موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأربعاء، ٥ يناير / كانون الثاني ٢٠٢٢

"الظُهُور - الإبيفانيا" بين أَشَعْيا ومتى الإنجِيليّ

بقلم :
د. سميرة يوسف سيداروس - إيطاليا
"الظُهُور - الإبيفانيا" بين أَشَعْيا ومتى الإنجِيليّ

"الظُهُور - الإبيفانيا" بين أَشَعْيا ومتى الإنجِيليّ

 

سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهْدين (أش 60: 1- 6؛ مت 2: 1- 12)

 

مُقدّمة

 

نحتفل ككنيسة كاثوليكية بعيد الظهور الإلهي في هذا الأسبوع. من خلال سلسلة مقالاتنا سنعيش ختام هذه الأعياد الميلاديّة متأملين في الظُهُور أي الإبيفانيا من اليوناني وتعني "ظُهور الله في الجسد لكل الشعوب". هذا الموضوع تحدث عنه كثيرين من الأنبياء بالماضي مثل النبي أَشَعْيا الذي سَّبَقَّ بشكل متميز الإشارة إلى الظهور الإلهي، ثُمَّ تلى التأكيد على هذه النبؤات من خلال نصّ فريد بالعَهْد الجديد، بحسب الرواية المتّاويّة. لذا سنتدرج بين العَهْدين مُنطلقين من فكر أَشَعْيا  لنصل لفكر متى التلميذ الذي يصف حدث فريد من نوعه وفقط في إنجيله يتم سرد حدث الظهور الإلهي للشعوب من خلال توقفنا على حدث اللقاء بين (الملوك) المجوس والملك الـمولود ببيت لحم. هادفين لنتعرف نحن اليوم على علامات ظهور إلهنّا بشكل حيّ وبسيط يتناسب مع زمننا الـمُعاصر.

 

1. لّاهوت المقطع الإِشعْيائي (60: 1-6)

 

المقطع الذي إخترناه ينتمي للجزء الأخير من النبؤة الإشَعْيائية (56- 66). يحمل النصّ الأوّل (أش 60: 1- 6) رسالة بهجة ونُّور لأُورَشَليمَ. وقيه تتمحور رسالة النبي حول مجئ المسيّا. يحمل هذ الإصحاح صور نُّورانيّة ومُرسلة للنُّور الذي سيُشرق على الشعوب بأجمعها وليس فقط على شعب إسرائيل. يستعيد الكاتب صورة ذُكرت قبلاً: «يَكونُ في آخرِ الأَيَّام أَنَّ جَبَلَ بَيتِ الرَّبِّ يُوَطَّدُ في رَأسِ الجِبالِ وَيرتَفعُ فَوقَ التِّلال. وتَجْري إِلَيه جَميعُ الأُمَم وتَنطَلِقُ شُعوبٌ كَثيرةٌ وتَقول: هَلُمُّوا نَصعَدْ إِلى جَبَلِ الرَّبّ إِلى بَيتِ إِلهِ يَعْقوب وهو يُعَلِّمُنا طُرُقَه فنَسيرُ في سُبُلِه لأَنَّها مِن صِهْيونَ تَخرُجُ الشَّريعَة ومِن أُورَشَليمَ كَلِمَةُ الرَّبّ [...] لِنَسِرْ في نُّور الرَّبّ» (أش 2: 2- 5). سيصير هيكل أُورَشَليمَ  كالمنّارة التي ستجذب شعوب الأرض. النُّور الّذي سيشع من المنّارة بأُورَشَليمَ، سيتوسع في هذا المقطع بتعبيرات كونية ويتكرر بألفاظ أخرى. لذا الصعود لجبل أُورَشَليمَ من قبل الشعوب سيكون جوهري ويحمل مفاجأت تبدأ من تغييرات فلكيّة. وهنا لابد من التحرك والتنقل من مكاننا الثابت للتمتع بهذا النُّور الحامل السلام الّذي سيؤسس السلام مبتدأً بأُورَشَليمَ، ثم ينطلق لكل أرجاء المسكونة. في هذا المقطع سنتبع أشعيا 60: 1-6 إلا أن تأثير النُّور سيستمر حتى أشعيا 62: 20.

 

 

2. ظُهور النُّور (أش 60: 1- 3)      

 

أثناء عتمة الليل الحالكة والظلام شديد السوّاد، يظهر فجأة نُّور سماوي مُعلنًا وقت السحر الذي يضئ السماء بأكملها من خلال نقطة مركزية يراها جميع الشعوب بحسب دعوة النبي: «قومي آستنيري فإِنَّ نُّوركِ قد وافى ومَجدَ الرَّبِّ قد أَشرَقَ علَيكِ. ها إِنَّ الظُّلْمَةَ تُغَطِّي الأَرض والغَمامَ المُظلِمَ يَشمُلُ الشُّعوب ولكِن عليكِ يُشرِقُ الرَّبّ وعلَيكِ يَتَراءَى مَجدُه فتَسيرُ الأُمَمُ في نُّوركِ والمُلوكُ في ضِياءِ إِشْراقِكِ» (60: 1- 3).

 

يشير هذا النُّور إلى إشراق "الكافود" بالعبري أي "مَجدَ الرَّبِّ" لذا كل الشعوب الَّتي تقبل الدعوة ستتجه نحو هذه النقطة النُّورانية الغير مُنتظرة وتجذب الجميع بلا إستثناء. لذا حتى الأبناء البعيدين والشعوب الوثنية، سيبدأون بالتوجه إلى أُورَشَليمَ بقيادة هذا النجم المُنير. يُشبه النُّور في هذا النص بالمطر الذي يملأ كل أرجاء أُورَشَليمَ، التي لا يشير النبي صراحة عنهها ولكن نفهمها بشكل ضمني. بدء مسيرة الأبناء أولاً ثم الشعوب الآخرى نحو بيت يعقوب، أي أُورَشَليمَ، وينفتح الأفق الشامل للملوك والشعوب. ستأتي قافلات مُحملة بالـجِمَال والإبل، وهنا يبدأ ترميم أُورَشَليمَ وفتح الكنوز وإعلان إنتصار السلام والعدل والنُّور الآتي لكل البشريّة، بسبب ظهور مَجدَ الرَّبِّ.

 

حينما ينفجر النُّور من جديد تتأمل أُورَشَليمَ بنظرة الأم داعيًا إياها النبي قائلاً: «إِرفَعي عَينَيكِ إِلى ما حَولَكِ وآنظُري كُلُّهُمُ آجتَمَعوا وأَتوا إِلَيكِ. بَنوكِ مِن بَعيدٍ يَأتون» (60: 4) نجد تكرار لفظ "أور" النُّور بكل الصفات النُّورانيّة التي يعكسها الإشراق والضياء. أوّل مَن يتمتع باشراق النُّور بحسب أَشَعْيا هم الأبناء، ثم تصل قافلات كثيرة ليس بسبب الـمُتاجرة بل يحملون الكنوز مرافقة بالتسابيح للإعتراف بملك إسرائيل. تتأمل أُورَشَليمَ مُستقبلة السفن بشراعها حاملة الثروات لـمَن يصل عبر البحر، وهناك مَن يصل إليها عبر البرَّ مُستخدمًا الإبل والجميع مجعو للإقترب للتمتع بالنُّور الذي يشع من مركزها، ومن هنا تتبدل حالة أورشليم الأم: «حينَئذٍ تَنظُرينَ وتَتَهَلَّلين ويَخفُقُ قَلْبكِ وَينشَرِح  فإِلَيكِ تَتَحوَلُ ثَروَةُ البَحْر وإِلَيكِ يأتي غِنى الأُمَم. كَثرَةُ الإِبِلِ تُغَطِّيكِ بُكْرانُ مِديَنَ وعيفَة كُلُّهم مِن شَبَأَ يَأتون حامِلينَ ذَهَباً وبَخوراً يُبَشِّرونَ بِتَسابيحِ الرَّبّ» (60: 5- 6).

 

 

3. مُغامرة الترحَّال (مت 2: 1- 12)

 

 بدخولنا التدريجي في سيّاق السرد المتّاوي، سنتعرف في مرحلة أوّلى على الطريقة التي توَّصل بها هؤلاء المجوس الوثنيين إلى ملك اليهود الحقيقي أي يسوع وليس هيرودس. ثم سنكتشف كيفية توصولهم في نهاية رحلتهم ليس للقاء الملك فقط بل إلى عبادته كإله لإكتشافهم مجده أيضًا. يُقدم لنا متى مغامرة ترحال ملوك الشرق بهدف لقائهم بالملك. يمكننا أن نتلمس في هذا اللقاء رسمًا تخطيطيًا لـ "لّاهوت الوحي" في شكل سردي. كثيراً لا يقدم الكتاب المقدس اللّاهوت بأيّ نصّ لنا كأطروحة منهجية، أو كشيء يجب دراسته وتعلّمه، ولكن كسرد حتى نتمكن من معايشته وإستيعابه، وفي بعض الأحيان نكتشفه بشكل تدريجي. وهنا يبدأ السيّاق من خلال الدخول في مغامرة السفر وبدء رحلة يرتحل فيها المؤمن الباحث من مكانه مُتجهًا نحو إلهه. يبدأ المجوس من التحرك من مكان غير محدد على الأرض، ولا نعرف مِن أين أتوا بالفعل على المستوى الجغرافي. لكن بحسب قول أَشَعْيا، في المقطع الذي يُشكل لنا الخلفية الكتابية للنص الذي يرويه متى الإنجيلي، إنهم ينجحوا في الوصول للمكان الأساسي بأُورَشَليمَ ليعبدوا الرب: «إِرفَعي عَينَيكِ إِلى ما حَولَكِ وانظُري كُلُّهُمُ آجتَمَعوا وأَتوا إِلَيكِ. بَنوكِ مِن بَعيدٍ يَأتون» (أش 60: 4). ربما يَكمُّن وراء صمت الإنجيلي فكرة أن المجوس يأتون من الشرق، لكن هذا مصطلح عام؛ وهو ما يشير إنه يمكن للباحث عن اللقاء بالرَّب أن يأتي من أي مكان في العالم. فهي دعوة مفتوحة لأي شخص، يمكن له أن يبدأ مسيرة الترحّال والبحث عن الملك المسيا ليعبده وليتمتع بظهور نُّوره.

 

  

4. ظهَورَ النَّجْم (مت 2: 1- 2)

 

في مُستهل رواية متى للحدث،واضعًا أمامنا علامة خاصة على طريق المجوس نحو أُورَشَليمَ، فقد رأوا نجم "مَلِكُ اليهودِ" في ظهوره العجيب. ظهور هذا النجم سيصير هو العلامة التي تقود على الطريق. من المؤكد أن النجم هي رمز مسيّانيّ في الكتب المقدسة العبرية بحسب سفر العدد: «كَلامُ مَن سَمِعَ أَقوالَ الله ومَن عَرَفَ مَعرِفَةَ العَلِيّ ومَن يَرى ما يُريه القَدير ومَن يَقعُ فَتَنفَتِحُ عَيناه. [...] يَخرُجُ كَوكَبٌ مِن يَعْقوب ويَقومُ صَولَجانٌ مِن إِسْرائيل» (عد 24: 16- 17). كان سائد الإعتقاد لدى شعوب العصور القديمة عند ولادة ملك، يضيء نجم ويمكننا تفسير رمزية النجم على أنه علامة موضوعة في حياة الإنسان مثل أحداث الحياة، التي تقود المؤمن إلى اكتشافات لم يستطع الوصول إليها بمفرده. بقيادة هذا النجم، يصل المجوس إلى مكان الملك.

 

 

5. إكتمال النبؤة (أش 60: 3؛ مت 2: 2)

 

بُناء على ظهور النجم هناك تساؤل يقود المجوس «أَينَ مَلِكُ اليهودِ الَّذي وُلِد؟ فقَد رأَينا نَجمَه في المَشرِق، فجِئْنا لِنَسجُدَ لَه» في رحلة البحث التي بدأت بفضل هذه العلامة الغامضة، كهدية من الله. والسبب هو تحقيق النبؤة: «لأَنَّ مِن صِهْيونَ تَخرُجُ الشَّريعَة ومِن أُورَشَليمَ كَلِمَةُ الرَّبّ» (أش 2: 4). بالضرورة، تستمر رحلة البحث عن عبر أُورَشَليمَ مستجوبين الخبراء في الشريعة. يتلقى المجوس إجابة دقيقة من الكتبة: مسقط رأس المسيح، المدينة التي مُسِح فيها داود ملكًا وهي "بيت لحم". يرد كتبة الشعب بالاستشهاد بالأسفار المقدسة لإسرائيل (مي 5 : 1- 3؛ 2 صم 5:2)، فهم يعرفون الكتب المقدسة جيدًا ويعرفون أين سيولد المسيح المنتظر. ومع ذلك، فإن هذه الشخصيات لا تخطوا العلماء بالشريعة خطوة واحدة نحو المكان الذي ولد فيه. نحن أمام مفارقة: أولئك الذين يعرفون الكتب المقدسة يعرفون كل شيء، لكنهم لا يلتقون بالمسيا المنتظر. بعض الوثنيين بفضل علامة وُضِعَّت في حياتهم دفعتهم لبدء المغامرة وصولاً إلى في بيت لحم. بدون معرفة الكتب المقدسة، إلى إنهم تفوقوا بتبعيّة علامة النجم، الموضوعة في حياتهم. رسالة متى لنا اليوم أن معرفة النصوص المقدسة لهو أمر ضروري لكنه ليس كافياً، فنحن بحاجة إلى القدرة على الاستماع إليها، والتحلي بقلب مطيع لها. بكلمات أخرى الكنيسة ليست كافية لضمان الخلاص الإلهي. كما هو الحال تحت الصليب، سيعترف الوثني أن هذا الإنسان هو "ابن الله" صليب، مكتوب على الصليب "ملك اليهود"، حتى يعرف المجوس الوثني كيف تعرف على ملك اليهود الذي ولد في ابن بيت لحم.

 

 

الخلاصّة

 

نودّ أن نختتم مقالنا هذا بفعل له قيمته اللاهوتيه لدى متى وأشعيا وهو يتقدم. أشار إليه أشعيا ضِمنيًا أما بشكل مباشر ذكره متى فقال: «وإِذا الَّنجْمُ الَّذي رأَوهُ في المَشرِقِ يَتَقَدَّمُهم حتَّى بَلَغَ المَكانَ الَّذي فيه الطِّفلُ فوَقفَ فَوقَه» (مت 2: 9). نفس الفعل الذي إستخدمه متى عند "ظُهور النجم" الذي تقدّم المجوس في مغامرتهم من اللغة اليونانية proago يكررها ثانية متى مُعلنًا بـ: «إِنَّ الجُباةَ والبَغايا يَتَقَدَّمونَكم إِلى مَلَكوتِ الله» (21: 31). كفكر مُعاصر لنا اليوم أن نفكر أن النجم الذي يظهر ليقودنا للقاء المسيح الملك، لا يمكننا أن نتبعه بدون أُورَشَليمَ والكتب المقدس، هم على وجه التحديد جباة الضرائب والعاهرات، أولئك "الفقراء" الذين ليس لديهم ما يُطالبون به أمام الله، لديهم كل شيء لتلقيه. هذه هي العلامات أيّ النجوم الموضوعة في حياتنا لتضعنا على الطريق بحثًا عن الملك المولود. فلنغامر ونبدأ بالسير في "نُّور الرّبّ" الملك بذلك ستبدأ ولن تنتهي الأحداث الميلادية في حياتنا.