موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
هكذا صرّحت مكاتب الأمم المتحدّة، أخيرًا ومؤخرًا، بأنّ ما يحدث في غزة كارثة إنسانيّة قلّ نظيرها في التاريخ. إنّها مجاعة من صنع الإنسان، لا بفعل الطبيعة، أو بسبب تغيّر المناخ أو نقص الموارد بشكل طبيعي، بل بفعل قرارات بشريّة قاسية صنعت هذه المأساة. فالإنسان قادر على القتل والتهجير وهدم البيوت ومحاصرة الناس، واليوم بات قادرًا أيضًا على تجويع الأطفال والنساء والشيوخ والرجال، بل شعب بأكمله.
لم تعد المجاعة في غزة مجرّد شعار إخباري، بل أصبحت واقعًا رسميًّا. فمنذ ثلاث سنوات، والعالم يراقب هذا العنف والقتل والتدمير، لكن المؤلم حقًا أن ترى الأطفال يصرخون بلا طعام ولا من ينقذهم! إنّ المجاعة تُحرم جسد الإنسان من قوته، وتفتح الباب واسعًا أمام الأمراض والعدوى، لتكتمل الكارثة مع نقص الدواء كما الغذاء. إنّه قتل سافر لشعب بأكمله على مرأى العالم برمته.
لقد أعلنت الأمم المتحدة، بقوانينها ومعاييرها ومقاييسها، بوضوح أن ما يحدث في غزة هو مجاعة من صنع الاحتلال الإسرائيلي، وأنه يتحمّل المسؤوليّة المباشرة عن حرمان السكان من حقهم في الغذاء والعلاج. فهل بقي وقت للحديث عن "حقوق الإنسان" التي ترفعها الأمم المتحدة؟ أم أنّ الاحتلال أطاح بكلّ حق إنساني، ليس فقط الحق في الحرية والكرامة والعدالة والاستقلال، بل حتّى بأبسط الحقوق: المأكل والمشرب؟
إنّ المساعدات الأردنية المشرّفة، التي يقودها الجيش العربي وسلاح الجو الملكيّ بتوجيهات من جلالة القائد، جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين المعظم، هي مبادرات إنسانيّة شجاعة تحاول كسر الحصار وإيصال الغذاء إلى الشعب المنكوب والجائع. لكن هذا الجهد الأردني بحاجة إلى إسناد ومؤازرة دولية عاجلة، بعيدًا عن الإبطاء والتردّد والنقاشات العقيمة حول جدوى هذه المساعدات. وفي الوقت الذي ينشغل فيه البعض –المعروفون بالتنظير والانتقاد- بتوجيه أصابع الاتهام إلى الأردن، وكأنه يخطئ بإرسال العون، يواصل الأردن مسيرته الإنسانيّة بثبات، غير آبه بهذه الأصوات التي لا تساوي شيئًا أمام فداحة المأساة.
بدوره، دعا قداسة البابا لاون الرابع عشر إلى يوم صلاة وصوم من أجل السلام في فلسطين وأوكرانيا، مؤكدًا أنّ السلام الحقيقيّ هو نعمة من الله، وليس ثمرة لمساعٍ بشريّة أو لقاءات دبلوماسيّة هنا وهناك. وقد استبق قداسته الإعلان الأممي بصرخة إنسانيّة في 27 تموز الماضي، حين قال: "أُتابع بقلق شديد الوضع الإنساني الخطير جدًّا في غزّة، حيث الجوع يسحق السّكان المدنيّين، ولا يزالون يتعرّضون للعنف والموت".
في النهاية، قد لا نستطيع نحن وحدنا حلّ مأساة غزة، لكن الحقيقة الواضحة أن الحلّ الجذري للمجاعة لا يتم إلا بوقف إطلاق النار الشامل والدائم. غزة التي صبرت وثبتت ولم تستسلم، إلا أن صبرها وضعف شعبها استُنزف بفعل القتل والجرح والتهجير، وها هي اليوم تُجوّع عمدًا أمام أعين العالم.
دعاؤنا إلى الله أن يُسكت صوت الحرب، وأن تصل المساعدات إلى المحتاجين فورًا، وأن يتحرّك المجتمع الدولي عاجلًا لإيجاد حل شامل وعادل ونهائي. فليس الأمر مجرّد مواجهة أزمة إنسانية عابرة، بل ضرورة لإعادة الحياة إلى الأرض المقدّسة بكل سكانها، مسلمين ومسيحيين، كي لا يضطروا إلى الهجرة، بل ليكونوا علامة حيّة على هذه الأرض، التي أنجبت الأنبياء والرسل، ما زالت أمًّا لشعب قوي وحيوي، تثبت للعالم أن الحياة ما زالت تنبض في عروقها رغم كل المآسي.