ذَلِكَ تَحْقِيقًا لِمَا أَوْحَى بِهِ المَلَاكُ إِلَيْهَا قَائِلًا: "فَسَتَحْمِلِينَ وَتَلِدِينَ ابْنًا فَسَمِّيهِ يَسُوعَ. سَيَكُونُ عَظِيمًا وَابْنَ العَلِيِّ يُدْعَى، وَيُولِيهِ الرَّبُّ الإِلَهُ عَرْشَ أَبِيهِ دَاوُدَ، وَيَمْلِكُ عَلَى بَيْتِ يَعْقُوبَ أَبَدَ الدَّهْرِ، وَلَنْ يَكُونَ لِمُلْكِهِ نِهَايَةٌ" (لُوقَا 1: 32-33) . وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ يُوحَنَّا الذَّهَبِيُّ الفَمِ قَائِلًا: "إِذْ سَمِعَ يُوسُفُ وَالقِدِّيسَةُ مَرْيَمُ هَذِهِ التَّسْبِيحَةَ، كَانَا يَتَعَجَّبَانِ، لِأَنَّ مَا أَعْلَنَهُ لَهُمَا اللهُ عِنْدَ البِشَارَةِ صَارَ مُعْلَنًا لِسِمْعَانَ الكَاهِنِ وَالشَّيْخِ بِصُورَةٍ وَاضِحَةٍ." وَلَعَلَّ تَعَجُّبَ أَبَوَيْهِ كَانَ مِنْ قَوْلِ سِمْعَانَ بِأَنَّ الأُمَمَ سَيُشَارِكُونَ اليَهُودَ فِي الخَلَاصِ عِندَ مَجِيءِ المَسِيحِ.
34 وبارَكَهما سِمعان، ثُمَّ قالَ لِمَريَمَ أُمِّه: ((ها إِنَّه جُعِلَ لِسقُوطِ كَثيرٍ مِنَ النَّاس وقِيامِ كَثيرٍ مِنهُم في إِسرائيل وآيَةً مُعَرَّضةً لِلرَّفْض.
تشير عبارة "بَارَكَهُمَا" إلى سِمْعَانَ الشَّيْخِ، الَّذِي بَارَكَ العَذْرَاءَ مَرْيَمَ وَيُوسُفَ، أَيْ نَقَلَ البَرَكَةَ إِلَيْهِمَا وَطَلَبَهَا مِنَ الرَّبِّ لَهُمَا، كَمَا جَاءَ فِي (التَّكْوِين 49). وَلَكِنَّهُ لَمْ يُبَارِكِ المَسِيحَ، الَّذِي هُوَ يُبَارِكُ العَالَمَ كُلَّهُ. أَمَّا عِبَارَةُ "ثُمَّ قَالَ لِمَرْيَمَ أُمِّهِ" فَتُشِيرُ إِلَى سِمْعَانَ، الَّذِي عَلِمَ بِالوَحْيِ عَلاَقَةَ مَرْيَمَ بِيَسُوعَ، وَهِيَ أَنَّهَا أُمٌّ عَذْرَاءُ لَهُ. أَمَّا عِبَارَةُ "إِنَّهُ جُعِلَ لِسُقُوطِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ وَقِيَامِ كَثِيرٍ مِنْهُمْ فِي إِسْرَائِيلَ" فَتُشِيرُ إِلَى نَتِيجَتَيْنِ مُتَنَاقِضَتَيْنِ لِرِسَالَةِ يَسُوعَ. يَسُوعُ، الَّذِي هُوَ آيَةُ خَلَاصٍ، لَا يَفْرِضُ نَفْسَهُ، بَلْ هُوَ خَلَاصٌ مَعْرُوضٌ عَلَى سَامِعِيهِ، كَمَا تَنَبَّأَ إِشَعْيَا: "فَيَكُونَ لَكُمْ قُدْسًا وَحَجَرَ صَدْمٍ وَصَخْرَ عِثَارٍ لِبَيْتَي إِسْرَائِيلَ وَفَخًّا وَشَبَكَةً لِسَاكِنِي أُورُشَلِيمَ" (إِشَعْيَا 8: 14). وَلَكِنَّ قِسْمًا كَبِيرًا مِنْ إِسْرَائِيلَ يَرْفُضُهُ (أَعْمَالُ الرُّسُلِ 28: 26-28). إِذَنْ، السَّيِّدُ المَسِيحُ هُوَ حَجَرُ الزَّاوِيَةِ المُخْتَارُ الكَرِيمُ، الَّذِي أَقَامَهُ الآبُ فِي صِهْيَوْنَ، لِكَيْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ لَا يُخْزَى، كَمَا قَالَ بُولُسُ الرَّسُولُ: "فَقَدْ وَرَدَ فِي الكِتَابِ: هَاءَنَذَا وَاضِعٌ فِي صِهْيَوْنَ حَجَرًا لِلصَّدْمِ وَصَخْرَةً لِلْعِثَارِ، فَمَنْ آمَنَ بِهِ لَا يُخْزَى" (رُومَة 9: 33). وَلَكِنَّ مَنْ يَرْفُضُهُ سَيَتَحَطَّمُ، كَمَا قَالَ يَسُوعُ فِي مَثَلِ الكَرَّامِينَ القَتَلَةِ: "كُلُّ مَنْ وَقَعَ عَلَى ذَلِكَ الحَجَرِ تَهَشَّمَ وَمَنْ وَقَعَ عَلَيْهِ هَذَا الحَجَرُ حَطَّمَهُ" (لُوقَا 20: 18). وَتَنَبَّأَ يَسُوعُ عَنِ الانْقِسَامِ تِجَاهَهُ قَائِلًا: "أَتَظُنُّونَ أَنِّي جِئْتُ لِأُحِلَّ السَّلَامَ فِي الأَرْضِ؟ أَقُولُ لَكُمْ: لا، بَلِ الِانْقِسَامَ" (لُوقَا 12: 51-53). لكن طَوَّبَ يَسُوعُ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ: "طُوبَى لِمَنْ لَا أَكُونُ لَهُ حَجَرَ عَثْرَةٍ"(لُوقَا 7: 23). فلَا بُدَّ أَنْ نَقْبَلَ يَسُوعَ بِحُرِّيَّةٍ وَإِيمَانٍ. أَمَّا عِبَارَةُ "جُعِلَ" فَتُشِيرُ إِلَى صِيغَةِ المَجْهُولِ، أَيْ عَيَّنَهُ اللهُ. أَمَّا عِبَارَةُ "سُقُوطٍ وَقِيَامٍ" فَتُشِيرُ إِلَى هَلَاكِ البَعْضِ وَخَلَاصِ البَعْضِ الآخَرِ. فَقَدْ سَقَطَ الجَاحِدُونَ مِنَ اليَهُودِ لِرَفْضِهِمُ المَسِيحَ، وَقَامَ المُؤْمِنُونَ بِإِيمَانِهِمْ بِهِ. وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ أَمْبْرُوسْيُوسُ قائلا:" هُوذَا سِمْعَانُ يَتَنَبَّأُ بِدَوْرِهِ أَنَّ رَبَّنَا يَسُوعَ المَسِيحَ قَدْ جَاءَ لِسُقُوطِ وَقِيَامِ كَثِيرِينَ حَتَّى يُجَازِيَ أَعْمَالَ الأَبْرَارِ وَالأَشْرَارِ، وَيُعْطِي كُلَّ وَاحِدٍ حَسَبَ أَعْمَالِهِ كَدَيَّانٍ حَقِيقِيٍّ وَعَادِلٍ." أَمَّا عِبَارَةُ "آيَةً مُعَرَّضَةً لِلرَّفْضِ" فَتُشِيرُ فِي اليُونَانِيَّةِ σημεῖον ἀντιλεγόμενον الى "الْعَلَامَةِ الَّتِي تُقَاوَمُ"، وَيَقْصِدُ بِهَا عَلاَمَةَ الصَّلِيبِ، كَمَا أَكَدَّ القِدِّيسُ كِيرِلُّسُ الكَبِيرُ. فَاللهُ أَرْسَلَ ابْنَهُ لِخَلَاصِ العَالَمِ مِنْ خِلَالِ عَلاَمَةِ الصَّلِيبِ: "فَإِنَّ اللهَ أَحَبَّ العَالَمَ حَتَّى إِنَّهُ جَادَ بِابْنِهِ الوَحِيدِ لِكَيْ لَا يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، بَلْ تَكُونَ لَهُ الحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ" (يُوحَنَّا 3: 16). وَلَكِنَّ الكَثِيرِينَ يُقَاوِمُونَ الصَّلِيبَ وَيَتَعَثَّرُونَ فِيهِ. يَسُوعُ لَا يَفْرِضُ نَفْسَهُ، بَلْ يَدْعُو النَّاسَ أَنْ يَقْبَلُوهُ قَبُولًا حُرًّا بِالإِيمَانِ. إِنَّ جُزْءًا كَبِيرًا مِنْ إِسْرَائِيلَ سَيَرْفُضُهُ، كَمَا جَاءَ فِي كَلِمَةِ بُولُسَ الرَّسُولِ إِلَى أَعْيَانِ اليَهُودِ فِي رُومَا: "أَحْسَنَ الرُّوحُ القُدُسُ فِي قَوْلِهِ لِآبَائِكُمْ بِلِسَانِ النَّبِيِّ إِشَعْيَا: اِذْهَبْ إِلَى هَذَا الشَّعْبِ فَقُلْ لَهُ: تَسْمَعُونَ سَمَاعًا وَلَا تَفْهَمُونَ، وَتَنْظُرُونَ نَظَرًا وَلَا تُبْصِرُونَ. قَدْ غَلُظَ قَلْبُ هَذَا الشَّعْبِ، وَأَصَمُّوا آذَانَهُمْ، وَأَغْمَضُوا عُيُونَهُمْ، لِئَلَّا يُبْصِرُوا بِعُيُونِهِمْ، وَيَسْمَعُوا بِآذَانِهِمْ، وَيَفْهَمُوا بِقُلُوبِهِمْ، وَيَرْجِعُوا. أَفَأُشْفِيهِمْ؟" (أَعْمَالُ الرُّسُلِ 28: 25-28). وَمَا تَنَبَّأَ بِهِ سِمْعَانُ مِنِ اضْطِهَادٍ لِلمَسِيحِ قَدْ تَحَقَّقَ أَوَّلًا مِنْ قِبَلِ اليَهُودِ، ثُمَّ فِي كُلِّ أَرْضٍ، مُنْذُ ذَلِكَ اليَوْمِ وَحَتَّى الآنَ، إِذْ لَا يَزَالُ المَسِيحُ يُقَاوَمُ بِمُقَاوَمَةِ تَلَامِيذِهِ وَكَنِيسَتِهِ.
35 وأَنتِ سيَنفُذُ سَيفٌ في نَفْسِكِ لِتَنكَشِفَ الأَفكارُ عَن قُلوبٍ كثيرة.
تشير عبارة "أَنتِ سَيَنْفُذُ سَيْفٌ فِي نَفْسِكِ" إلى إِنْذَارٍ غَامِضٍ يَسْتَنِدُ إِلَى نُبُوءَةِ النَّبِيِّ حِزْقِيَال: "إِذَا جَلَبْتُ سَيْفًا عَلَى تِلْكَ الأَرْضِ وَقُلْتُ: لِيَجْتَزِ السَّيْفُ فِي الأَرْضِ، وَقَرَضْتُ مِنْهَا البَشَرَ وَالبَهَائِمَ" (حِزْقِيَال 14: 17). وَلَكِنْ مِنْ سِيَاقِ الكَلَامِ نَسْتَدِلُّ عَلَى أَنَّ إِسْرَائِيلَ سَيَنْقَسِمُ أَمَامَ يَسُوعَ، حَيْثُ إِنَّ قِسْمًا كَبِيرًا مِنْ إِسْرَائِيلَ سَيَرْفُضُهُ، وَهَذَا مَا يُسَبِّبُ الحُزْنَ لِمَرْيَمَ العَذْرَاء. فَمَرْيَمُ، كَأُمِّ يَسُوعَ، سَيُحْزِنُهَا الرَّفْضُ العَامُّ الَّذِي سَيُلَاقِيهِ ابنُهَا مِنْ قِبَلِ اليَهُودِ لِأَنَّهُمْ سَيَرْفُضُونَهُ مَسِيحًا. وَفِي الوَاقِعِ، جَازَ ذَلِكَ السَّيْفُ فِي نَفْسِهَا عِنْدَمَا حَاوَلَ أَهْلُ النَّاصِرَةِ أَنْ يَطْرَحُوا يَسُوعَ مِنَ الجَبَلِ (لُوقَا 4: 29)، وَعِنْدَمَا جَذَّفَ عَلَيْهِ الفَرِّيسِيُّونَ بِقَوْلِهِمْ إِنَّهُ يُخْرِجُ الشَّيَاطِينَ بِبَعْلَ زَبُولَ سَيِّدِ الشَّيَاطِينِ (مَتَّى 12: 24)، وَعِنْدَمَا قَبَضَ عَلَيْهِ اليَهُودُ كَصَاحِبِ فِتْنَةٍ وَمُجَذِّفٍ. وَيَرَى بَعْضُ المُفَسِّرِينَ فِي هَذِهِ العِبَارَةِ تَحْقِيقَ نُبُوءَةِ سِمْعَانَ عَنْ الأَلَمِ وَالحُزْنِ الَّذِي أَصَابَ مَرْيَمَ أُمَّهُ عِنْدَ صَلْبِ ابْنِهَا عَلَى الجُلْجُثَةِ، إِذْ سَمِعَتِ اليَهُودَ يَهْزَؤُونَ بِهِ (يُوحَنَّا 19: 25). وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ كِيرِلُّسُ الكَبِيرُ قَائِلًا: "يُرَادُ بِالسَّيْفِ الأَلَمُ الشَّدِيدُ الَّذِي لَحِقَ بِمَرْيَمَ وَهِيَ تَرَى مَوْلُودَهَا مَصْلُوبًا، وَلَا تَعْلَمُ بِالكُلِّيَّةِ أَنَّ ابنَهَا أَقْوَى مِنَ المَوْتِ، وَأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ قِيَامَتِهِ مِنَ القَبْرِ." وَهَذِهِ أَوَّلُ مَرَّةٍ يُذْكَرُ فِيهَا الحُزْنُ فِي إِنْجِيلِ لُوقَا. أَمَّا عِبَارَةُ "لِتَنْكَشِفَ الأَفْكَارُ عَنْ قُلُوبٍ كَثِيرَةٍ" فَتُشِيرُ إِلَى المُؤَامَرَةِ الَّتِي حَاكَهَا اليَهُودُ وَرُؤَسَاؤُهُمْ، وَكَانَتْ بِمَثَابَةِ سَيْفٍ كَشَفَ رِيَاءَهُمْ وَنِفَاقَهُمْ وَشَرَّهُمْ. فَهُمْ تَظَاهَرُوا بِحِفْظِ النَّامُوسِ وَالغَيْرَةِ عَلَى الشَّرِيعَةِ، وَتَظَاهَرُوا بِالقَدَاسَةِ (مَتَّى 23: 25-28). وَقَدْ نَدَّدَ يَسُوعُ بِعَدَمِ إِيمَانِهِمْ، وَكَشَفَ عَنْ نِفَاقِهِمْ بِقَوْلِهِ: "فَعَلِمَ يَسُوعُ أَفْكَارَهُمْ فَأَجَابَهُمْ: لِمَاذَا تُفَكِّرُونَ هَذَا التَّفْكِيرَ فِي قُلُوبِكُمْ؟" (لُوقَا ٥: ٢٢). فَكَانَتْ رِسَالَةُ يَسُوعَ "كَشْفُ أَفْكَارِ القُلُوبِ"، كَمَا جَاءَ فِي تَعْلِيمِهِ: "وَإِنَّمَا الدَّيْنُونَةُ هِيَ أَنَّ النُّورَ جَاءَ إِلَى العَالَمِ فَفَضَّلَ النَّاسُ الظَّلَامَ عَلَى النُّورِ لِأَنَّ أَعْمَالَهُمْ كَانَتْ سَيِّئَةً. فَكُلُّ مَنْ يَعْمَلُ السَّيِّئَاتِ يُبْغِضُ النُّورَ فَلَا يُقْبِلُ إِلَى النُّورِ لِئَلَّا تُفْضَحَ أَعْمَالُهُ. وَأَمَّا الَّذِي يَعْمَلُ لِلْحَقِّ فَيُقْبِلُ إِلَى النُّورِ لِتُظْهَرَ أَعْمَالُهُ وَقَدْ صُنِعَتْ فِي اللهِ" (يُوحَنَّا 3: 19-20).
36 وكانَت هُناكَ نَبِيَّةٌ هيَ حَنَّةُ ابنَةُ فانوئيل مِن سِبْطِ آشِر، طاعِنَةٌ في السِّنّ، عاشَت مَعَ زَوجِها سَبعَ سَنَواتٍ
تشير عبارة "نَبِيَّةٌ" إلى التِصَاقِهَا الوَثِيقِ بِاللَّهِ، حَيْثُ كَانَ الدَّوْرُ الرَّئِيسِيُّ لِلنَّبِيِّ هُوَ التَّكَلُّمَ بِلسَانِ اللَّهِ وَإِعْلَانَ حَقِّهِ، وَلَيْسَ بِالضَّرُورَةِ التَّنَبُّؤَ عَنِ المُسْتَقْبَلِ. أَمَّا عِبَارَةُ "حَنَّةُ " في الأصل اليوناني Ἅννα مشتقة من العبراني חַנָּה وَهُوَ اِسْمٌ عِبْرِيٌّ مَعْنَاهُ "حَنَانٌ أَوْ نِعْمَةٌ"، فَتُشِيرُ إِلَى بِنْتِ فَانُوئِيلَ مِنْ سِبْطِ أَشِيرَ، وَهِيَ نَبِيَّةٌ، وَأَرْمَلَةٌ دَامَتْ حَيَاتُهَا الزَّوْجِيَّةُ سَبْعَ سَنَوَاتٍ، وَلَمْ يُذْكَرِ اسْمُ زَوْجِهَا. وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ إِيرُونِيمُوسُ قَائِلًا: "فَإِنَّ كَلِمَةَ "حَنَّةَ" تَعْنِي "نِعْمَةَ اللَّهِ"، وَفَانُوئِيلَ (פְּנוּאֵל) تَعْنِي "وَجْهَ اللَّهِ"، وَأَشِيرَ (אָשֵׁר) يُمْكِنُ تَرْجَمَتُهُ "غِنًى" أَوْ "طُوبَاوِيَّةً"، وَكَانَتْ مُنْذُ صِبَاهَا قَدْ تَحَمَّلَتِ التَّرَمُّلَ لِمُدَّةِ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً، لَا تُفَارِقُ الهَيْكَلَ، عَابِدَةً بِأَصْوَامٍ وَطَلَبَاتٍ لَيْلًا وَنَهَارًا، لِذَلِكَ نَالَتِ النِّعْمَةَ رُوحِيًّا، وَتَقَبَّلَتْ لَقَبَ "ابْنَةِ وَجْهِ اللَّهِ"، وَتَمَتَّعَتْ بِنَصِيبٍ فِي الطُّوبَاوِيَّةِ وَالغِنَى". أَمَّا عِبَارَةُ "سِبْطِ أَشِيرَ"، وَهُوَ اِسْمٌ عِبْرِيٌّ (אָשֵׁר) مَعْنَاهُ "سَعِيدٌ أَوْ مَغْبُوطٌ"، فَتُشِيرُ إِلَى الابْنِ الثَّامِنِ مِنْ بَيْنِ أَبْنَاءِ يَعْقُوبَ، وَالثَّانِي مِنْ بَيْنِ أَبْنَاءِ زِلْفَةَ أَمَةِ لَيئَةَ، وَعِنْدَ وِلَادَتِهِ قَالَتْ لَيئَةُ: "لِهَنَائِي، لِأَنَّ النِّسَاءَ تُهَنِّئُنِي"، وَسَمَّتْهُ أَشِيرَ" (التَّكْوِين 30: 13). وَهُوَ أَحَدُ أَسْبَاطِ إِسْرَائِيلَ، وَقَدِ امْتَدَّتْ المِنْطَقَةُ الَّتِي خُصِّصَتْ لِسِبْطِ أَشِيرَ عَلَى سَاحِلِ البَحْرِ الأَبْيَضِ المُتَوَسِّطِ، مِنْ "دُور" جَنُوبِيَّ الكَرْمَلِ إِلَى حُدُودِ صَيْدُونَ (يَشُوع 19: 24-31). وَكَانَ حَدُّ أَشِيرَ الجَنُوبِيُّ يُلَامِسُ القِسْمَ الغَرْبِيَّ مِنْ سِبْطِ مَنَسَّى، أَمَّا الحَدُّ الشَّرْقِيُّ فَكَانَ يُلَامِسُ زَبُولُونَ وَنَفْتَالِي، وَكَانَتْ فِينِيقِيَّةُ تَحُدُّهُ مِنَ الشِّمَالِ. كَانَ سِبْطُ أَشِيرَ أَحَدَ الأَسْبَاطِ الشِّمَالِيَّةِ الَّتِي انفَصَلَتْ عَنْ يَهُوذَا فِي عَصْرِ رَحُبْعَامَ، وَقَدْ أَخَذَهُمُ الآشُورِيُّونَ فِي السَّبْيِ بَعْدَ أَنْ غَزَوُا المَمْلَكَةَ الشِّمَالِيَّةَ فِي القَرْنِ الثَّامِنِ ق.م. (2 مُلُوك 17: 3-6)، وَيَتَبَيَّنُ أَنَّ بَعْضَ نَسْلِهِمْ جَدَّدَ نَسَبَهُ مُنْذُ السَّبْيِ. أَمَّا عِبَارَةُ "طَاعِنَةٌ فِي السِّنِّ" فَتُشِيرُ إِلَى عُمْرٍ يُنَاهِزُ مِائَةً وَسَبْعَ سَنَوَاتٍ، إِذْ عَاشَتْ مَعَ زَوْجِهَا سَبْعَ سَنَوَاتٍ، وَبَقِيَتْ أَرْمَلَةً أَرْبَعًا وَثَمَانِينَ سَنَةً، بِالإِضَافَةِ إِلَى سِتِّ عَشْرَةَ سَنَةً قَبْلَ زَوَاجِهَا. أَمَّا عِبَارَةُ "عَاشَتْ مَعَ زَوْجِهَا سَبْعَ سَنَوَاتٍ" فَفِي الأَصْلِ اليُونَانِيِّ (ζήσασα μετὰ ἀνδρὸς ἔτη ἑπτὰ ἀπὸ τῆς παρθενίας αὐτῆς)، وَتَعْنِي أَنَّهَا عَاشَتْ مَعَ زَوْجِهَا سَبْعَ سَنَوَاتٍ بَعْدَ بَكَارَتِهَا. وَبَعْدَهَا لَمْ تُفَارِقِ الهَيْكَلَ، عَابِدَةً بِأَصْوَامٍ وَطَلَبَاتٍ لَيْلًا وَنَهَارًا، وَكَانَتْ هُنَاكَ عِنْدَمَا أَتَى بِهِ أَبَوَا يَسُوعَ لِتَكْرِيسِهِ فِي الهَيْكَلِ، فَعَرَفَتْهُ وَأَعْلَنَتْ أَنَّهُ المَسِيحُ المُنْتَظَرُ.
37 ثُمَّ بَقِيَت أَرمَلَةً فَبَلَغَتِ الرَّابِعَةَ والثَّمانينَ مِن عُمرِها، لا تُفارِقُ الـهَيكَل، مُتَعَبِّدَةً بِالصَّومِ والصَّلاةِ لَيلَ نَهار.
تشير عبارة "أَرْمَلَةً" إلى "مَنْ بَقِيَتْ وَحْدَهَا وَجَعَلَتْ رَجَاءَهَا فِي اللَّهِ، وَتَقْضِي لَيْلَهَا وَنَهَارَهَا فِي الدُّعَاءِ وَالصَّلَاةِ"، كَمَا يَصِفُ بُولُسُ الرَّسُولُ الأَرَامِلَ (1 طِيمُوثَاوُس 5: 5). تشير عبارة "لَا تُفَارِقُ الهَيْكَلَ" إِلَى المِثَالِ الأَعْلَى لِلْمُؤْمِنِ الإِسْرَائِيلِيِّ الكَامِلِ، كَمَا تَرَنَّمَ صَاحِبُ المَزَامِيرِ قَائِلًا: "سُكْنَايَ فِي بَيْتِ الرَّبِّ طَوَالَ أَيَّامِي" (مَزْمُور 23: 6). وَلَا يُفِيدُ هَذَا القَوْلُ أَنَّهَا كَانَتْ تَأْكُلُ وَتَنَامُ فِي الهَيْكَلِ، بَلْ أَنَّهَا كَانَتْ تُدَاوِمُ عَلَى أَوْقَاتِ الخِدْمَةِ الدِّينِيَّةِ، فَتَحْضُرُ تَقْدِيمَ الذَّبَائِحِ صَبَاحًا وَمَسَاءً، وَتُوَاظِبُ عَلَى الصَّلَوَاتِ المَفْرُوضَةِ فِي السُّبُوتِ وَالأَعْيَادِ. فَكَانَتْ تُفَضِّلُ الأُمُورَ الدِّينِيَّةَ عَلَى كُلِّ مَا سِوَاهَا. أَمَّا عِبَارَةُ "مُتَعَبِّدَةً بِالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ لَيْلًا وَنَهَارًا" فَتُشِيرُ إِلَى وَصْفٍ اسْتَخْدَمَهُ لُوقَا، وَيَبْدُو أَنَّهُ مَوسُومٌ بِالكَمَالِ المِثَالِيِّ إِلَى حَدٍّ مَا (لُوقَا 18: 7، وَأَعْمَالُ الرُّسُلِ 20: 31)، مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَحِقُّ لِلنِّسَاءِ أَنْ يَتَوَاجَدْنَ فِي الهَيْكَلِ خِلَالَ اللَّيْلِ. أَمَّا عِبَارَةُ "الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ" فَتُشِيرُ إِلَى أَمْرَيْنِ فُرِضَا فِي شَرِيعَةِ مُوسَى عَلَى كُلِّ اليَهُودِ، وَقَامَتْ بِهِمَا حَنَّةُ خَيْرَ قِيَامٍ. أَمَّا عِبَارَةُ "لَيْلًا وَنَهَارًا" فَتُشِيرُ إِلَى العَادَةِ اليَهُودِيَّةِ، حَيْثُ يَبْدَأُ اليَوْمُ بِعَشِيَّةِ اليَوْمِ السَّابِقِ، كَمَا هُوَ وَاضِحٌ مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ: "وَكَانَ مَسَاءٌ وَكَانَ صَبَاحٌ" (التكوين 1: 5، 13، 19، 23، 32).
38 فحَضَرَت في تِلكَ السَّاعَة، وأَخَذَت تَحمَدُ الله، وتُحَدِّثُ بِأَمرِ الطِّفلِ كُلَّ مَن كانَ يَنتَظِرُ افتِداءَ أُورَشَليم.
تشير عبارة "كُلَّ مَن كَانَ يَنْتَظِرُ" إلى الكَثِيرِينَ مِنَ الأَتْقِيَاءِ الَّذِينَ كَانُوا يَنْتَظِرُونَ ظُهُورَ المَسِيحِ، وَكَانَ سِمْعَانُ وَحَنَّةُ يُمَثِّلَانِ جَمَاعَةَ الأَتْقِيَاءِ فِي إِسْرَائِيلَ، الَّذِينَ كَانُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ يَتَوَقَّعُونَ قُرْبَ مَجِيءِ المَسِيحِ فِي ذَلِكَ الوَقْتِ، انْطِلَاقًا مِنْ نُبُوءَةِ دَانِيَالَ (السَّبْعِينَ أُسْبُوعًا)، الَّتِي تُحَدِّدُ سَنَةَ مَجِيءِ المَسِيحِ: "إِنَّ سَبْعِينَ أُسْبُوعًا حُدِّدَتْ عَلَى شَعْبِكَ وَعَلَى مَدِينَةِ قُدُسِكَ لِإِفْنَاءِ المَعْصِيَةِ وَإِزَالَةِ الخَطِيئَةِ وَالتَّكْفِيرِ عَنِ الإِثْمِ وَالإِتْيَانِ بِالبِرِّ الأَبَدِيِّ وَخَتْمِ الرُّؤْيَا وَالنُّبُوءَةِ وَمَسْحِ قُدُّوسِ القُدُّوسِينَ" (دَانِيَالَ ٩: ٢٤) . أَمَّا عِبَارَةُ "تُحَدِّثُ بِأَمْرِ الطِّفْلِ كُلَّ مَن كَانَ يَنْتَظِرُ افْتِدَاءَ أُورُشَلِيمَ" فَتُشِيرُ إِلَى هَؤُلَاءِ الأَتْقِيَاءِ الَّذِينَ كَانُوا يَأْتُونَ إِلَى الهَيْكَلِ فِي أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ، وَقَدْ دَرَسُوا النُّبُوءَاتِ وَفَهِمُوا أَنَّهُ اقْتَرَبَ وَقْتُ إِتْمَامِهَا بِمَجِيءِ المَسِيحِ الفَادِي إِلَى أُورُشَلِيمَ. وَقَدْ أَيَّدَتْ حَنَّةُ النَّبِيَّةُ شَهَادَةَ سِمْعَانَ الشَّيْخِ عَنِ الطِّفْلِ بِقَوْلِهِ: "فَقَدْ رَأَتْ عَيْنَايَ خَلَاصَكَ، الَّذِي أَعْدَدْتَهُ فِي سَبِيلِ الشُّعُوبِ كُلِّهَا" (لُوقَا 2: 30-31). كَمَا شَهِدَ لِيَسُوعَ سِمْعَانُ الشَّيْخُ، كَذَلِكَ شَهِدَتْ لَهُ حَنَّةُ مِنَ النِّسَاءِ، إِذِ اعْتَرَفَتْ بِأَنَّهُ هُوَ المَسِيحُ وَسَبَّحَتِ اللَّهَ عَلَى إِرْسَالِهِ وَبَشَّرَتْ بِهِ غَيْرَهَا. أَمَّا عِبَارَةُ "افْتِدَاءَ أُورُشَلِيمَ" فَتُشِيرُ إِلَى فِدَاءِ الأَبْكَارِ الوَارِدِ فِي الشَّرِيعَةِ: "لَمَّا تَصَلَّبَ فِرْعَوْنُ عَنْ إِطْلَاقِنَا، قَتَلَ الرَّبُّ كُلَّ بِكْرٍ فِي أَرْضِ مِصْرَ، مِنْ بِكْرِ الإِنْسَانِ إِلَى بِكْرِ البَهِيمَةِ، وَلِذَلِكَ أَنَا أَذْبَحُ لِلرَّبِّ كُلَّ فَاتِحِ رَحِمٍ مِنَ الذُّكُورِ، كُلُّ بِكْرٍ مِنْ بَنِيَّ أَفْدِيهِ" (خُرُوجُ 13: 15). فَإِنَّ أُورُشَلِيمَ هِيَ بَكْرُ إِسْرَائِيلَ، وَهِيَ تُفْتَدَى كَمَا يُفْتَدَى الأَبْكَارُ، فَتَنَالُ الخَلَاصَ كَمَا جَاءَ فِي نَشِيدِ زَكَرِيَّا أَبِي يُوحَنَّا: "تَبَارَكَ الرَّبُّ إِلَهُ إِسْرَائِيلَ لأَنَّهُ افْتَقَدَ شَعْبَهُ وَافْتَدَاهُ" (لُوقَا 1: 68).
39 ولَـمَّا أَتَمَّا جَميعَ ما تَفرِضُه شَريعَةُ الرَّبّ، رَجَعا إِلى الجَليل إِلى مَدينَتِهِما النَّاصِرة.
تشير عبارة "أَتَمَّا جَمِيعَ مَا تَفْرِضُهُ شَرِيعَةُ الرَّبِّ" إلى كُلِّ مَا تَفْرِضُهُ شَرِيعَةُ مُوسَى، وَهُوَ: خِتَانُ الطِّفْلِ، وَتَطْهِيرُ الأُمِّ، وَتَقْدِيمُ الطِّفْلِ فِي الهَيْكَلِ مَعَ فِدَاءِ البِكْرِ. وَكَانَ يُتِمُّ فِدَاءُ البِكْرِ بِدَفْعِ خَمْسَةِ مَثَاقِيلِ فِضَّةٍ فِي خِلَالِ الشَّهْرِ التَّالِي لِلْوِلَادَةِ، كَمَا وَرَدَ فِي سِفْرِ العَدَدِ: "وَكُلُّ فَاتِحِ رَحِمٍ مِنْ كُلِّ جَسَدٍ، مِنَ البَشَرِ وَالبَهَائِمِ، يُقَدِّمُونَهُ لِلرَّبِّ، يَكُونُ لَكَ، لَكِنَّكَ تَفْدِي أَبْكَارَ البَشَرِ وَأَبْكَارَ البَهَائِمِ النَّجِسَةِ. وَيَكُونُ فِدَاؤُهُ مِنْ عُمْرِ شَهْرٍ بِحَسَبِ تَقْيِيمِكَ، أَي بِخَمْسَةِ مَثَاقِيلِ فِضَّةٍ بِمِثْقَالِ القُدْسِ، وَهُوَ عِشْرُونَ دَانَقًا" (العَدَدُ 18: 15-16). أَمَّا عِبَارَةُ "رَجَعَا إِلَى الجَلِيلِ إِلَى مَدِينَتِهِمَا النَّاصِرَةِ" فَتُشِيرُ إِلَى فَجْوَةٍ مِنْ عِدَّةِ سِنِينَ بَيْنَ حَدَثِ تَقْدِيمِ يَسُوعَ لِلَّهِ (لُوقَا 2: 38) وَوُجُودِهِ فِي الهَيْكَلِ بَيْنَ العُلَمَاءِ (لُوقَا 2: 40). وَهُوَ وَقْتٌ كَافٍ لِلإِقَامَةِ فِي بَيْتِ لَحْمَ (مَتَّى 2)، وَالهُرُوبِ إِلَى مِصْرَ مِنْ غَضَبِ هِيرُودُسَ، وَالعَوْدَةِ إِلَى النَّاصِرَةِ بَعْدَ اسْتِتْبَابِ الأُمُورِ. أَمَّا عِبَارَةُ "مَدِينَتِهِمَا النَّاصِرَةِ" فَتُشِيرُ إِلَى مَحَلِّ سُكْنَاهُمَا قَبْلَ مِيلَادِ المَسِيحِ، إِذْ كَانَتِ النَّاصِرَةُ مَدِينَتَهُمَا، كَمَا يُوَضِّحُ لُوقَا الإِنْجِيلِيُّ. أَمَّا عِبَارَةُ "النَّاصِرَةُ" فَتُشِيرُ إِلَى وَطَنِ المَسِيحِ حَتَّى بَلَغَ سِنَّ الثَّلَاثِينَ، وَكَانَتْ نِسْبَتُهُ إِلَيْهَا مَكْتُوبَةً فِي عُنْوَانِ صَلْبِهِ: "وَكَتَبَ بِيلاطُسُ عُنْوَانًا وَوَضَعَهُ عَلَى الصَّلِيبِ. وَكَانَ مَكْتُوبًا: يَسُوعُ النَّاصِرِيُّ مَلِكُ اليَهُودِ" (يُوحَنَّا 19: 19). وَنَسَبَ يَسُوعُ نَفْسَهُ إِلَيْهَا يَوْمَ كَلَّمَ شَاوُلَ المُضْطَهِدَ قَائِلًا لَهُ: "أَنَا يَسُوعُ النَّاصِرِيُّ الَّذِي أَنْتَ تَضْطَهِدُهُ" (أَعْمَالُ الرُّسُلِ 22: 8).
40 وكانَ الطِّفْلُ يَتَرَعَرعُ ويَشتَدُّ مُمْتَلِئاً حِكمَة، وكانت نِعمةُ اللهِ علَيه.
تشير عبارة "يَتَرَعْرَعُ" فِي الأَصْلِ اليُونَانِيِّ (ηὔξανεν)، وَمَعْنَاهَا "كَانَ يَنْمُو"، إِلَى يَسُوعَ الَّذِي وُلِدَ إِنْسَانًا مِنِ امْرَأَةٍ، وَاتَّخَذَ صُورَتَنَا، وَصَارَ صَبِيًّا بَشَرِيًّا، كَمَا جَاءَ فِي تَعْلِيمِ بُولُسَ الرَّسُولِ: "تَجَرَّدَ مِنْ ذَاتِهِ مُتَّخِذًا صُورَةَ العَبْدِ وَصَارَ عَلَى مِثَالِ البَشَرِ وَظَهَرَ فِي هَيْئَةِ إِنْسَانٍ" (فِيلِبِّي 2: 7). وَفِي هَذِهِ الحَالَةِ: "كَانَ يَسُوعُ يَتَسَامَى فِي الحِكْمَةِ وَالقَامَةِ وَالحُظْوَةِ عِندَ اللَّهِ وَالنَّاسِ" (لُوقَا 2: 52). أَمَّا عِبَارَةُ "حِكْمَة" فَتُشِيرُ إِلَى يَسُوعَ الَّذِي كَانَ يَتَّسِعُ فِي المَعْرِفَةِ وَالعِلْمِ مَعَ نُمُوِّ جَسَدِهِ. وَالحِكْمَةُ هِيَ مِيزَةُ يَسُوعَ الخَاصَّةُ، كَمَا وَصَفَهُ لُوقَا الإِنْجِيلِيُّ: "وَكَانَ يَسُوعُ يَتَسَامَى فِي الحِكْمَة" (لُوقَا 2: 52). هَكَذَا نَحْنُ يُمْكِنُنَا أَنْ نَنْمُوَ فِي الحِكْمَةِ كَالرَّبِّ يَسُوعَ بِالسَّيْرِ مَعَ اللَّهِ، كَمَا قَالَ يَعْقُوبُ الرَّسُولُ: "وَإِنْ كَانَ أَحَدٌ مِنْكُمْ تَنْقُصُهُ الحِكْمَةُ فَلْيَطْلُبْهَا عِنْدَ اللَّهِ، يُعْطِهِ إِيَّاهَا، لأَنَّهُ يُعْطِي جَمِيعَ النَّاسِ بِلا حِسَابٍ وَلَا عِتَابٍ" (يَعْقُوبَ 1: 5). وَنُمُوُّ عَقْلِهِ تَدَرُّجًا لَا يَنْفِي لَاهُوتَهُ، كَمَا لَا يَنْفِي نُمُوَّهُ فِي القَامَةِ وَالقُوَّةِ. فَقَدِ اخْتَبَرَ يَسُوعُ فِي حَيَاتِهِ كُلَّ أَحْوَالِ الإِنْسَانِ، إِذْ كَانَ طِفْلًا ثُمَّ صَبِيًّا، ثُمَّ شَابًّا، ثُمَّ رَجُلًا كَامِلَ السِّنِّ، لِكَيْ يَشْعُرَ مَعَ جَمِيعِ النَّاسِ، صِغَارًا وَكِبَارًا، وَلَا يُفَرِّقُهُ عَنْ رِفَاقِهِ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ كَامِلَ القَدَاسَةِ. أَمَّا عِبَارَةُ "نِعْمَةُ" فَتُشِيرُ إِلَى حُظْوَةِ المَلِكِ (1 صَمُوئِيلَ 16: 22)، وَإِلَى حُبِّ الحَبِيبِ (نَشِيدُ الأَنَاشِيدِ 8: 10)، وَرِضَى الآبِ بِهِ وَبَرَكَتِهِ عَلَيْهِ. أَمَّا عِبَارَةُ "كَانَتْ نِعْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ" فَتُشِيرُ إِلَى المَسِيحِ الَّذِي عَلَيْهِ نِعْمَةُ اللَّهِ بِكُلِّ مَعْنَى الكَلِمَةِ، فِي حِينِ أَنَّ "يَدَ الرَّبِّ كَانَتْ عَلَى يُوحَنَّا" (لُوقَا 1: 66)، كَمَا كَانَتْ عَلَى الأَنْبِيَاءِ. وَيَتَّضِحُ مِنْ هَذِهِ الآيَةِ أَنَّ لِيَسُوعَ نَفْسًا بَشَرِيَّةً كَمَا أَنَّ لَهُ جَسَدًا بَشَرِيًّا. وَهَذَا خِلَافُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُولِيَانُوس، الَّذِي ادَّعَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِلمَسِيحِ نَفْسٌ بَشَرِيَّةٌ، بَلْ إِنَّ رُوحَهُ "الكَلِمَةُ الأَزَلِيَّةُ" أَخَذَتْ مَحَلَّ النَّفْسِ فِي جَسَدِهِ.
ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (لوقا 2: 22-40)
بَعْدَ دِرَاسَةٍ مُوْجَزَةٍ عَنْ وُقَائِعِ النَّصِّ الإِنْجِيلِيِّ وَتَحْلِيلِهِ (لُوقَا 2: 22-40)، نَسْتَنْتِجُ أَنَّهُ يَتَمَحْوَرُ حَوْلَ مَلَامِحِ طُفُولَةِ يَسُوعَ وَرِسَالَتِهِ، مِنْ خِلَالِ لِقَائِهِ مَعَ سِمْعَانَ الشَّيْخِ وَحَنَّةَ النَّبِيَّةِ. وَتُعَبِّرُ هَذِهِ الرِّسَالَةُ عَنْ الدَّوْرِ الَّذِي سَيَقُومُ بِهِ يَسُوعُ نَحْوَ جَمِيعِ الشُّعُوبِ، وَعَنْ إِمْكَانِيَّةِ الإِنْسَانِ قَبُولَهُ أَوْ رَفْضِهِ. وَمِنْ هُنَا نَبْحَثُ فِي مَلَامِحِ طُفُولَةِ يَسُوعَ، مِنْ خِلَالِ فَرِيضَةِ الشَّرِيعَةِ لِلِابْنِ البِكْرِ، وَنُبُوءَةِ سِمْعَانَ الشَّيْخِ عَنْ يَسُوعَ الطِّفْلِ وَأُمِّهِ مَرْيَمَ العَذْرَاءِ، وَنُبُوءَةِ حَنَّةَ النَّبِيَّةِ.
1. ملامح يسوع الطفل من خلال فريضة الشريعة للابن البكر (لوقا 2: 21-24)
كَانَتِ العَائِلَةُ اليَهُودِيَّةُ تُقِيمُ عِدَّةَ احْتِفَالاتٍ بَعْدَ وِلَادَةِ طِفْلٍ لَهَا، مِنْهَا: الخِتَانُ، وَفِدَاءُ البِكْرِ، وَتَطْهِيرُ الأُمِّ.
(1) الختان:
يُعْتَبَرُ الخِتَانُ فِي اليَهُودِيَّةِ طَقْسًا دِينِيًّا يُؤَكِّدُ عَلَى التَّطْهِيرِ (التَّكْوِينُ 17: 10-12)، وَهُوَ فَرِيضَةٌ شَرْعِيَّةٌ تُنَفَّذُ عَلَى كُلِّ ذَكَرٍ فِي اليَوْمِ الثَّامِنِ مِنْ وِلَادَتِهِ. وَقَدْ كَانَ هَذَا الطَّقْسُ عَلاَمَةَ العَهْدِ بَيْنَ اللهِ وَإِبْرَاهِيمَ، الَّذِي اخْتَتَنَ هُوَ وَأَهْلُ بَيْتِهِ وَعَبِيدُهُ الذُّكُورُ (خُرُوجُ 4: 25). فِي اليَهُودِيَّةِ، كَانَ الخِتَانُ فَرْضًا دِينِيًّا لِلتَّمْيِيزِ بَيْنَ نَسْلِ إِبْرَاهِيمَ وَبَاقِي الأُمَمِ (رُومِيَةَ 4: 9-12). وَكَانَ لَهُ مَعْنًى رُوحِيٌّ يُشِيرُ إِلَى تَكْرِيسِ الجَسَدِ، وَلِذَلِكَ كَانَ اليَهُودُ يُسَمُّونَ أَنْفُسَهُمْ "أَهْلَ الخِتَانِ"، وَيُسَمُّونَ غَيْرَهُمْ "أَهْلَ الغُرْلَةِ أَوِ القُلْفِ". يُخْتَنُ كُلُّ طِفْلٍ ذَكَرٍ فِي اليَوْمِ الثَّامِنِ مِنْ مَوْلِدِهِ، وَيُسَمَّى بِاسْمِهِ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ أَيْضًا (الأَحْبَارِ 12: 3). وَيُرْمَزُ إِلَى الخِتَانِ بِانْفِصَالِ اليَهُودِ عَنِ الأُمَمِ، وَعَلَاقَتِهِمُ الفَرِيدَةِ بِاللهِ (لُوقَا 1: 59).
وَكَانَ الخِتَانُ عَلاَمَةً لِلدُّخُولِ فِي العَهْدِ المُقَدَّسِ مَعَ اللهِ، وَبِدَايَةَ انْضِمَامٍ إِلَى الجَمَاعَةِ المُقَدَّسَةِ (التَّكْوِينُ 17: 9-14). وَلا يَزَالُ اليَهُودُ المُعَاصِرُونَ يُمَارِسُونَ هَذِهِ السُّنَّةَ بِكَامِلِ طُقُوسِهَا، حَيْثُ يُؤْتَى بِالوَلَدِ إِلَى المَجْمَعِ، فَيَأْخُذُهُ رَجُلٌ يُدْعَى "سَيِّدَ العَهْدِ"، ثُمَّ يَأْتِي الخَاتِنُ لِيُجْرِيَ عَمَلِيَّةَ الخِتَانِ مَعَ بَعْضِ الطُّقُوسِ وَالمَرَاسِيمِ. لِذَلِكَ تَقَدَّمَ يَسُوعُ المَسِيحُ لِيُتَمِّمَ الشَّرِيعَةَ، فَأَتَى خَاضِعًا لَهَا وَهُوَ الوَحِيدُ الَّذِي لَمْ يُخَالِفْهَا، كَمَا جَاءَ فِي تَعْلِيمِ بُولُسَ الرَّسُولِ: "فَلَمَّا تَمَّ الزَّمَانُ، أَرْسَلَ اللهُ ابْنَهُ مَوْلُودًا لِامْرَأَةٍ، مَوْلُودًا فِي حُكْمِ الشَّرِيعَةِ، لِيَفْتَدِيَ الَّذِينَ هُمْ فِي حُكْمِ الشَّرِيعَةِ، فَنَحْظَى بِالتَّبَنِّي" (غَلَاطِيَّةَ 4: 4-5). وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ أَمْبْرُوسِيُوسُ قَائِلًا: "خُتِنَ الطِّفْلُ الَّذِي تَكَلَّمَ عَنْهُ إِشَعْيَا: “لِأَنَّهُ قَدْ وُلِدَ لَنَا وَلَدٌ وَأُعْطِيَ لَنَا ابْنٌ" (إِشَعْيَا 9: 5)، وَقَدْ صَارَ تَحْتَ النَّامُوسِ لِيُعْتِقَ الَّذِينَ تَحْتَ النَّامُوسِ" (1 قُورِنْتُسَ 9: 5).
فِي بُكُورِ العَصْرِ المَسِيحِيِّ، زَعَمَ فَرِيقٌ مِنَ اليَهُودِ المُتَنَصِّرِينَ أَنَّ حِفْظَ تِلْكَ السُّنَّةِ ضَرُورِيٌّ لِلْخَلَاصِ، وَلِذَلِكَ أَجَابَهُمْ بُولُسُ الرَّسُولُ: "فَهَاءَنَذَا بُولُسُ أَقُولُ لَكُمْ: إِذَا اخْتَتَنْتُمْ، فَلَنْ يُفِيدَكُمُ المَسِيحُ شَيْئًا. وَأَشْهَدُ مَرَّةً أُخْرَى لِكُلِّ مُخْتَتِنٍ بِأَنَّهُ مُلْزَمٌ أَنْ يَعْمَلَ بِالشَّرِيعَةِ جَمْعَاءَ" (غَلَاطِيَّةَ 5: 2-3). وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ قَالَ: "فَمَا الخِتَانُ بِشَيْءٍ وَلَا القُلْفُ بِشَيْءٍ، بَلِ الشَّيْءُ هُوَ الخَلْقُ الجَدِيدُ" (غَلَاطِيَّةَ 6: 15). وَيَتَّضِحُ مِمَّا جَاءَ فِي تَعْلِيمِ بُولُسَ الرَّسُولِ، بِأَنَّ المَعْمُودِيَّةَ فِي العَهْدِ الجَدِيدِ لَهَا نَفْسُ المَكَانَةِ الَّتِي كَانَتْ لِلْخِتَانِ فِي العَهْدِ القَدِيمِ: "فَإِنَّكُمْ دُفِنْتُمْ مَعَهُ فِي المَعْمُودِيَّةِ، وَفِيهَا أُقِمْتُمْ أَيْضًا مَعَهُ بِالإِيمَانِ" (قولسي 2: 11-12).
(2) فداء البكر:
كَانَتِ العَادَةُ عِنْدَ اليَهُودِ أَنْ يُكَرِّسُوا كُلَّ بِكْرٍ ذَكَرٍ لِخِدْمَةِ الرَّبِّ، كَمَا جَاءَ فِي سِفْرِ الخُرُوجِ: "تُقَدِّمُ لِلرَّبِّ كُلَّ فَاتِحِ رَحِمٍ مِنْ ذُكُورِ بَنِيكَ" (الخُرُوجُ 13: 12). وَكَانَ هُنَاكَ سَبَبٌ آخَرُ لِفَرِيضَةِ فِدَاءِ البِكْرِ، وَهُوَ تَذَكُّرُ اليَهُودِ قَتْلَ اللهِ لأَبْكَارِ المِصْرِيِّينَ وَإِبْقَاءَهُ عَلَى أَبْكَارِهِمْ، كَمَا جَاءَ فِي نَفْسِ الفصل: "فَإِنَّ الرَّبَّ قَتَلَ كُلَّ بِكْرٍ فِي أَرْضِ مِصْرَ، مِنْ بَكْرِ الإِنْسَانِ إِلَى بَكْرِ البَهَائِمِ" (الخُرُوجُ 13: 12). وَكَانَ يُتِمُّ فِدَاءُ البِكْرِ بِدَفْعِ خَمْسَةِ شَوَاقِلَ مِنَ الفِضَّةِ عَنْ كُلِّ رَأْسٍ. أَمَّا البِكْرُ مِنَ البَهَائِمِ، فَكَانَ أَيْضًا مُكَرَّسًا لِخِدْمَةِ الرَّبِّ، وَلَا يُفَكُّ وَلَا يُبَدَّلُ إِلَّا إِذَا كَانَ مِنَ الحَيَوَانَاتِ النَّجِسَةِ وَأَرَادَ صَاحِبُهُ فَكَّهُ (الخُرُوجُ 13: 13). وكَانَ لِلْبِكْرِ امْتِيَازَاتٌ عَنْ بَاقِي إِخْوَتِهِ، مِنْهَا أَنَّهُ يَأْخُذُ نَصِيبَ اثْنَيْنِ فِي المِيرَاثِ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الحُقُوقِ (تَثْنِيَةُ الاِشْتِرَاعِ 21: 17).
كَانَ البِكْرُ، فَاتِحُ الرَّحِمِ، يُقَدَّمُ إِلَى اللهِ بَعْدَ شَهْرٍ مِنْ وِلَادَتِهِ (الخُرُوجُ 13: 2)، وَقَدْ خَضَعَ أَبَوَا يَسُوعَ لِشَرِيعَةِ "افْتِدَاءِ الأَبْكَارِ" كَمَا جَاءَ فِي أَقْوَالِ مُوسَى النَّبِيِّ: "كُلُّ بِكْرٍ مِنْ بَنِيكَ تَفْدِيهِ" (الخُرُوجُ 13: 13). وَيَتَضَمَّنُ هَذَا الاِحْتِفَالُ تَقْدِيمَ فِدَاءٍ عَنْهُ، وَبِهَذَا يُعْتَرَفُ بِأَنَّ الطِّفْلَ يَنْتَمِي إِلَى اللهِ، الَّذِي يَقْدِرُ وَحْدَهُ أَنْ يَهَبَ الحَيَاةَ.
ويسوع هو البكر في العهد الجديد كما ذَكَرَ بُولُسُ الرَّسُولُ أَنَّ يَسُوعَ هُوَ: "بِكْرُ كُلِّ خَلِيقَةٍ" أَيْ أَوَّلُ وَرَأْسُ الخَلِيقَةِ (قولسي 1: 15)، وَأَمَّا صَاحِبُ الرِّسَالَةِ إِلَى العِبْرَانِيِّينَ، فَدَلَّ بِمَفْهُومِ البِكْرِ عَلَى عَظَمَةِ المَسِيحِ وَرِئَاسَتِهِ بِقَوْلِهِ: "عِنْدَ إِدْخَالِ البِكْرِ إِلَى العَالَمِ: وَلْتَسْجُدْ لَهُ جَمِيعُ مَلَائِكَةِ اللهِ" (العِبْرَانِيِّينَ 1: 6).
(3) تطهير الوالدة:
كَانَتِ الشَّرِيعَةُ اليَهُودِيَّةُ تَفْرِضُ تَطْهِيرَ الأُمِّ بَعْدَ وِلَادَتِهَا، وَذَلِكَ بَعْدَ انْقِضَاءِ أَيَّامِ النَّجَاسَةِ، وَالَّتِي كَانَتْ تُقَدَّرُ بِسَبْعَةِ أَيَّامٍ لِوِلَادَةِ الذَّكَرِ وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا لِوِلَادَةِ الأُنْثَى. بَعْدَ ذَلِكَ، تَبْدَأُ أَيَّامُ التَّطْهِيرِ، فَلَا تَمَسُّ فِيهَا الأُمُّ شَيْئًا مُقَدَّسًا لِئَلَّا تُنَجِّسَهُ، وَلِهَذَا السَّبَبِ كَانَتْ تُمنَعُ مِنْ دُخُولِ الهَيْكَلِ.
كَانَتْ أَيَّامُ التَّطْهِيرِ لِوِلَادَةِ الذَّكَرِ ثَلَاثَةً وَثَلَاثِينَ يَوْمًا، وَلِوِلَادَةِ الأُنْثَى سِتَّةً وَسِتِّينَ يَوْمًا. وَبَعْدَ ذَلِكَ، كَانَتِ الأُمُّ تَأْتِي إِلَى الهَيْكَلِ وَتُقَدِّمُ:
- حَمَلًا حَوْلِيًّا مُحْرَقَةً،
- وَفَرْخَ حَمَامَةٍ أَوْ يَمَامَةٍ كَذَبِيحَةِ خَطِيئَةٍ.
أَمَّا فِي حَالَةِ الفَقْرِ، فَكَانَ يُسْمَحُ لِلأُمِّ أَنْ تُقَدِّمَ زَوْجَيْ يَمَامٍ أَوْ فَرْخَيْ حَمَامٍ كَمُحْرَقَةٍ، وَفَرْخَ حَمَامَةٍ أَوْ يَمَامَةً كَذَبِيحَةِ خَطِيئَةٍ (الأَحْبَارِ 12: 8).
أطاعت العذراء مريم للشَّريعة، إذ ظَلَّتْ مَرْيَمُ العَذْرَاءُ مُدَّةَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا بَعْدَ وِلَادَةِ يَسُوعَ، غَيْرَ قَادِرَةٍ عَلَى دُخُولِ الهَيْكَلِ. وَفِي نِهَايَةِ مُدَّةِ عَزْلِهَا، قَدَّمَ الأَبَوَانِ زَوْجَيْ يَمَامٍ أَوْ فَرْخَيْ حَمَامٍ كَذَبِيحَةِ خَطِيئَةٍ. وَقَدَّمَ الكَاهِنُ هَذِهِ الذَّبَائِحَ لِيُعْلِنَ تَطْهِيرَ الأُمِّ، وَإِذَا كَانَ الوَالِدَانِ غَيْرَ قَادِرَيْنِ عَلَى شِرَاءِ حَمَلٍ، كَانَا يُقَدِّمَانِ زَوْجَيْ حَمَامٍ، وَهَذَا مَا فَعَلَتْهُ مَرْيَمُ وَيُوسُفُ. تَمَّمَتْ مَرْيَمُ كُلَّ هَذِهِ الطُّقُوسِ بِحَسَبِ شَرِيعَةِ اللهِ، وَيَسُوعُ خضع للشريعة ولَمْ يُرِدْ أَنْ يَكُونَ فَوْقَ الشَّرِيعَةِ، بَلْ عَلَى العَكْسِ، تَمَّمَهَا بِالكَامِلِ. وَيَسْتَنْتِجُ لُوقَا الإِنْجِيلِيُّ فِي تَسْلِيطِ الضَّوْءِ عَلَى سِرِّ يَسُوعَ، فَإِنَّ هَذَا الطِّفْلَ، البَالِغَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ضَعِيفٌ غَيْرُ وَاعٍ، يَسْتَسْلِمُ لِقِيَادَةِ أَبَوَيْهِ، وَيَخْضَعُ لِلشَّرِيعَةِ خاصة في إلإشَارَاتٌ الإنجيلية التالية: "صَعِدَا بِهِ إِلَى أُورُشَلِيمَ" (لُوقَا 2:22)، "قَرَّبَاهُ لِلرَّبِّ"(لُوقَا 2: 24)، "أَتَمَّا جَمِيعَ مَا تَفْرِضُهُ الشَّرِيعَةُ" (لُوقَا 2: 39). وَهَذَا مَا صَرَّحَ بِهِ بُولُسُ الرَّسُولُ: "فَلَمَّا تَمَّ الزَّمَانُ، أَرْسَلَ اللهُ ابْنَهُ مَوْلُودًا لِامْرَأَةٍ، مَوْلُودًا فِي حُكْمِ الشَّرِيعَةِ" (غَلَاطِيَّةَ 4: 4).
فمَا هي العلاقة بَين سرِّ التَّجسُّد والخُضوع؟ أَلَمْ يَكُنْ هَذَا الطِّفْلُ يَسُوعَ هُوَ نَفْسُهُ الرَّبُّ؟ أَجَلْ، يُجِيبُ بُولُسُ الرَّسُولُ: "هُوَ الَّذِي فِي صُورَةِ اللهِ لَمْ يَعْتَبِرْ مُسَاوَاتَهُ للهِ غَنِيمَةً، بَلْ تَجَرَّدَ مِنْ ذَاتِهِ مُتَّخِذًا صُورَةَ العَبْدِ، وَصَارَ عَلَى مِثَالِ البَشَرِ، وَظَهَرَ فِي هَيْئَةِ إِنْسَانٍ" (فِيلِبِّي 2: 6-7). يَكْشِفُ هَذَا المَقْطَعُ أَنَّ المَسِيحَ، مَعَ كَوْنِهِ الرَّبَّ وَالْخَالِقَ، اخْتَارَ بِحُرِّيَّةٍ أَنْ يَخْضَعَ لِلشَّرِيعَةِ كَأَيِّ إِنْسَانٍ آخَرَ، لِيُتِمَّ كُلَّ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ، وَلِيُعْطِيَ المِثَالَ فِي التَّواضُعِ وَالطَّاعَةِ التَّامَّةِ لِمَشِيئَةِ الآبِ.
2. ملامح يسوع الطفل من خلال نبوءة سمعان الشيخ (لوقا 2: 25-32)
تتميَّزُ مُبارَكَةُ سِمعانَ بالفَرَحِ وَالبَصيرَةِ الرُّوحيَّةِ. يُصَوِّرُ سِمعانَ نَفسَهُ حارِسًا قَد أُعفِيَ مِن خِدمَتِهِ، لِأَنَّ الرَّجاءَ المَسيحانِيَّ الَّذي صَدَرَ لَهُ أَمرٌ بِانتِظارِهِ، إلى حِينِ أَن يُظهِرَ مَسيحَ الرَّبِّ. وَعِندَما صَعِدَ أَبَوا يَسوعَ إلى أُورُشَليمَ لِيُقَرِّباهُ لِلرَّبِّ، التَقى بِهِما سِمعانُ الشَّيخُ. فَطاعَتُهُ لِلرُّوحِ القُدُسِ حَرَّكَتْ فيهِ الوَحيَ الإِلهِيَّ، لِيُعلِنَ مَلامِحَ يَسوعَ الطِّفلِ الفَريدَةَ، وَهي:
"خَلاصُ اللهِ" (لوقا 2: 29)
لَمْ يَرَ سِمعانُ طِفلًا وَحَسْبُ، بَل رَآهُ بِعُيونِ الرُّوحِ القُدُسِ؛ رَأَى المَسيحَ الَّذي يُخَلِّصُ، لا بَل عايَنَ الخَلاصَ بِالذَّاتِ، وَكانَ ذلِكَ أَمَلَ حَياتِهِ. وَأشادَ بِهِ قائلًا: "خَلاصَ اللهِ" (لوقا 2: 30)، وَفقًا لِما وَرَدَ في أَشَعيا: "يَتَجَلَّى مَجدُ الرَّبِّ وَيُعايِنُهُ كُلُّ بَشَرٍ، لِأَنَّ فَمَ الرَّبِّ قَد تَكَلَّم" (أَشَعيا 40: 5). وَالخَلاصُ مُقَدَّمٌ لِكُلِّ شُعوبِ العالَمِ وَلِكُلِّ إِنسانٍ.
يَسوعُ هُوَ المُدخَلُ إِلى سِرِّ الخَلاصِ، بَل هُوَ المُخَلِّصُ الوَحيدُ. وَاسْمُهُ في العِبريَّةِ "יֵשׁוּעַ" وَمَعناهُ: "اللهُ يُخَلِّصُ". وَعَايَنَ سِمعانُ "خَلاصَ اللهِ"، رَغمَ أَنَّهُ أَمامَ طِفلٍ فَقيرٍ، فَآمَنَ بِهِ "مَسيحَ الرَّبِّ" (لوقا 2: 26، 29). فَحَمَلَهُ عَلى ذِراعَيهِ وَبارَكَ اللهَ قائلًا: "الآنَ تُطلِقُ، يا سَيِّد، عَبدَكَ بِسَلام، وَفْقًا لِقَوْلِكَ" (لوقا 2: 28-29). وَيُعَلِّقُ البابا بَندِكتُسُ السَّادِسُ عَشَرَ قائلًا: "إِنْ كانَ أَحَدٌ يُريدُ أَن يَعيشَ في هَذا العالَمِ بِقَداسَةٍ وَيَبلُغَ الكَمالَ وَالتَّطويبَاتِ الإِنجِيلِيَّةِ، فَليَحمِلِ الرَّبَّ يَسوعَ في يَدَيهِ، وَليُحِطَّهُ بِذِراعَيهِ، وَليَضُمَّهُ إِلى صَدرِهِ وَقَلبِهِ، عِندَئذٍ يَستَطِيعُ أَن يَذهَبَ بِسَعادَةٍ وَفَرَحٍ إِلى حَيثُ يَشاءُ وَبِدونِ خَوفٍ، لِأَنَّ الرَّبَّ مَعَهُ" (عِظَةُ 2010).
"نُورًا يَتَجَلَّى لِلْوَثَنِيِّينَ" (لوقا 2: 32)
أَنبَأَ سِمعانُ أيضًا أنَّ يَسوعَ الطِّفلَ هُو "نُورًا يَتَجَلَّى لِلْوَثَنِيِّينَ" (لوقا 2: 32)، تَتميمًا لِما وَرَدَ في نُبوءةِ أَشَعيا: "أَنَا الرَّبَّ دَعَوتُكَ في البِرِّ وَأَخَذتُ بِيَدِكَ وَجَبَلتُكَ وَجَعَلتُكَ عَهدًا لِلشَّعبِ وَنُورًا لِلْأُمَمِ" (أشعيا 42: 6). هَذا هُوَ أَوَّلُ إِنْباءٍ بِشُمُولِيَّةِ رِسالَةِ يَسوعَ. وَيُعَلِّقُ الطُّوباوِيُّ غِيرِيك دِيغنِي، الرَّاهِبُ السِستِرسِيَّانِيُّ، قائلًا: "فَقَد تَبَدَّدَتْ ظُلُماتُ العَالَمِ؛ وَالآنَ "تَسِيرُ الأُمَمُ في نُورِهِ"، وَالأَرْضُ كُلُّها مَمْلُوءَةٌ مِنْ مَجْدِهِ" (أشعيا 60: 3 و6: 3)" (العِظَةُ الأُولَى لِلتَّطْهِيرِ). المَسِيحُ سَيُعْلَنُ لِكُلِّ الأُمَمِ، وَالخَلاصُ سَيَكُونُ نُورًا يَراهُ كُلُّ العَالَمِ. فالمَسِيحُ هُوَ خَلاصُنا، وَهَذا الخَلاصُ أَتَمَّهُ يَسوعُ بِمَوتِهِ عَلَى الصَّلِيبِ.
"مَجْدًا لِشَعْبِكَ إِسْرَائِيلَ" (لوقا 2: 32)
أَنبَأَ سِمعانُ أَيْضًا أَنَّ يَسُوعَ هُو "مَجْدًا لِشَعْبِكَ إِسْرَائِيلَ" (لوقا 2: 32)، كَمَا وَرَدَ في نُبوءَةِ أَشَعيا: "قَرَّبتُ بِرِّي فَلا يَبعُد، وَخَلاصي فَلا يُبطِئ، وَسَأَجعَلُ في صِهْيونَ الخَلاصَ، وَلإِسْرَائِيلَ يَكُونُ فَخْرِي" (أشعيا 46: 13). وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ كِيرِلُس الكَبِيرُ قائلًا: "كانَ المَسِيحُ إِذًا نُورًا وَمَجْدًا لِإِسْرَائِيلَ، وَمَعَ أَنَّ بَعضَ اليَهُودِ ضَلُّوا الطَّرِيقَ وَجَهِلُوا الكُتُبَ وَأَنكرُوا المَسِيحَ، إِلَّا أَنَّ قَومًا مِنهُم خَلَصُوا وَتَمَجَّدُوا بِيَسُوعَ، وَكَانَ عَلَى رَأْسِهِمُ الرُّسُلُ، الَّذِينَ أَضَاءُوا بِنُورِهِم مِصْبَاحَ الإِنْجِيلِ في أَقَاصِي الأَرضِ". وَالمَسِيحُ مَجْدُ إِسْرَائِيلَ أَيْضًا لِأَنَّهُ يُنْسَبُ إِلَيْهِم حَسَبَ الجَسَدِ، مَعَ أَنَّهُ "عَلَى الكُلِّ إِلَهًا مُبَارَكًا إِلَى الأَبَدِ. وَلَمْ يَبْقَ الخَلاصُ مَحصُورًا في الشَّعبِ المُختَارِ، بَل تَخَطَّاهُ إِلَى جَمِيعِ شُعُوبِ الأَرضِ. وَقَد تَحَقَّقَتْ أُمنيَة سِمعان، فَهَتَفَ قائلًا: "الآنَ تُطلِقُ، يا سَيِّد، عَبدَكَ بِسَلامٍ، وَفْقًا لِقَوْلِكَ" (لوقا 2: 29). وَكَأَنَّهُ يَستَقبِلُ المَوتَ بِفَرَحٍ وَابْتِهَاجٍ، وَيَستَسلِمُ بِكَامِلِ الثِّقَةِ لِلعِنَايَةِ الإِلهِيَّةِ.
"آيَةً مُعَرَّضَةً لِلرَّفْضِ" (لوقا 2: 34)
وأخيرًا، أَنبَأَ سِمعانُ الشَّيخُ أنَّ يَسُوعَ "آيَةً مُعَرَّضَةً لِلرَّفْضِ" (لوقا 2: 34)، كَما جاءَ في نُبوءَةِ أَشَعيا: "بَسَطتُ يَدَيَّ طَوالَ النَّهارِ لِشَعبٍ عاصٍ يَسلُكُ طَريقًا غَيرَ صالِحٍ على هَواه" (أشعيا 65: 2). وإِن كانَ يَسُوعُ مُخَلِّصًا لِجَميعِ النَّاسِ، فَإِنَّ الخَلاصَ الَّذي يَحمِلُهُ لا يَفرِضُهُ هُوَ نَفسُهُ بِالقُوَّةِ؛ فَالنَّاسُ أَحرارٌ في رَفضِهِ أو قَبولِهِ. الخَلاصُ وَالخِيَارُ حُرُّ.
يُرَبِطُ لوقا الإِنجيليُّ الخَلاصَ بِالإِيمانِ، كَما جاءَ في قولهِ: "الحَجَرُ الَّذي رَذَلَهُ البَنَّاؤُونَ، هوَ قَد صارَ رَأسَ الزَّاوِيَةِ. كُلُّ مَن سَقَطَ عَلَيهِ يَرتَضِضْ، وَمَن وَقَعَ هُوَ عَلَيهِ يَسحَقْهُ" (لوقا 20: 17-18). فَيُصبِحُ الخَلاصُ، المُعلَنُ لِلجَميعِ، عَلامَةَ انقِسامٍ وَمُعارَضَةٍ، وَسَبَبًا لِلرَّفضِ. وَفي مُواجَهَةِ هَذا الخَلاصِ، سَيَكونُ مِنَ الضَّرورِيِّ اتِّخاذُ مَوقِفٍ، فَيَنقَسِمُ إِسرائيلُ أَمامَهُ؛ فَالبَعضُ يَجِدُ الهَلاكَ، وَالآخَرُونَ يَجِدُونَ الخَلاصَ. وَكَذلِكَ البَشَرِيَّةُ سَتَنقَسِمُ بِسَبَبِهِ إِلى قِسمَينِ: مَن هُم مَعَهُ وَمَن هُم ضِدَّهُ. وَكُلُّ مَن يَتَعَرَّفُ بِالمَسِيحِ، لا يَسعُهُ إِلَّا أَن يَكُونَ إِمَّا مَعَهُ وَإِمَّا ضِدَّهُ.
لَم يَأتِ يَسُوعُ بِخَلاصٍ جاهِزٍ، بَل يَدعُو إِلى الخَلاصِ عَن طَرِيقِ الإِيمانِ. وَفي هَذا الصَّدَدِ، قَالَ يَسُوعُ: "مَن لَم يَكُنْ مَعِي كانَ عَلَيَّ، وَمَن لَم يَجمَعْ مَعِي كانَ مُبَدِّدًا" (متى 12: 30). فَمَن لا يَقبَلُهُ سَيَكونُ لَهُ حَجَرَ عَثرَةٍ، وَأَمَّا مَن يَقبَلُهُ، فَسَيَكونُ لَهُ قِيَامَةً وَحَياةً. فَأَينَ نَحنُ مِن ذَلِكَ؟ نَحنُ مَسيحيُّونَ، إِذًا نَحنُ مَعَهُ، وَلَو بِالاسمِ. فَهَل نَحنُ مَعَهُ بِالفِعلِ أَيضًا؟ فَلنَتَساءَل: هَل قُلُوبُنا وَأَفكارُنا وَأَعمالُنا عَلى مِثالِ قَلبِهِ وَأَفكارِهِ وَأَعمالِهِ؟ فَليَكُن كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا مَدعُوًّا لِلتَّأمُّلِ وَاتِّخاذِ القَرارِ بِالإِيمانِ، وَالسَّيرِ عَلى خُطاهُ بِكَامِلِ الإِخلاصِ وَالمَحبَّةِ لينالَ الخَلاص.
"رَجُلُ أَوْجَاعٍ وَالآلَامِ" (لوقا 2: 33-35)
يُبَيِّنُ كَلامُ سِمعانَ لِمَريمَ العَذْراءِ حِينَ قَالَ لَها: "أَنتِ سَيَنفُذُ سَيفٌ في نَفْسِكِ لِتَنكَشِفَ الأَفكارُ عَن قُلوبٍ كَثِيرَةٍ" (لوقا 2: 33-35)، أَنَّهُ كَانَ يُدرِكُ بِعُمقٍ مَعنَى النُّبوءَاتِ الَّتي كَانَت تَرمُزُ إِلى آلامِ المَسِيحِ. وَحْدَهَا مَرْيَمُ سَتَشْهَدُ تَحْقِيقَ هَذِهِ النُّبوءَةِ بِكُلِّ مَعَانِيهَا، فَابنُهَا سَيَكُونُ "رَجُلَ أَوْجَاعٍ وَمُجَرَّبًا بِالأَلَمِ" (إِشَعْيَا 53: 3)، مَرفُوضًا وَمُحتَقَرًا مِنَ النَّاسِ. وَسَيَكُونُ لَهَا مَصدَرُ آلَامٍ عَظِيمَةٍ، إِذَا إِنَّهَا "الأُمُّ الحَزِينَةُ" الَّتي تَحَمَّلَت وَجعَ فُقدَانِ ابنِهَا وَمُعَانَاتِهِ.
لَنْ يَتَحَقَّقَ الخَلاصُ دُونَ الألَمِ وَالأَوْجَاعِ، وَلِذلِكَ سَيَطعَنُ سَيفُ الحُزْنِ قَلبَ مَرْيَمَ. هَذا السَّيفُ يُشِيرُ إِلى الأَلَمِ العَمِيقِ الَّذي لَحِقَ بِالعَذْرَاءِ الأُمِّ وَهِيَ تَرَى ابنَهَا مُهانًا، مُضطَهَدًا، وَمُعَلَّقًا عَلَى الصَّلِيبِ. وهكذا يَكُونُ دَورُ مَريمَ فِي مُخَطَّطِ الخَلاصِ دَورًا مُتَمِّمًا فِي الآلَامِ وَالتَّضْحِيَةِ، فَهِيَ تُقَاسِمُ ابنَهَا مِحنَتَهُ، وَتُعَانِي مِنهُ بِلُغةِ الحُبِّ وَالفِدَاءِ.
يُذَكِّرُنَا سِمعانُ بِأَنَّ الخَلاصَ الَّذي جَاءَ بِهِ يَسُوعُ لِلعَالَمِ، مَشْرُوطٌ بِالعِبُورِ فِي طَرِيقِ الألَمِ وَالصَّلِيبِ، وَبِأَنَّ مَريمَ كَانَت شَاهِدَةً وَمُشَارِكَةً فِي هَذِهِ الرِّحْلَةِ الفِدَائِيَّةِ.
3. ملامح يسوع الطفل من خلال نبوءة حنة النبيَّة (لوقا 2: 36-38)
لَم يَكُن سِمعانُ الشَّيخُ وَحدَهُ مَن أَنبَأَ بِمَلامِحِ يَسُوعَ الطِّفلِ، بَل أَيْضًا حَنَّةُ النَّبِيَّةُ الَّتي كَرَّسَت حَياتَها لِلهِ، وَقَضَت مُعظَمَ وَقتِها تُصَلِّي "لَيْلَ نَهارٍ" في الهَيْكَلِ، تَخدِمُ اللهَ وَتَصُومُ، وَكَانَت "تُحَدِّثُ بِأَمرِ الطِّفلِ كُلَّ مَن كَانَ يَنتَظِرُ افتِداءَ أُورَشَلِيم" (لوقا 2: 38). فَحَنَّةُ، بِإِيمَانِهَا العَمِيقِ، أَيَّدَت نُبوءَةَ سِمعانَ الشَّيخِ عَنِ الطِّفلِ يَسُوعَ، وَأَعلَنَت بِشَارَتَهُ لِكُلِّ مَن كَانَ يَنتَظِرُ الخَلاصَ.
يُشِيرُ تَعبِيرُ "افتِداءُ أُورَشَلِيمَ" إِلى أَحَدِ أَسمَاءِ الخَلاصِ في الكِتابِ المُقدَّسِ، وهو رمز الخلاص، كَمَا جَاءَ في نَشيدِ زَكَرِيَّا: "تَبارَكَ الرَّبُّ إِلهُ إِسرَائِيلَ لأَنَّهُ افتَقَدَ شَعبَهُ وَافتَداهُ" (لوقا 1: 68). فَحَنَّةُ لَم تَكُن في الهَيْكَلِ لِخَلاصِهَا الشَّخصِيِّ فَحَسبُ، بَل كَانَت تَحمِلُ فِي نَفسِهَا أَمَلَ شَعبِهَا بِالمُخَلِّصِ المَوعُودِ.فالفداء: سِرٌّ أَزَلِيٌّ مُعلَنٌ في المَسِيحِ. سِرُّ الفِداءِ.
كَانَ مَوجُودًا مُنذُ القِدَمِ، وَقَبلَ خَلقِ العَالَمَينِ، وَلَكِنَّهُ لَم يُعلَن إِلَّا في "آخِرِ الأَزمَانِ"، عِندَ مِيلادِ المَسِيحِ. وَهَكَذَا استَحَقَّت حَنَّةُ النَّبِيَّةُ أَن تَنَالَ نِعمَةَ رُؤيَةِ وَجهِ الطِّفلِ المُخَلِّصِ، وَتُسَبِّحَهُ وَتُبَشِّرَ بِاسمِهِ، وَتُخبِرَ كُلَّ مَن كَانَ يَنتَظِرُ الخَلاصَ.
هل إيماننا يجعلنا نتحدث عن المسيح؟ يَتَحَدَّانَا مَثلُ حَنَّةَ النَّبِيَّةِ فِي إِيمَانِهَا وَرِسالَتِهَا؛ فَهَل نَحنُ نَعيشُ إِيمَانَنَا بِهَذِهِ الحَمَاسَةِ؟ هَل نُبَشِّرُ بِالمَسِيحِ فِي بِيئَتِنَا؟ لِنَطرَح هَذِهِ الأَسئِلَةَ عَلى أَنفُسِنَا:
هَل نَتَحَدَّثُ عَنِ المَسِيحِ فِي حَياتِنَا اليَومِيَّةِ؟
هَل نَعتَبِرُ أَنفُسَنَا رُسُلًا لِلمَسِيحِ عَلَى مِثَالِ حَنَّةَ النَّبِيَّةِ؟
هَل نَحمِلُ الأَمَلَ لِلآخَرِينَ وَنُشَارِكُهُم بِمَحبَّةِ المَسِيحِ؟
4. ملامح يسوع الصبي في الناصرة (لوقا 2: 39-40)
يَصِفُ لوقا الإِنجيليُّ مَلامِحَ الطِّفلِ يَسوعَ بَعدَ عَودَتِهِ إِلى النَّاصِرَةِ، حيثُ عادَ فِي جَوٍّ مِن الهُدوءِ الشَّدِيدِ، لِيُمارِسَ حَياتَهُ البَشَرِيَّةَ كَواحِدٍ مِنَّا، دُونَ أَن يُظهِرَ أَيَّ مُعجِزَةٍ في صِباهُ. فَإِنَّ أَوَّلَ مُعجِزاتِهِ كَانَت تَحويلَ الماءِ إِلى خَمرٍ في قانا الجَليلِ. َيُؤَكِّدُ الإِنجيليُّ يُوحَنَّا هَذا الأَمرَ فِي قِصَّةِ عُرسِ قانا الجَليلِ، حَيثُ أَعلَنَ أَنَّ تَحويلَ الماءِ إِلى خَمرٍ كَانَ أُولى آياتِ يَسُوعَ: "هذِه أُولى آياتِ يَسوع أَتى بِها في قانا الجَليل، فأَظهَرَ مَجدَهُ فَآمَنَ بِهِ تَلاميذُهُ" (يوحنا 2: 11). ويَقولُ القِدِّيسُ يُوحَنَّا الذَّهَبِيُّ الفَمِ:"لَم يُرِدْ يَسُوعُ أَنْ يُظهِرَ مُعجِزاتٍ في طُفُولتِهِ وَصِباهُ حَتَّى بَدَأَ الخِدمَةَ العَلَنِيَّةَ"
اهتَمَّ لوقا الإِنجيليُّ بِرِوايَةِ كُلِّ مَراحِلِ حَياةِ يَسُوعَ، فَرَآهُ جَنِينًا في بَطنِ أُمِّهِ، وَرَآهُ طِفلًا وَصَبِيًّا، ثُمَّ رَجُلًا ناضِجًا، وَبِهَذا قَدَّسَ المَسِيحُ جَمِيعَ مَراحِلِ الحَياةِ البَشَرِيَّةِ. كَمَا يَقولُ لوقا: "كانَ يَسُوعُ يَتَسامى في الحِكمَةِ وَالقامَةِ وَالحُظْوَةِ عِندَ اللهِ وَالنَّاس" (لوقا 2: 52). فَهُوَ المَسِيحُ الإِنسانُ الكَامِلُ، الَّذي لهُ جَسَدٌ وَعَقلٌ وَرُوحٌ كَأيِّ إِنسانٍ آخَرَ، وَلَكِنَّهُ بِلا خَطِيئَةٍ. حَمَلَ يَسُوعُ نَاسُوتَنَا، وَصارَ مِثلَنَا، دُونَ أَنْ يَنفَصِلَ عَن لاهُوتِهِ. وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ كِيرِلُسُ الكَبِيرُ قائِلًا: "يُشِيرُ القَولُ "يَتَقَدَّمُ الصَّبِيُّ في الحِكمَةِ وَالقامَةِ وَالنِّعمَةِ" إِلى طَبيعَتِهِ البَشَرِيَّةِ الإِنسَانِيَّةِ. فَقَد تَحَمَّلَ اللهُ الكَلِمَةُ أَنْ يُولَدَ إِنسانًا، مَعَ أَنَّهُ بِطَبيعَتِهِ الإِلَهِيَّةِ لا بَدَايَةَ لَهُ وَلا يُحَدُّ بِزَمَانٍ، فَهُوَ الإِلَهُ الكَامِلُ الَّذي قَبِلَ أَنْ يَخضَعَ لِقَانُونِ النُّمُوِّ الجِسمَانِيِّ، وَيَتَقَدَّمَ في الحِكمَةِ وَهُوَ إِلَهُ الحِكمَةِ". فَقَد نَمَا جِسمُهُ فِي القَامَةِ، وَتَقَدَّمَت نَفسُهُ فِي الحِكمَةِ، أَمَّا فِي طَبيعَتِهِ الإِلَهِيَّةِ فَهُوَ كَامِلٌ، لِأَنَّهُ مَصدَرُ الحِكمَةِ وَالكَمَالِ.
يُظهِرُ لوقا الإِنجيليُّ أيضًا تربيةَ يسوع السَّليمة تَحْتَ رِعَايَةِ وَالِدَيهِ يُوسُفَ وَمَرْيَمَ، وَكَيْفَ سَهِرَا عَلَيهِ بِلطَفٍ وَاحْتِرامٍ لِشَخصِيَّتِهِ: "كانَ الطِّفْلُ يَتَرَعْرَعُ وَيَشتَدُّ مُمْتَلِئًا حِكمَةً، وَكانَت نِعْمَةُ اللهِ عَلَيهِ" (لوقا 2: 40). فَالمَسِيحُ الَّذي اتَّخَذَ جَسَدَنَا، نَمَا طَبِيعِيًّا مِثلَنَا تَمَامًا فِي:
1. النُّمُوِّ الجِسمَانِيِّ (القامَةِ)،
2. النُّمُوِّ العَقلِيِّ (الحِكمَةِ)،
3. النُّمُوِّ الرُّوحِيِّ وَالاجتِماعِيِّ (النِّعمَةِ عِندَ اللهِ وَالنَّاسِ).
كَانَ لاهُوتُهُ المُتَّحِدُ بِنَاسُوتِهِ يُعلِنُ النِّعمَةَ الَّتي فِيهِ أَكثَرَ فَأَكثَرَ، فَكَانَت نِعمَتُهُ تَتَزَايَدُ فِي أَعيُنِ البَشَرِ، مِمَّا يَدعُونا إِلَى التَّأمُّلِ فِي حَيَاتِهِ كَقُدوَةٍ فِي النُّمُوِّ الشَّامِلِ وَالمُتَوَازِنِ.
حَياةُ يَسُوعَ فِي النَّاصِرَةِ تُعَلِّمُنَا:
1. التَّواضُعُ وَالبَسَاطَةُ: قَد اختَارَ أَنْ يَعيشَ حَياةً عَادِيَّةً لِيُقَدِّسَ الأُمُورَ البَسِيطَةَ.
2. النُّمُوُّ المُتَكَامِلُ: جِسمَانِيًّا وَعَقلِيًّا وَرُوحِيًّا.
3. الأُسْرَةُ كَبِيئَةٍ مُثْلَى: حَيثُ الرِّعَايَةُ وَالتَّربِيَةُ السَّلِيمَةُ.
لِنَتَّخِذْ مِن نُمُوِّ يَسُوعَ فِي الحِكمَةِ وَالنِّعمَةِ نَمُوذَجًا لِنُمُوِّنَا فِي الحَياةِ الرُّوحِيَّةِ وَالإنسانِيَّةِ، مُتَّكِلينَ عَلَى نِعمَةِ اللهِ وَمُسترشِدِينَ بِمَثَلِهِ الأَعلَى.
تُساعِدُ التَّربِيَةُ الوَلَدَ فِي نُمُوِّهِ نُمُوًّا كَامِلًا وَمُنسَجِمًا فِي كُلِّ أَبعَادِهِ، وَكَما يُؤَكِّدُ المَجمَعُ الفَاتِيكَانِيُّ الثَّانِي فِي بَيَانِهِ عَنِ التَّربِيَةِ المَسِيحِيَّةِ: "إِذَا تَقاعَسَ الوَالِدُونَ عَنِ الدَّورِ التَّربَوِيِّ، صَعبَ جِدًّا الاستِعَاضَةُ عَنهُ، فَمِن وَاجِبِهِم أَنْ يُخْلِقُوا جَوًّا عَائِلِيًّا تُحْيِيهِ المَحبَّةُ وَالاحْتِرامُ لِلهِ وَالبَشَرِ... فَيَتَعَلَّمُ الوَلَدُ كَيفَ يُمَجِّدُ اللهَ وَيُكرِمُهُ، وَيُحِبُّ قَرِيبَهُ" (رقم 3).
وُلدَت عَائِلَةُ النَّاصِرَةِ مِنَ الإِيمَانِ، وَعَاشَت بِالإِيمَانِ، وَسَارَت مُستَنِيرَةً دَائِمًا بِكَلِمَةِ اللهِ الحَيِّ. فَالإِيمَانُ يُكشِفُ عَن مَدى قُوَّةِ العَلَاقَاتِ الَّتي تَربِطُ بَينَ أَفرَادِ العَائِلَةِ، وَفِي هَذَا الصَّدَدِ يَقولُ البَابا فَرنْسِيس: "إِنَّ نُورَ الإِيمَانِ قَادِرٌ عَلَى إِظهَارِ غِنَى العَلَاقَاتِ البَشَرِيَّةِ وَقُدرَتِهَا عَلَى الاستِمْرَارِ وَالتَّحَلِّي بِالثِّقَةِ وَإِثْرَاءِ الحَيَاةِ المُشتَرَكَةِ".
كَانَت العَائِلَةُ المُقدَّسَةُ نَمُوذَجًا فِي تَتْمِيمِ إِرَادَةِ اللهِ، وَفِي قَدَاسَتِهَا وَإِيمَانِهَا وَمَحبَّتِهَا وَصَبرِهَا عَلَى الآلَامِ وَالاغْتِرَابِ وَالفَقرِ. لَم يَكُن هُنَاكَ أَيُّ غَرَضٍ شَخصِيٍّ لِكُلِّ فَردٍ فِيهَا سِوَى مَحبَّةِ بَعضِهِم البَعضِ، فَكُلُّ فَردٍ عَمِلَ عَلَى تَنمِيَةِ حَيَاتِهِ الرُّوحِيَّةِ الشَّخصِيَّةِ، وَعَلَى مُسَاعَدَةِ الآخَرِينَ فِي الجِهَادِ الرُّوحِيِّ.
يُؤَكِّدُ الكِتَابُ المُقدَّسُ بِسُهُولَةٍ العَلَاقَةَ المُتَبَادَلَةَ بَينَ المَحبَّةِ وَالاحْتِرامِ فِي الأُسْرَةِ المُقدَّسَةِ، حَيثُ قِيلَ عَن يَسُوعَ: "كانَ طائِعًا لَهُما" (لوقا 2: 51). فالطَّاعَةُ هِي دَلِيلُ الاحْتِرامِ لِمَكَانَةِ الأَبِ وَالأُمِّ فِي الأُسْرَةِ، وَهِيَ احْتِرَامٌ مُتَبَادَلٌ مَبْنِيٌّ عَلَى أَساسِ المَحبَّةِ وَالثِّقَةِ.
هَل يُمكِنُنَا اليَومَ أَنْ نُعِيدَ المَفهُومَ الصَّحِيحَ لِلأُسْرَةِ المَسِيحِيَّةِ المُقدَّسَةِ المُتَحَابَّةِ، الَّتي تَحتَرِمُ أَفرَادَهَا وَتَعمَلُ عَلَى تَربِيَتِهِم بِأمَانَةٍ رُوحِيَّةٍ، لَيسَ فَقَط عَلَى المُستَوَى الجِسمَانِيِّ أَوِ الذِّهنِيِّ أَوِ الاجتِمَاعِيِّ؟
لِنَطرَح عَلَى أَنفُسِنَا هَذِهِ الأَسئِلَةَ:
1. هَل نُرَبِّي أَولَادَنَا عَلَى الحُبِّ وَالاحْتِرامِ فِي جَوٍّ يُحَيِّيهِ الإِيمَانُ وَالمَحبَّةُ؟
2. هَل نعَلِّمُهُم أَن يَكُونُوا مُتَزِنِينَ فِي نُمُوِّهِم الجِسمَانِيِّ وَالعَقلِيِّ وَالرُّوحِيِّ؟
3. هَل نَعمَلُ كأهل عَلَى أَنْ نَكُونَ قُدوَةً فِي الإِيمَانِ وَالصَّبْرِ وَالمَحبَّةِ؟
يدعونا إنجيل اليوم إلى إحياء الروح العائلية المسيحية، عالمنا اليوم، الذي تسوده التحديات والتغيرات السريعة، نحن بحاجة إلى أن نستلهم من العائلة المقدسة في الناصرة، حيث عاش يسوع ومريم ويوسف في جو من الحب المتبادل والاحترام، والتضحية، والإيمان العميق بالله والطاعة لله، مع التزامٍ عميق بتدبيره الإلهي. فَالمَسيحُ بَينَنَا يُضِيءُ الطَّرِيقَ وَيُثبِّتُ خُطَانَا عَلَى مِثالِ العَائِلَةِ المُقدَّسَةِ.
الخلاصة
في عيدِ تَقدِمَةِ يَسُوعَ إلى الهَيكَلِ، نَحتَفِلُ بِسِرِّ حَياةِ المَسِيحِ المُتَعَلِّقِ بِشَرِيعَةِ مُوسَى، الَّتي كانَت تَنُصُّ عَلَى أَنَّهُ يَنبَغِي عَلَى الوالِدَيْنِ، بَعدَ مُضِيِّ أَربَعينَ يَومًا عَلَى وِلادَةِ ابنِهِمَا البِكرِ، أَنْ يَصعَدا إِلى الهَيكَلِ لِيُقَدِّمَا ابنَهُمَا لِلرَّبِّ، وَلِتَطْهِيرِ الأُمِّ، كَما جاءَ في الكِتابِ المُقَدَّسِ: "قَدِّسْ لي كُلَّ بِكرٍ فاتِحِ رَحِمٍ في بَني إِسرائيلَ مِنَ النَّاسِ وَالبَهائِمِ، إِنَّهُ لي" (خُروج 11: 16، 13: 1-2).
وتَقدِمَةُ يَسُوعَ: مُبادَرَةٌ إِلهِيَّةٌ لِخَلاصِ البَشَرِيَّةِ. اللَّهُ نَفسُهُ قَدَّمَ ابنَهُ الوَحِيدَ لِلبَشَرِيَّةِ، وَظَهَرَ ذَلِكَ مِن خِلالِ كَلِماتِ سِمعانَ الشَّيخِ وَالنَّبِيَّةِ حَنَّة. فَفي لَحظَةِ دُخُولِ الطِّفلِ إِلى الهَيكَلِ، انْفَتَحَتْ أَعيُنُهُمَا عَلَى عَمَلِ الرُّوحِ القُدُسِ، وَاكْتَشَفَا أَنَّ هَذا الطِّفلَ هُو "عَلامَةُ مَلَكُوتِ اللهِ". سِمعانُ، بِرُوحِ النُّبُوَّةِ، أَدرَكَ عَظَمَةَ هَذا الطِّفلِ الإِلَهِيِّ، وَاشْتَهى بِفَرَحٍ أَنْ يَنطَلِقَ إِلَى جِوَارِ رَبِّهِ، مُعلِنًا: أَنَّ يَسُوعَ هُو "خَلاصُ البَشَرِيَّةِ"، "نُورٌ لِلأُمَمِ"،"آيَةٌ مُعَرَّضَةٌ لِلرَّفْضِ"، لِأَنَّهُ سَيَكشِفُ الأَفْكَارَ عَنْ قُلُوبٍ كَثِيرَةٍ، كَمَا وَرَدَ فِي الإِنْجِيلِ: "الآنَ تُطلِقُ، يا سَيِّد، عَبدَكَ بِسَلامٍ، وَفْقًا لِقَوْلِكَ، فَقَد رَأَتْ عَينَايَ خَلاصَكَ، الَّذِي أَعْدَدتَهُ في وَجهِ جَمِيعِ الشُّعُوبِ، نُورًا يَتَجَلَّى لِلْوَثَنِيِّينَ وَمَجْدًا لِشَعْبِكَ إِسْرَائِيل" (لُوقَا 2: 29- 35).
أمَّا دَورُ النَّبِيَّةِ حَنَّة فهو صَوتُ التَّسْبِيحِ وَالبِشَارَةِ. عِندَ رُؤيَةِ الطِّفلِ الإِلَهِيِّ، فَتَحَ اللَّهُ لِسَانَ حَنَّةَ النَّبِيَّةِ بِالتَّسَابِيحِ، فَمَجَّدَتِ اللَّهَ وَأَعلَنَتْ عَنِ الطِّفلِ لِكُلِّ مَن كَانَ يَنتَظِرُ "افْتِدَاءَ أُورَشَلِيمَ"، مُعتَرِفَةً بِأَنَّ يَسُوعَ هُوَ: المَسِيحُ الرَّبُّ، الخَلاصُ المُنتَظَرُ، النُّورُ الَّذِي يُضِيءُ لِلأُمَمِ، ومَجْدُ إِسْرَائِيلَ وَمُحَرِّرُهَا.
وَلَكِنْ فِي الوَقتِ ذَاتِهِ، حَذَّرَ سِمعانُ العَذْرَاءَ مَريَمَ مِن أَنَّ هَذا الخَلاصَ سَيُواجِهُ رَفضًا مِن البَعضِ، وَسَتَتَأَلَّمُ مَريَمُ بِسَبَبِ الرَّفضِ الَّذِي سَيَلْقَاهُ ابنُهَا.
يَدعُونَا إِنْجِيلُ اليَومِ إِلَى:
1. انتِظارِ المَسِيحِ بِتَوقٍ وَشَوقٍ، كَمَا فَعَلَ سِمعانُ وَحَنَّةُ، فَلا نَيْأَسُ بَلْ نَظَلُّ مُتَمَسِّكِينَ بِالإِيمَانِ وَالثِّقَةِ بِاللَّهِ.
2. اللِّقَاءِ بِالمَسِيحِ فِي هَيكَلِ نُفُوسِنَا، مِن خِلَالِ الصَّلَاةِ وَالتَّأَمُّلِ فِي كَلِمَتِهِ، لِيُصبِحَ هُوَ مَركَزَ حَيَاتِنَا.
3. قَبُولِ المَسِيحِ بِالإِيمَانِ، بِاعتِبَارِهِ الإِلَهَ الَّذِي صَارَ إِنْسَانًا لِيُخَلِّصَنَا.
4. الاقتِدَاءِ بِسِمعانَ وَحَنَّةَ، فِي الإِيمَانِ العَمِيقِ وَالمَحبَّةِ الصَّادِقَةِ، وَالدَّعْوَةِ إِلَى المَسِيحِ بِفَرَحٍ وَحَمَاسٍ.
هَل نَحنُ مُستَعِدُّونَ لِاستِقبَالِ المَسِيحِ فِي حَيَاتِنَا كَمَا استَقبَلَهُ سِمعانُ وَحَنَّةُ؟
لِنَتَأَمَّلِ اليَومَ فِي مَوقِفِنَا تُجَاهَ المَسِيحِ، وَلْنَسأَلْهُ النِّعمَةَ لِكَي نُؤمِنَ بِهِ كَمَا آمَنُ به سِمْعان الشَّيخ وحَنِّة النبيّة ، وَنُحِبَّهُ كَمَا أَحَبُّوهُ، وَنَدعُوَ إِلَيهِ كَمَا بَشَّرُوا بِهِ، حَتَّى نَكُونَ شُهُودًا أُمَنَاءَ لَهُ فِي عَالَمِنَا.
الدعاء
أَيُّهَا الآبُ السَّمَاوِيُّ، نَرفَعُ إِلَيكَ صَلاتَنَا، مُسَبِّحِينَ إِسْمَكَ مَعَ سِمعانَ الشَّيخِ فِي صَلاةِ النَّومِ، مُعَبِّرِينَ عَنْ اشْتِيَاقِ نُفُوسِنَا لِلانْطِلَاقِ نَحوَ السَّمَاءِ: "الآنَ تُطلِقُ، يا سَيِّد، عَبدَكَ بِسَلامٍ، وَفْقًا لِقَوْلِكَ، فَقَدْ رَأَتْ عَينَايَ خَلاصَكَ، الَّذِي أَعْدَدتَهُ فِي سَبِيلِ الشُّعُوبِ كُلِّهَا، نُورًا يَتَجَلَّى لِلْوَثَنِيِّينَ، وَمَجْدًا لِشَعْبِكَ".
يَا رَبُّ، اجعَلْ جَمِيعَ الشُّعُوبِ وَالعَائِلَاتِ يَجِدُونَ فِيكَ السَّلامَ وَالسَّلامَةَ وَالوَحدَةَ، فَأَنتَ أَمِيرُ السَّلامِ وَمُخَلِّصُ العَالَمِ. آمين.