موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الثلاثاء، ١١ نوفمبر / تشرين الثاني ٢٠٢٥

أين يتواجد الفرح؟

أين يتواجد الفرح؟

أين يتواجد الفرح؟

 

كثرت الأمراض النفسيّة وتناول العقاقير للعلاج النفسي أو الجسدي، وتفاقمت الشرور والويلات بسبب أنانيّة رؤساء بعض الدول التي لا تشبع من القتل والتشريد  والنهب والسلب، وبسبب شعار الأفراد الذين يُطبّقون في حياتهم المقولة: "أنا ومن بعدي الطوفان"، وهي تعبّر عن الأنانية واللامبالاة بما سيحدث بعد رحيل الشخص. تُستخدم هذه العبارة لوصف الأشخاص الذين يهتمّون بمصالحهم الشخصية غير مبالين بما يحدث للآخرين. وشتّان ما بين نمط حياتهم هذا ووصيّة الله: "أحبب قريبك كنفسك".

 

والقاعدة الذهبيّة التي ثبّتها السيّد المسيح ووسّع امتدادها إلى كلّ انسان بترداده وصيّة ربّ العزّة: "أحبب قريبك كنفسك...". وانفرد المعلّم الناصريّ بوصيّة تبدو شاقّة ومحالة الإنجاز ولكنها الدواء لكلّ داء والهدنة لكلّ عداء: "أحبّوا  أعداءكم، وباركوا لاعنيكم". وهنا تكمن أهمّيّة الإرادة الطيّبة.

 

كلّنا نعلم بأن تحقيق رغباتنا لا يؤدّي إلى الفرح، لأن رغباتنا تتحوّل وتتبدّل مع الزمن، وما نرغب فيه اليوم نرغب عنه غداً. وهكذا قلّما نرضى بحظّنا وقسمتنا، فنقف عند عتبة الحياة كمتسوّلين دائمين: "يا رب حقّق لي أمنيتي... نجّحني في الامتحان... ليتني أحصل على ذلك المنصب... ليتني أربح اليانصيب... أحلم في أن أكون من أصحاب الأموال...". وتتكرّر طلباتنا بلا عدّ ولا حصر، وهي أشبه بالمُسَلسلات التلفزيونيّة الطويلة التي لا تنتهي على مدار السنوات. وصدق المثل: "اثنان لا يشبعان: طالب علم وطالب مال".

 

الإرادة الطيبة ضروريّة في هذا المجال الهامّ، مثل الطالب الذي يرغب في النجاح من أجل مستقبل باهر فينكبّ على الدراسة وينهمك فيها بجدّ واجتهاد. ومثل البستانيّ الذي يرغب في حديقة جميلة تُفرح القلب فيشرع في غرس الأزهار بألوان خلاّبة، واذا أراد ورداً شَتَل الورود... أمّا من يريد الفرح وراحة البال ويتوق اليهما، فعليه ببذور الفرح التالية التي تنتظره ليزرعها في حياته وفي عقول وقلوب أفراد أسرته :

 

سرّ الفرح يكمن براحة الضمير والعمل بوصايا الله. بإكرام الوالدَين ورعايتهما ومحبّتهما. ومن أسرار الفرح نسيان الذات والاهتمام بتوفيره للغير، أي ببذل الذات وخدمة الآخرين بداية بالبيت. وفي السعي إلى إتقان الأعمال والوظائف اليوميّة. في التواصل مع الكون الواسع كما خلقه الله، عن طريق معالجة آلام البشر ومشاكلهم، والتخفيف عنهم في أمراضهم وأحزانهم... وتلبية حاجة الوحيد والمشرّد واليتيم والفقير، والمسجون والمهجّر والأسير...

 

ليس الفرح في أن يملك الإنسان قصوراً ومتاعاً وثروات.. لأن المرء لا يقنع بما قسم الله له، إنّما هو مطبوع على طلب المزيد. فالعلّامة يرجو لو يُصبح أكثر علمًا والغني أكثر غنى، والمحظوظ أو المحبوب يحلمان بمزيد من الحظ أو الحب. فلا العلاّمة راضٍ عن حاله، ولا الغني، ولا المثقّف، ولا التاجر... اذا لم يكونوا في سلام وطمأنينة مع الله خالقهم، ومع ذواتهم، ومع القريب.  وهذا المثلث الذي يتكوّن من الله والذات والقريب، يجب أن نضع فيه مخافة الله على رأس الزاوية. ولا غرابة في ذلك كلّنا يبحث عن الفرح الداخلي، نحن في ذلك  أشبه بالذي يفتّش عن نظّارتيه وهما على أنفه!!! الفرح سهل المنال في هذا العالم، ولكنّنا نسعى اليه حيث لا يوجد.

 

لكن القلق والخوف جزء لا يتجزّأ من حياتنا وكياننا ووجودنا، لذلك لا بدّ من مواجهة متطلّبات الحياة بجدّ وشجاعة، دون تحاشي القلق أو التهرّب منه. والأفضل من ذلك كلّه التعايش مع القلق تماماً مثلما نتعايش مع المواقف الجميلة والسارّة في حياتنا اليوميّة. أمّا الانسان الذي يبحث عن الحلّ الأمثل فبإمكانه البوح بعجزه وحاجاته إليه تعالى كي يتحوّل شعوره إلى فرح رغم التقلّبات والعراقيل التي تطرأ عليه وعلى حياته.

 

لقد علّمتنا الحياة أنّها تحوي الحلو والمُرّ، وأن الإنسان مُعَرّض لنوائب كثيرة، وأنّ العمر قصير أيامه ورد حينًا وشوك في أحيان أخرى. إنّما هنالك من الأيام ما نريد التمسّك بها.. ولكنّها تزول وتفلت من بين أيدينا. ولربّما وقعنا بعد ذلك في صعوبات وأزمات، أو تخبّطنا في دياجير الظلام عن طريق محن قاسية وتجارب مريرة. حينئذٍ إن كنّا صادقين في إيماننا بالله نبتسم لتلك التجارب ونشعر بفَرح في أعماقنا، لأن ذلك الظلام "هو ظلّ يديّ الله الممتدّتين لمعانقتنا..."

 

ينبغي أن نجمع كلّ إمكاناتنا ونضعها في خدمة الآخر: خبرتنا، علمنا، معرفتنا، ابتسامتنا، عزمنا، حنوّنا، ذكاءنا، ثروتنا... لأنّنا اذا عشنا مبالين بفرح سوانا ومتأهّبين للخدمة... واذا أصبحنا شمعة تضيء طريق الغير وتوفّر الراحة لهم، اذا حقّقنا كلّ ذلك، سوف نشعر في أعماقنا بنسيم من الطمأنينة... ألا وهو الفرح.

 

لا يتواجد الفرح في مكان ما، إن لم يكن في أعماق الانسان... الفرح لا ينحصر في هذا أو ذاك من البشر ولا هو متوقّف على توفير بعض الأشياء الزمنيّة، يمنحه الله للإنسان الذي يستحقّه حسب نيّته! يرتبط الفرح بعلاقة الفرد مع الله. إنْ كنّا نطلب الفرح الحقيقيّ فلنجتهدنّ في أن نميل إلى الزهد  ولا ننهمك في الضلال والغواية...

 

خاتمة

 

أوَلم ينبّهنا السّيّد المسيح في الإنجيل الطاهر بهذه العبارة الحكيمة: "ماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم كلّه وخسر نفسه؟! أم ماذا يُعطي الانسان فداءً عن نفسه؟!".