موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
اغناطيوس يوسف الثالث يونان، بطريرك السريان الكاثوليك الأنطاكي
مقدّمة
ها هو الصوم الكبير قد دنا، إنّه زمنٌ مقدّسٌ، والكنيسة أمّنا تدعونا في واحدة من وصاياها السبع أن نحافظ على ممارستنا للصوم - كلٌّ بحسب مقدرته - بقلبٍ مفعَم بالحبّ للفادي الإلهي الذي منحَنا الخلاص. الصوم، وإلى جانب كونه "انقطاعاً" عن الطعام لفترة محدَّدة من اليوم، تمتدّ من منتصف الليل حتّى الظهر، ثمّ "قطاعةً" تقوم على الاكتفاء بتناول الأطعمة الخالية من المنتَجات الحيوانية، هو زمن الفرح والرجاء وعيش المحبّة لله وللقريب، ولا سيّما للأكثر حاجة إلى محبّتنا. الصوم الكبير هو بداية طريق جديدة ومسيرة روحية تمتدّ أربعين يوماً قبل أسبوع الآلام الخلاصي، وتقودنا إلى فصح القيامة. في زمن الصوم، نتذكّر صوم الرب يسوع في البرّية وانتصاره على إبليس، وتشكّل قمّةَ الصوم المصالحةُ وترميمُ العلاقة مع الله والذات والإخوة، بإعادة ترتيب سلّم الأولويات في حياة كلّ مؤمن ومؤمنة على ضوء هدي كلمة الرب المحيية. بالصوم والصلاة والتقشّف وسماع كلام الله نهذّب الذات، وبالصلاة والتوبة نجدّد علاقتنا بالله كأبناء، وبأعمال المحبّة والرحمة نقوّي روابط الأخوّة مع القريب.
"قَدِّسوا صومًا"
لنلبّي اليوم، أيّها الأحبّاء، دعوة الله لنا بأن "نقدّسَ صوماً" (يؤ1: 14)، أي أن نخصّص فعلاً فترة الصوم الكبير لله وحده، فنكوِّن في هذا الزمن علاقة عميقة مع الله. فما هذا الزمن إلا زمن الإيمان بالله، وقبوله في حياتنا، والسماح له "بالإقامة" معنا (را. يو14: 23). لتكن هذه الفترة الزمنية فترة مقدَّسة، ننكبّ خلالها على تغذية إيماننا من خلال إصغاءٍ أكثر انتباهاً وتعمّقاً بكلام الله، وعلى الاشتراك في الأسرار المقدّسة، وفي الوقت عينه، على النموّ في المحبّة، محبّة الله ومحبّة القريب، وذلك من خلال الأوّليات الخاصّة بهذا الزمن الروحي، أي بالصوم والصلاة والصدقة. فهذه الأركان الثلاثة، كما قدّمها يسوع في كرازته (را. مت6: 1-18)، هي شروط توبتنا وعلامات لها. فطريق الإماتة (الصوم)، والحوار الأبوي مع الآب (الصلاة)، والمحبّة تجاه أيّ شخص مجروح عبر نظرةٍ أو عمل خير (الصدقة)، كلّها تجعلنا نُظهِرُ إيماناً صادقاً، ورجاءً حيّاً ومحبّةً فاعلة.
كما أنّنا مدعوون أن نبتعد عن كلّ ما يُعيق مسيرتنا نحو الله، ونحرّر حياتنا من كلّ ما يثقلها، بإخلاصٍ تامّ وتوبةٍ صادقة، لكي نفتح أبواب قلوبنا لِمَن "مِلؤُه النعمةُ والحقّ" (يو1: 14): ابن الله المخلّص.
في هذا الزمن المقدّس نجدّد إيماننا، ونستمدّ "ماء الحياة" (را. يو4: 10) من سيّد الحياة، ونقبل بقلبٍ منفتحٍ محبّةَ الله التي تجعل منّا إخوة وأخوات في المسيح. ولنتذكّر أنّ كلّ ما يريده الله منّا هو قلبنا، فهو يقول لنا: "يا ابني أعطني قلبك" (أم23: 26).
الله لا يُريد ذبائحنا بل الرحمة
لقد تجلَّت محبّة الله المجانيّة لنا من خلال إعلان الإنجيل، البشرى السارّة، بشرى تجسُّد ابنه الوحيد بيننا وموته وقيامته. ومع الله، المحبّة الكاملة (را. 1يو4: 16)، نفهم أنّ الحبّ هو مصدر كلّ شيء، أي بطريقة أخرى، كلّ شيء ينطلق من الحبّ ويتوق إلى الحبّ. "فنحن ما أحبَبْنا الله بل هو الذي أحبَّنا" (1يو4: 10). وكجوابٍ منّا على هذا الحبّ، ما علينا إلا أن نتقبّله ونَثبُتَ وننموَ في هذا الحبّ، ونُشرِكَ فيه الآخرين بفرح. وهذا ما تعبّر عنه كلمات المثلَّث الرحمات البابا بنديكتوس السادس عشر: "فإنَّ المحبّة الآن لم تعد مجرّد "وصية" فقط، بل صارت جواباً عن عطيّة المحبّة، والتي بها يأتي الله إلى ملاقاتنا" (الرسالة العامّة الله محبّة DEUS CARITAS EST، 2005، العدد 1).
إنّ الله لا يريد الذبائح التي نقدّمها بطريقة شكلية، فيما يتجاهل قلبنا نداء المحبّة. ولكنّه يريد رحمةً، أي قلباً مملوءاً حبّاً ثابتاً. يريد الله الأعمال الصادرة عن توبة وتغيير حقيقي في القلب، وهذه تتجلّى في تعامُلنا برحمةٍ مع بعضنا البعض.
"أريدُ رحمةً لا ذبيحة": في نصّ متّى الإنجيلي (9: 9-13)، يستشهد يسوع بهذه الآية من النبي هوشع (6: 6)، عندما كان متّكئاً إلى المائدة في بيت متّى، وإذا عشّارون وخطأة جاؤوا واتّكأوا معه. رآه الفرّيسيون، فأخذوا يقولون لتلاميذه: "ما بالُ معلّمكم يأكل مع العشّارين والخطأة؟". سمع يسوع كلامهم، فقال لهم: "إذهبوا وتعلّموا ما معنى: أريد رحمةً لا ذبيحة" (الآية 13)، وكشف لنا بوضوح أنّه ما جاء ليدعو الصالحين بل الخطأة، وبأنّ الأصحّاء لا يحتاجون إلى طبيب، بل المرضى. تعبّر هذه الآية عن أولوية المحبّة وتفوُّقها على كلّ وصيّة أو مفهوم آخر. يقول قداسة البابا فرنسيس: "إنّ المحبّة الرحومة والشفوقة ليست شعوراً مُبهَماً، بل تعني الإعتناء بالآخر بلا ثمن ودون انتظار مكافأة. إنّها الإلتزام من خلال القيام بجميع الخطوات الضرورية للإقتراب من الآخر... لا وجود لعبادةٍ حقيقيةٍ ما لم تتجسّد في خدمة القريب" (المقابلة العامّة، الأربعاء 27 نيسان 2016). هذا هو جوهر إيماننا المسيحي! جاء يسوع ليعلن لنا أنّ ما يريده الله منّا، رجالاً ونساءً، هو أن نُظهِر محبّة الله من خلال محبّة القريب. إنّها إرادة الله، كما سبق ووردت في الكتب المقدّسة، وما قول هوشع إلا تأكيدٌ على ذلك.
لتكن نظرتنا متجاوبةً مع "نظرة" المسيح
الصوم والصدقة، التي تقترحهما الكنيسة مع الصلاة، خصوصاً أثناء زمن الصوم الكبير، تشكّلُ فرصةً مناسبةً لنا كي تُصبحَ نظرتنا متماثلةً مع "نظرة" المسيح. فالمحبّة هي برنامج حياة كلّ مسيحي، والشريعة الأساسية لسلوكه، ومقياس تصرّفاته. محبّة القريب هي القاعدة الصلبة التي يبني عليها المؤمن حياته. إنّ "المسيحي هو شخصٌ اكتسبَه حبُّ المسيح، ومن ثمَّ، يحرّكه ذلك الحبّ، "لأنَّ محبّة المسيح تأخذ بمجامع قلبنا" (2كور5: 14)، وهو منفتحٌ بطريقةٍ ملموسةٍ وعميقةٍ على حبّ القريب" (البابا بنديكتوس السادس عشر، الرسالة العامّة الله محبّة DEUS CARITAS EST، 2005، العدد 33). من هنا، إنّ الذين يتصرّفون طبقاً لمنطق الإنجيل هذا يعيشون الإيمانَ كصداقةٍ مع كلمة الله المتجسّد، ويتحمّلون مثله مسؤولية التجاوب الصادق مع حاجات قريبهم المادّية والروحية، وهم يجسّدون المحبّة كسرٍّ في جوهر الألوهة لا ينضب، ويستحقّ قدراً غير محدود من العناية والانتباه.
وها هو مار أفرام السرياني، ملفان الكنيسة الجامعة، يحلّق في سماء الروح متأمّلاً عظمة الصوم المقبول والمتجاوب مع دعوة الرب: "إنّ الذي يصوم عن الخبز ويحفظ نفسه من السوء، يكون كالنسر السريع الذي لا يستطيع الشرّير أن يصطاده. والذي يصوم بنقاء، يسمو بفكره إلى العلى، ويحتقر شهوات العالم، إذ أنّ فكره مع الله هو. والذي يشاء أن يسكن في ذاك الملكوت الموعود، يدخل من الباب الضيّق. بالصوم يتشدّد الضعفاء. فمَن يكون أميناً في الصلاة والصوم والصدقات، يبلغ ذاك المكان المملوء بالأفراح والمباهج" (من باعوث (أي طلبة) مار أفرام، صلاة القومة الثانية من ليل الثلاثاء من الأسبوع الثاني من الصوم الكبير، في كتاب الفنقيث، وهو كتاب صلوات أيّام الآحاد والأعياد، الجزء الرابع، صفحة 244).
يُبدِّد الله ظلمة الخوف
في اتّباعنا مسيرة الصوم، نسير نحو احتفالات الفصح وقيامة الرب يسوع المخلّص، متذكّرين أنّه "وضع نفسه وأطاع حتّى الموت موت الصليب" (في2: 8). يقول البابا بنديكتوس السادس عشر: "الصوم الكبير هو وقتٌ مميّزٌ للمسيرة الداخلية نحو ذاك الذي هو ينبوع الرحمة. هي مسيرةٌ فيها يرافقنا هو نفسه خلال صحراء فقرنا، يسندنا في طريقنا نحو فرح الفصح الأسمى. حتّى في "وادي الموت" الذي يتحدّث عنه كاتب المزمور (مز23: 4)، بينما يدفعنا المجرِّبُ لليأس أو لوضع رجاءٍ عقيمٍ في عمل أيدينا الخاص، هناك يحرسنا الله ويسندنا" (من رسالة زمن الصوم 2006). وما أكثر أوقات الشدّة والموت في عالمنا اليوم، وخاصّةً بعد الزلزال المدمّر الذي ضرب تركيا وسوريا، وشعر به السكّان في بلدان عدّة، من بينها لبنان والعراق والأردن. ولكن لا ننسى أنّ الرب يسمع تنهُّدَ الناس المتعطّشين إلى الفرح والسلام والطمأنينة والمحبّة، والذين يشعرون بأنّهم مهمَّشون ومتروكون ومنسِيّون. رغم ذلك، حتّى في خراب البؤس والوحدة والمجاعة والكوارث الطبيعية التي تصيب دون تمييز، أطفالاً، بالغين، ومسنّين، يُبدِّد الله ظلمة الخوف. فلا نخافنَّ ولا نرهَب لأنّه "سائرٌ أمامنا، وهو يكون معنا، ولا يُهملنا ولا يتركنا" (را. تث31: 8). إنّه، بفائق حكمته وتدبيره، يُعين الجميع، ويُخرِجُهم من محنتهم، وينتشلهم من ظلام الموت، فيُقيمهم لحياةٍ جديدةٍ معه.
يقول البابا القديس يوحنّا بولس الثاني: "لا تنسَ أنَّ الحبَّ الحقيقي لا يشترط، إنّه لا يحسب ولا يشكو، بل يحبّ ببساطة". لِنَكُن في الصوم الأربعيني هذا أكثر حرصاً على "قول كلمات تشجيعٍ، تقوّي، وتعزّي، وتحفّز"، بدلاً من أن "تذلّ، أو تُحزِن، أو تُغضِب، أو تحتقر". فلكي أمنحَ الرجاء، يكفي في بعض الأحيان أن أكون "شخصاً لطيفاً، يضع جانباً مخاوفه وأموره الملحّة، كي يولي اهتمامه، ويقدّم ابتسامته، ويقول كلمة مشجّعة، حتّى يفسح المجال للإصغاء وسط الكثير من اللامبالاة" (راجع الرسالة العامّة كلّنا إخوة FRATELLI TUTTI للبابا فرنسيس،2020، العددان 223 و224).
"من أجل كنيسة سينودسية: شركة ومشاركة ورسالة"
لقد أنهينا للتوّ اجتماعات الجمعية السينودسية القارّية للكنائس الكاثوليكية في الشرق الأوسط، والتي انعقدت في دار بيت عنيا، في حريصا – لبنان، من 13 حتّى 17 شباط الجاري 2023، بمشاركة أصحاب الغبطة بطاركة الكنائس الكاثوليكية الشرقية وأساقفة وكهنة ورهبان وراهبات وعلمانيين وعلمانيات قَدِموا من جميع الكنائس الكاثوليكية في الشرق. وتشكّل هذه الجمعية المرحلة القارّية وحلقة في المسيرة السينودسية المستمرّة، استعداداً لسينودس الأساقفة الروماني الذي سيُعقَد في روما برئاسة قداسة البابا فرنسيس، بعنوان "من أجل كنيسة سينودسية: شركة ومشاركة ورسالة"، من 4 حتّى 29 تشرين الأول 2023. وقد تركّزت هذه الجمعية على الصلاة والتأمّل الروحي وتمييز المسيرة والتفكير والعمل معاً، مؤكِّدةً على الثوابت الأساسية للكنيسة.
وها هو قداسة البابا فرنسيس في رسالة الصوم لهذا العام 2023، بعنوان: "زهد الصوم، مسيرة سينودسية"، يجعل من مسيرة الصوم أشبه بمسيرة سينودسية: "يمكننا أن نقول إنّ مسيرة صومنا هي "سينودسية"، لأنّنا نقوم بها معاً على الطريق نفسه، تلاميذاً للمعلّم الواحد. نحن نعلم أنّه هو الطريق، وبالتالي، في المسار الليتورجي وفي مسار السينودس، لا تصنع الكنيسة شيئاً سوى أن تدخل في سرّ المسيح المخلّص بشكلٍ أعمق وأكمل".
خاتمة
أيّها الأحبّاء، إنّ الصوم الكبير هو الزمن المناسب لنتجدّد في لقائنا المسيح الحيّ، في كلمته، في الأسرار، وفي انفتاحنا وتقرُّبنا من القريب. ليدلّنا الرب يسوع مخلّصنا على الدرب الذي ينبغي علينا اتّباعه. وليرشدنا الروح القدس كي نقوم بمسيرة توبة حقيقية، فنكتشف مجدَّداً عطيّة كلمة الله المُحيية، ونتطهّر من الخطيئة التي تعمينا وتُبعدنا عن خِدمة المسيح الحاضر في الإخوة المعوزين. وهكذا نسيرُ معاً، ونحيا ونشهد لفرح الفصح والقيامة.
ومع آبائنا السريان نهتف: "هبنا يا ربّنا أن نصوم كلّنا صوماً مقدّساً بقلب نقيّ وبأفكار تسمو عن العالم، صوماً نقيّاً من كلّ الشوائب" (من لحن (هوذا الملكوت)، صلاة القومة الأولى من ليل الإثنين من الأسبوع الأول من الصوم الكبير، في كتاب الفنقيث، وهو كتاب صلوات أيّام الآحاد والأعياد، الجزء الرابع، صفحة 52).
ختامًا، نسأل الله أن يتقبّل صومكم وصلاتكم وصدقتكم، ويؤهّلنا جميعًا لنحتفل بفرح قيامته من بين الأموات. ونمنحكم، أيّها الإخوة والأبناء والبنات الأعزّاء، بركتنا الرسولية عربون محبّتنا الأبوية. ولتشملكم جميعاً بركة الثالوث الأقدس: الآب والإبن والروح القدس، الإله الواحد. والنعمة معكم.