موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الثلاثاء، ٣١ أغسطس / آب ٢٠٢١

الكَنيسةُ: ما بين "لا" و"نعم"

بقلم :
د. أشرف ناجح عبد الملاك - كولومبيا
نعم لكنيسة شاملة وحاضنة

نعم لكنيسة شاملة وحاضنة

 

قولُ "لا"

 

يذكر لنا الكّتابُ المقدّسُ– أنفاسُ الله–، ويروي لنا تاريخُ الكنيسة الذّاخرُ بالكّنوز، وينقل لنا التّاريخُ الحافلُ بالأحداث المجيدة والمخزيّة، وتُعيد علي مسامعنا ذاكرةُ الماضي المكتظّة بالرّوايات، أنَّ ثَمَّة رجال ونساء، كبار وصغار، قالوا يومًا ما: "لا"، عندما كان يجب أنْ تُقال هذه الـ"لا"، وليس غير الـ"لا". فغيّرتْ هذه الـ"لا" مجرى حياة مَن قالوها، وشكّلت التّاريخ برمّته.

 

وإليكم بعضٌ ممّا لا نريده، وما نريده، للكنيسة أمّنا ومعلّمتنا، كي ما تكون قويّةً وفعّالةً في أيّامنا المعاصرة، وصورةً حقيقيّة وأصيلة لمؤسّسها ورأسها ومعلّمها، وأمينةً لرسالتها الإلهيّة-البشريّة. فالكنيسة– الّتي نحبّها بكلّ جَوَارِحنا وفؤادنا، والّتي نحن أعضاء في جسدها– يجب عليها أنْ تقتدي برأسها ومعلّمها، وتتبعه حتّى الصّليب؛ ووجودها عينه ينبغي أنْ تتصوَّر فيه "صورة المسيح" الكاهن والخادم والراعي.

 

 

لا لكنيسة

لا

 لكنيسة فاتِرة وقاسية ومُتحجِّرة، تصنع منّا عبيدًا لخدمتها، وجنودًا لحمايتها.

 

لا لكنيسة غارقة في السّعي الدّبلوماسيّ إلى السّلطة، والبحث الدّوؤب عن المال والاغتناه، والتّخبّط المحزن والمعثر في الأمور الدّنيويّة (بالمعنى السّلبيّ) والأهواء الغراميّة.

 

لا لكنيسة منجرفة نحو ما تحذّرنا منه رسالةُ القِدّيس يُوحنّا الأوْلى: «شَهوَةِ الجَسَد وشَهوَةِ العَين وكِبرياءِ الغِنى» (1 يو 2/ 16)، وما حذّرنا منه عريسها: «مَرْثَا، مَرْثَا، أَنْتِ تَهْتَمِّينَ وَتَضْطَرِبِينَ لأَجْلِ أُمُورٍ كَثِيرَةٍ، وَلَكِنَّ الْحَاجَةَ إِلَى وَاحِدٍ. فَاخْتَارَتْ مَرْيَمُ النَّصِيبَ الصَّالِحَ الَّذِي لَنْ يُنْزَعَ مِنْهَا» (لو10/ 41).

 

لا لكنيسة تركت "حُبَّها الأَوَّل" (رؤ 2/ 4)، وانطَلقت وَراءَ "عُشَّاقها" (هو 2/ 7)؛ فنخشى أنْ يُقال لنا بشأنها: «حاكِموا أُمَّكم، حاكِموا

فإِنَّها لَيسَتِ آمرَأَتي ولا أَنا زوجُها. لِتَنزعْ مِن وَجهِها زِناها

ومِن بَينِ ثَدْيَيها فِسْقَها

وإِلَّا جَرَّدتُها عُرْيانة

ورَدَدتُها كما كانَت يَومَ ميلادِها

وجَعَلتُها كالصَّحْراء

وصَيَّرتُها كأَرضٍ قاحِلة وأَمَتُّها بِالعَطَش» (هو 2/ 4-5).

 

لا لكنيسة إكليروسانيّة هيراركيّة هرميّة، تعتبر العلمانيّين درجة ثانية، وتعاملهم كجرسونات المطاعم لخدمة موائدهم المكتظّة بأهداف شخصيّة وشهوانيّة.

 

لا لكنيسة الأرصدة والإدخار في البنوك، الّتي لا تنشغل باحتياجات الفقراء والمساكين والمعوزين (تث 15/ 7-11)، ولا بانتشار ملكوت الله على الأرض (مت 6/ 33)، ولا تساند الكنائس المحتاجة الأخرى.

 

لا لكنيسة "صَمَّاء" و"بَكْماء" و"خَرْسَاء" إزاء احتياجات البشر ومصاعبهم ومصائبهم، وكأنّها أُجبرت لسبب ما على عدم الكلام مِن جرّاء خوف يتملّكها، بالرغم مِن أنّ مؤسّسها ورأسها ومعلّمها يعيد على مسامعها باستمرار كلمته الخَلاَّبة "لا تخَفْ".

 

لا لإله (كما يصوّره بعضُهم مِن هذا النّوع مِن الكنيسة) يحتكرنا، فيقيِّد حرّيّتنا وأفكارنا وأعمالنا، ويقتل مشاعرنا وأحلامنا وأمالنا.

 

 

نعم لكنيسة

 

وعلينا– كمؤمنين وشعب الله– أنْ نقول معًا، وبشجاعة واستمراريّة، حتّى تتحوّل أقوالنا هذه إلى أعمال، وتعاليمنا المستقيمة إلى أفعال مستقيمة: نعم لكلِّ قولِ حقٍّ ولكلِّ عملِ محبّةٍ. فكما قال الكاردينال جوزيف راتسينغر، «في المسيح، تتزامن الحقيقة والمحبّة. فبمقدار اقترابنا من المسيح تمتزج الحقيقة والمحبّة في حياتنا أيضًا. إنَّ المحبّة بدون حقيقة ستكون عمياء؛ والحقيقة بدون محبّة ستكون مثل "صَنْج يَرِنّ" (1 كو 13/1)».

 

نعم لكنيسة المسيح وجسده، الّتي أَحَبَّها «وجادَ بِنَفسِه مِن أَجْلِها لِيُقدَسَها مُطهِّرًا إِيَّاها بِغُسلِ الماءِ وكَلِمَةٍ تَصحَبُه، فيَزُفَّها إِلى نَفْسِه كَنيسةً سَنِيَّة لا دَنَسَ فيها ولا تَغَضُّنَ ولا ما أَشْبهَ ذلِك، بل مُقدَّسةٌ بِلا عَيب» (أف 5/ 25-27). فهي الكنيسة الواحدة المقدّسة الجامعة الرّسوليّة: الأم الحنون الّتي تلد أبناءها وبناتها في المعموديّة، وترعاهم، وتعلّمهم بواسطة الأسرار، والحياة الكنسيّة، وقداسة قادتها وشعبها.

 

نعم للكنيسة الّتي قيل عنها: «فهُناكَ جَسَدٌ واحِدٌ ورُوحٌ واحِد، كما أَنَّكم دُعيتُم دَعوَةً رَجاؤُها واحِد. وهُناكَ رَبٌّ واحِدٌ وإِيمانٌ واحِدٌ ومَعْمودِيَّةٌ واحِدة، وإِلهٌ واحِدٌ أَبٌ لِجَميعِ الخَلْقِ وفوقَهم جَميعًا، يَعمَلُ بِهم جَميعًا وهو فيهِم جَميعًا. كُلُّ واحِدٍ مِنَّا أُعطيَ نَصيبَه مِنَ النِّعمَةِ على مِقْدارِ هِبَةِ المسيح» (أف 4/ 4-7).

 

نعم للكنيسة الإفخارستيّة السّنودسيّة-المجمعيّة (1 كو 11-12)، كنيسة الشّركة والشّراكة والمشاركة بين جميع أعضائها: «وكما أَنَّ الجَسَدَ واحِدٌ ولَه أَعضاءٌ كَثيرَة وأَنَّ أَعضاءَ الجَسَدِ كُلَّها على كَثرَتِها لَيسَت إِلاَّ جَسَدًا واحِدًا، فكذلكَ المسيح. فإِنَّنا اعتَمَدْنا جَميعًا في رُوحٍ واحِد لِنَكونَ جَسَدًا واحِدًا، أَيَهودًا كُنَّا أَم يونانِيِّين، عَبيدًا أَم أَحرارًا، وشَرِبْنا مِن رُوحٍ واحِد. فلَيسَ الجَسَدُ عُضْوًا واحِدًا، بل أَعضاءٌ كَثيرة [...] فأَنتُم جَسَدُ المَسيح وكُلُّ واحِدٍ مِنكُم عُضوٌ مِنه» (1 كو 12/ 12-14. 27).

 

نعم لكنيسة شاملة وحاضنة، يجد فيها الإكليروس والعلمانيّين، والأغنياء والفقراء، والكبار والصغار، والرجال والنساء، مكانةً حقيقيّة وأذرعًا مفتوحة مرحبّة. فقد قال القِدّيس بوُلس: «لأَنَّكم جَميعًا أَبناءُ اللهِ بِالإِيمانِ بِالمسيحِ يسوع، فإِنَّكم جَميعًا، وقَدِ اعتَمَدتُم في المسيح، قد لَبِستُمُ المسيح: فلَيسَ هُناكَ يَهودِيٌّ ولا يونانِيّ، ولَيسَ هُناكَ عَبْدٌ أَو حُرّ، ولَيسَ هُناكَ ذَكَرٌ وأُنْثى، لأَنَّكم جَميعًا واحِدٌ في المسيحِ يسوع» (غل 3/ 26-28).

 

نعم لكنيسة قويّة في رسالتها ومحبّتها، تجمع كلَّ أبنائها وبناتها تحت ظلّ جناحيها؛ ونعم لكلّ شخص في هذه الكنيسة يعمل على كمال بنيانها، ويساهم فيها ولو بعمل بسيط.

 

نعم لكنيسة خالية من الصّراعات والمنافسات والمجاملات الّتى لا تُجدي نفعًا.

 

نعم لكنيسة يشهد الجميعُ بأَعْمالها ومَحَبَّتها وإيمانها وخِدمَتها وثَباتها، وتشهد هي بأنَّ أَعْمالها الأَخيرة هي أَكثَرُ عَدَدًا مِن أَعْمالِها السَّالِفَة (رؤ 2/ 19).

 

نعم لكنيسة سفر أعمال الرّسل، الّتي لسان حالها: «لا فِضَّةَ عِندي ولا ذَهَب، ولكِنِّي أُعْطيك ما عندي: بِاسمِ يسوعَ المَسيحِ النَّاصِريِّ امشِ!» (رسل 3/ 6).

 

نعم لكنيسة "صامتة" (لا "صَمَّاء" و"بَكْماء" و"خَرْسَاء")، فهي اختارت طوعًا الصّمت وعدم الكلام، حتّى تتكلَّم إلى البشر المعاصرين من خلال صمتها البَليغ والمتكلِّم والحكيم والمتأمّل.

 

نعم لشعب كنيسة قيل عنه: «ها قد جَعَلتُ أَمامَكَ بابًا مَفتوحًا ما مِن أَحَدٍ يَستَطيعُ إِغْلاقَه، لأَنَّكَ على قِلَّةِ قُوَّتِكَ حَفِظتَ كَلِمَتي ولم تُنكِرِ اسْمي» (رؤ 3/ 8).

 

نعم للإله الحقيقيّ، الخالق والفادي والمحبّ لأبنائه وبناته، الّذي يصنع منهم أحرارًا ومُحرِّرين.

 

لقد قال لنا يسوع في بشارة يوحنّا: «تَعرِفونَ الحَقّ: والحَقُّ يُحَرِّرُكُم [...] فإذا حَرَّرَكُمُ الابنُ كُنتُم أَحراراً حَقّاً» (يو 8/ 32. 36).