موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
ثقافة
نشر الأربعاء، ٣٠ ديسمبر / كانون الأول ٢٠٢٠
بانة عبدالله ماضي، تكتب: أجراس…

بانة عبدالله ماضي :

 

الساعة الرابعة فجرا…..

 

ليلٌ باردٌ لا يكسرُ صمتَه المدوّي سوى قطراتُ المطرِ على نوافذِ المنزل، فأستيقظ من نومي الذي تمنّيْتُ لو أنّهُ طال قليلا في ظِلّ كلّ هذه الظروف الصعبةِ والأيام المتشابهَة، والطقسِ الباردِ الموحش. أُحاولُ جاهدةً لمدّةِ ساعةٍ كاملةٍ العودةَ إلى النّوم، وعند اقترابِ كلّ تلك المحاولاتِ من النّجاح، تُقْرَعُ أجراسُ الكنيسةِ المجاورةِ، و يملأ الرّنينُ الأجواءَ، فأسْتسلِمُ لبدايةِ يومٍ باكرةٍ أكثر ممّا تمنّْيت. لا أغادرُ السّريرَ بل أبقى مستلْقِيةً مُحدّقةً في سقفِ الغرفةِ، سارِحةً في اللّاشيء حتى تتعبَ عيناي من إِطالةِ النّظر؛ فأضع يديَّ المُتوتّرتَيْن على االطّاولةِ المجاورةِ باحثةً في العتمة عن نظّاراتي. وبعد أن أخذتها ولبستها شعرتُ براحةٍ كبيرةٍ وتركيزٍ أعْلى…. لكن لحظة ! ….كيف لي أن أشعرَ بالرّاحةِ والغرفةُ مُعْتمَةٌ أصلا، وإن لم تكن معتمة فالسقف أبيض بطبيعة الحال! أهو التّعوُّد؟ ذاك التّعوُّدُ الذي يحرمُنا لذَّةَ البداياتِ والتّجارِبِ الجديدة. يَحرِمُنا لذّةَ المُغامرة… مُغامَرةُ السَّكَنِ الجَديد… الحبّ الجديد… البَلدِ الجديد… وحتّى التّحدّي الجديد؛ فمُجَرَّدُ اعْتيادِكَ على تحدٍّ مُعيَّن يخرجه تلقائيًّا من كونه تحديًّا إلى كونه أسلوبَ حياة، ولا أظنُّ لحياتنا معنى بلا تحَدّيات. أم هُوَ عقْلُنا الباطنِ الذي يحرِّكُنا في كثيرٍ من الأحيانِ في اتّجاهِ اللّامَنْطقِ واللّامعْقول؛ فقط لأنّهُ يريدُ الرّاحةَ حتّى وإنْ كانت هذه الرّاحةُ مُتّسِمةً بالغَباء؟  أم أنّها مساحاتُنا الآمنةُ التي نأْبَى أن نتركَها خَوْفًا من المَجْهول؟.. ثم أعودُ للتّفكيرِ في ما وراءَ توقيتِ قرْعِ الأجْراسِ، في اللّحظةِ التّي كنتُ سأعودُ بها للنّوْم… للحلم… للراحة؛ فتتصدّر عَقْليّتي العربيّةُ المشهد، وتبدأُ بالتَّحليلِ من خلالِ نظريّةِ المؤامرة؛ فأقول: “نعم، كلّ شيءٍ ضدّي في هذه البلاد، لو لمْ أكنْ أنا لما كان قَرْعُ الأجراسِ في هذا الوقت، لكن كيف لهذا العالم أن يَمْنحَني ولو ساعاتٍ من الرّاحة”، وفي ثوانٍ جعلتُ من نفسي ضحيّةً، وقد ترك العالم كلُّه كلَّ شيءٍ واجتمع حتى لا أنام، مع معرفتي الأكيدةِ بأنّ هذه الكنيسةَ تقرع أجراسها في نفس الموعد منذ نصف قرن، ومن قبل مولدي بعقود، لكن كانَ يجبُ عليَّ لعب دورِ الضّحيّة؛ فهو الدورُ الوحيدُ الذي يُجرّدُني من المسؤوليّةِ، ونحن كَبَشرٍ نسْتلِذُّ في التَّخلّي عن مَسْؤوليّاتِنا الصّريحةِ، وإلقائِها على أيِّ شيْءٍ سوى أنفسِنا، مع يَقيني أنَّ السببَ هو لِتْر الكافيين الذي شربتُه قبلَها بِلَيلةٍ، أثناءَ تأمّلي في اللّاشيء كالعادة. ثم أقفزُ من دورِ الضّحيّةِ إلى دوْرِ المُتصوِّفِ الذي يؤدي إلى نَفْسِ المكان والنتائج، لكن بنكهةٍ روحانيّةٍ، كمخدّرٍ جيّد لثورةِ الغضب فأقول: “علَّها رسالةٌ من الله، أكيد كانت له حكمةٌ من وراءِ هذا الصباحِ الباكرِ الباردِ المعتمِ أكثر من اللّازم”، لكنّني أيضا أعرفُ أنَّ الأجراسَ تُقرَعُ بِشكْلٍ اعتِياديّ، ولا رسالةَ لي فيها، وأكرّر القولَ بأنَّه الكافيين بكلّ هذه البساطة، بعيدًا عن كل ذلك التّعْقيد.

 

وفجأة أتنبّهُ إلى أنَّ الصّباحَ أتى، وأنا تائِهةٌ في فلسفتي؛ فأضع قدميَّ على الأرض معلنةً ضرورةَ بَدْءِ هذا اليوم بأسرعِ وقتٍ قبْلَ أن أغرَقَ أكثر في تحليلاتي، وأصل إلى سؤال الدّجاجةِ والبيْضة؛ فأتوجّه صوْبَ المكتب لأرى جدْولي لهذا اليوم، وفجأةً ودون تفكيرٍ أمزّقُ الورقةَ كاملةً، وأعْلنُ بدايةَ يوْمٍ متمَرّدٍ على كلّ الأوقاتِ والساعاتِ والخُططِ والواجبات، وأقرّرُ أنني سأقْضي يومًا كامِلًا أُخصّصُهُ لنفسي. سأتناوَلُ الفطور الآن، وأخرجُ بعدها للمشي قبل أن تملأ السياراتُ الشوارع، ومن ثَمّ سأدَعُ أقْدارَ اليومِ تأخذُني إلى حيثُ تشاء. أجلسُ لتناول الفطور وشعري مبعثر في كلّ الاتّجاهاتِ، باحثة بعينيّ النصف مُغلقتَين عن عُلبَةِ رقائِق الذّرة، وأفتحُ بابَ الثلاّجةِ لإخراجِ الحليب، وعند إغلاقِها يقع نظري على المُلصَقِ المُثبَت على عُلْبة الرّقائق الإنجليزيّة الصُّنْع، والحليب الإنجليزيّ؛ فأستشعرُ جبران خليل جبران في الخلفيّةِ يهمِس:”وَيْلٌ لأمّةٍ تأكلُ مِمّا لا تَزْرَع”  لتتّجهَ أنظاري بعدها فورا إلى بابِ ثلّاجتي الذي يحمل مغناطيسا لخريطة فلسطين كُتِب فيه ” على هذه الأرضِ ما يستحقُّ الحياة”، وآخر للقدس ولحيفا ولبيت لحم وللكرمل، كما يحمل صورًا كثيرة جدا لنِساءِ فلسطين، بأثوابِهنَّ المطرّزةِ بالحُبّ والدّمع والدّم، وإلى جانب ذلك كلّه مغناطيس للطّفل حنظلة، وهو يدير ظهره، ولكن هذه المرة شعرتُ أنه يديرُ ظهرَه لي أنا وليس للعالَم. شعرتُ وكأنّ كلّ أطفالِ العربِ الجَوْعَى يُديرونَ ظهورَهم لي، ولطبيعةِ حياتي الرّغيدة ذاتِ الطّابع البُرجوازيّ الأنانيّ الاستعماريّ. وأنا الثّائرة دائما ضدّ كلّ ما هو كولونياليّ وطبقيّ ولا إنسانيّ. شعرت بالازْدِواجيّةِ تارةً، وبالخجلِ تارةً، وبالحزنِ على نفسي من أفكاري تارة، وبالسّخط على كلّ مَن جعلَنا نَصِل كشعوبٍ عربية لنقطةٍ نخجلُ فيها مِن تناوُل طبقٍ من رقائقِ الذُّرة والحليب تارة أخرى…… ما هذا البؤسُ الصباحيُّ يا الله!!. ويرجع جبران للمشهد مُواسِيا: “اصْبر، فالحيرةُ بَدءُ المعرفة.” فأُرْجِع كلَّ شيءٍ لمكانهِ وأُقرِّر تناولَ الزّيتِ والزّعتر؛ فهما أكثرُ ما يلائِم الخريطَةَ المُعلَّقةَ على عُنقي، والكوفيّةَ المُسْتلقِيَة على جِدارِ الغُرفة، ثم أشرع في ارْتداءِ ملابسي اسْتعدادًا للخُروج، وحَرَّكتُ مفاتيحَ بابِ المنزل بحذرٍ حتى لا أُصدِرَ ضجيجا فتخرج جارتي مردّدةً على مَسامِعي توبيخَها اليوميَّ من أنّ إطعامي لقطَطِ الحيّ هو السبب وراءَ اتّساخِ مدخلِ البيت، وخراب الزّرع، وثُقب الأوزون، وصفقَة القرن؛ فأحدُ أبرَزِ صِفاتِ الإنسان ظنُّه أنّه الوحيد الذي يستحقّ الحياة والطعام والشرابَ والرعايةَ والحنان على سطح هذا الكوكب، وكأنّه يحمِل صَكَّ ملكيَّةٍ للأرض، مع أنه هو نفسه أكثر الكائناتِ تخريبًا ودمويّةً ودمارًا ولا أخلاقية على كوكب الأرض. عموما هي إنسانةٌ، أعني جارتي، لا تيأس من توبيخِها المَقيتِ لي، وأنا إنسانة لا أيأسُ من ممارسةِ قناعاتي، وإطعامِ القطط، والحديثِ معها كلّ صباح عن أحْوالي وأحوالِها في هذا الشارع المليءِ بالتّناقُضات.

 

أبدأ مشوارَ المشيِ، وأضعُ سمّاعاتي، وأستمع لفيروز وهي تغني لـ “صبحي الجيز”، فأظنّها الأغنيةَ الأنسبَ لهذا الصباح الثّائرِ على نفسِه من نفسِه…. هذا الصّباحُ الثّائرُ على سياساتِنا وساستِنا…. الصباحُ المُشْبَعُ بنفحاتِ الاستعمار، وغربة اللّغةِ والهُوِيّة والثّقافة، والجارة الغاضبة التي لا ترى كلّ هذا وإنما ترى قططَ الحيّ وزرع الرّيحان والخبّيزة. أغنية “صُبْحي الجيز” هي لسانُ حالِ الفرد العربيّ الواعي في مجتمع أثقلَته التّفاهةُ والسّطحية….. هي غضبُ العربيّ المثقّف الثّائر في وجه الجَهل والتخلُّف؛ فكمْ من “رفيقٍ” هنا! وكم من “صُبحي” هناك! وكم نحتاج كشعوب عربيّة من “قَهْر” هنا وهناك حتى ننهضَ ثائرين في وجه الظُّلم المُعمّم في بلادنا السليبة الحزينة؟! وأمشي … وأمشي … وأمشي وحيدةً ومردّدة خلفَ فيروز: ” رفيق وما عندي رفيق”، وإذا بالهاتف المحمولِ يرنّ مُسرعا حتى لا يتحولَ المشهدُ من مشي وموسيقى إلى جُلوسٍ ودُموعٍ على الرّصيف. أرُدُّ بصوتٍ هادىء وعقلٍ شاردٍ لأسمعَ صوتَ فتاة تتكلّم بانْطلاق كبير وصوت مُرتفع وتقول: “آنسة أو مدام بانة ؟ ” …. أجيب:”بانة” …. تردّ بدورها :” حضرتك في نهاية العشرينات لذلك نتّصل بك من مركز التّجميل – وذكرت اسمَه – لنخبرَك بالعُروض على إبَر الفيلر والبوتكس، وعمليات الفكّ، وشدّ التّجاعيد حول العينين لنضارة وشباب عشريني دائِم”، ولجزء من الثّانية فقدتُ القدرةَ على النّطْق أو الاستيعاب، يعني … من قال لهم إنّني لا أحبُّ نفسي هكذا؟ … ومن قال لهم إنني على اسْتعدادٍ لوخْزِ وجهي وتعريض نفسي للألم والتّخدير لتغيير ملامِحي، وكأنّ التّقدم بالعمر أو التجاعيد عيب، أو كأنّ عمر العشرين هو فقط الجميل وكلّ ما بعده هو لا شيء سوى محاولاتٍ بائسةٍ خائبةٍ باتّجاه الجمال- على اعتبار أنّ الجمال الخارجي هو هدف من الأساس- فأجبتها باسْتهجان:” لا، شكرا لك، لسْتُ مهتَمّة” فتردّ بدورها:” لكنّ هذا العرض لا يتكرّر” فقلت:” ومن قال إنّ جمالي العشرينيّ يجب أن يتكرّر!!! …. أنا أريد أن أراني ثلاثينيّة، وخمسينيّة، وثمانينيّة. بالنتيجةِ، الحمدلله أنّ جمالَنا يختلف من عُمْر لآخر ولا يتكرّر، وإلّا لكانت حياتنا مُملّة للغاية، فوق المَلل الموجود أصْلا..” أغلقت الفتاة الهاتف، وأقسِم غَيْبا أنّها لعنت السّاعةَ التي اتّصلت فيها بفتاةٍ مثلي؛ فهي مثالٌ مُصَغّرٌ لشعوبِنا التي تعشقُ الكلماتِ المغلّفةَ بالسُّكر، وتجزعُ من الحقيقة؛ فالجَهْل دائما أدعى للراحة من الوَعْي. عجبتُ ممّا وصلْنا إليْهِ من سَطْحيّةٍ وشكليّاتٍ مَقيتةٍ في بلادِنا، وعجبت كيف استطاع هذا العالم الاسْتهلاكيّ من إقناع المرأة بأنّها فقط أداة للجنس … أنّها دُمية … شَكْل … جسَد، ووضع لها أيضا مِعيارا ثابِتا للجمال، ولشكلِ الجسد، وعمرا مُحدّدا له. وسَلَبَها كلّ صِفاتها كأيّ كائِنٍ حيّ طبيعيّ يكبُر ويَشيخ، ويتجعّدُ ويَبيَضُّ شعره وينحني ظهرُه. نجح في تحويلِها إلى كُتلةٍ من البلاستيك لا روح فيها ولا حياة.

 

المهمّ أغْلقتُ الأغاني، وتركتُ المشي، وعُدتُ مسرعةً إلى المنزلِ قاصدةً المِرآة بأيّ شكل من الأشكال، مُعبّأةً بكمّ هائلٍ من الغضب والأسئلة، ودخلتُ المنزل، ولم أفكّرْ لا في الجارةِ، ولا في القِططِ ولا في فاتورةِ الكهرباء التي تستَقبِلُني على الباب؛ فلا وقتَ في عُمري العشرينيّ لصرفِهِ على “سخافاتٍ” كحقوقِ الإنسانِ والحيوانِ واللاجئين والحبّ…  لدي الآن ما هو أهمّ، كَوَجْهي الذي يجبُ ألّا يكبُرَ خلال السنتيْنِ القادمتين، وإلّا فلن يُصْلحَ العطّارُ ما أفسَدَهُ الدّهر عند  دخولي في مدينةِ أشْباح الثلاثين.

 

 فتَحْتُ كلّ الشبابيك وأشْعلتُ كلّ الأنوار في وضَحِ النّهار وربطْتُ شَعْري للخلف حتى لا يؤثّر في وضوحِ الرؤية ويشتّتها. وبدأت اختراع شتى أنواع الانفعالات في ملامح وجهي حتى الانفعالات التي لا ينفعلها أحد؛ فقط لأضع يدي على هذا الشيء الثمين الذي يجب ألّا أخسره، وعندها يحبني ويحترمني ويقدّرني الرجال والمؤسسات وأرباب العمل. وصدقا لم أجد شيئا أخاف خسارته. سوى نفسي…. سوى كينونتي…. سوى احترامي لذاتي وأنوثتي وإنسانيّتي في حال قبلت الانسياق وراء لا إنسانية ولا عدالة ولا أخلاقية المجتمع تجاهي كامرأة.

 

 وفجأة يعلو صُراخ وشِجار بين شاب وفتاة تحت شُرفة الغرفة. الشاب يصرخ قائلا:” أنتِ تُريدين افتعالَ مشكلة فحسب، غيّري من انفعالاتِك وأسلوبِك فلم أعد أحتمل.” فترد الفتاة :” أنا لن أتَغيّر لأُرضيك، ولو كنتَ تُحبّني يجب أن ترضى بي وتحبّني كما أنا، ولا تسعى لتغييري.” فقلت لنفسي:”أخيرا…. امرأة تثق وتحب بنفسها” فألقيت بعينين مُتوارِيَتينِ خلف الستارة قاصِدتينِ رؤيةَ وجهِ تلك المرأةِ القويّةِ؛ فأصْدمُ برؤية ضحيّة حيّةٍ من ضحايا مكالمة هاتفية كالتي تلقّيتها قبل ساعة. فتاة في مقتبل العمرغالبا، تصبغ شعرها بألوان غريبة، تضع طبقات من المساحيق التّجميليّة، مَنفوخةَ الشّفاه، عريضةَ الحنَك، واشِمَة الحاجبين، ذاتَ أنْفٍ يكاد يفقدُ ملامحَه، ووجه مشدودٍ لدرجة أنّها كانت تصرخ بأَعْلى صوتِها، بينما وجهُها ثابتٌ لا يهتزّ أو يتحرّك. وهنا وفي تلك اللّحظة تحديدًا فقَدتُ قُدرتي تماما على تحْليلِ ما يحدُث حولي. فكيفَ لشَخصٍ غيرِ قادِرٍ على مَنْحِ هذا الحبّ لنفسه أن يُطالِبَ الآخر بمنحه إيّاه؟!

 

كانت خيبتي أشبهَ ما تكون بِخيْبَة نزار قبّاني حين قال:” خمسينَ سنةً حمَلْتُ المرأةَ على أكتافي وقاتلتُ مِن أجلِها وفي سبيلِ قضيّتِها لكنّها في عزّ المعركةِ تركتْني وذهبتْ إلى الكوافير.” نعم، شعرْتُ بالخَيْبة؛ فتركت التّسمّع إلى الشّجارِ الذي لم يعُدْ يَعنيني بعدَ أن اكتشفتُ هشاشةَ القوّة التي  توسَّمتُ فيها خيْرا فتجلّى زيْفُها؛ فأخرجْتُ قلمي الرّصاص وأوراقي، وبدأتُ سَرْدَ تفاصيلِ يومي الشّتويّ الفلسَفيّ الوُجوديّ، علّني أجدُ الطريقَ إلى نفسي في خِضَمّ تعريتها على الأوراق، ولكني كلما عرّيتها أكثر ازدْادتْ فلسفةً وتساؤلا عن ماهية وجودي المكانيّ والمجازيّ ها هنا على هذه الأرض بالذات…. هذه الأرضُ التي تدفعُكَ إلى المَنفَى والمَهْجَر البعيدِ البعيد، بكلّ ما في وسْعها من قَسوة. هذه الأرضُ التي تدفعُك بعيدا عن قيودِ التَّخلّف بَحْثًا عن حرّيَّة الفِكْرِ والتّعبير؛ فتراها تَرْمي بِك إلى غُرْبَةٍ موحِشةٍ،  وفي اللّحظةِ ذاتِها تستطيعُ شَدَّكَ أقربَ ممّا كنت، برائحةِ زيتِها وزعترِها، أوبجلسَةِ نهايةِ أسبوعٍ حميمةٍ مع إخوتِكَ حولَ المِدْفأةِ في بيتِ الجدَّة العجوز.

 

 نعم، نحنُ أبناءُ هذا الفِصام المَشْرقيّ المُرّ اللّذيذ…. أبناءُ شيزوفرينيا الوطن والمَنفى…. شيزوفرينيا الهُويّةِ والمكان، أمّا الآن فسأحَرّر نفسي وورقي وأقلامي الرّصاص من كثْرة السّؤال، وأتّجِهُ إلى التّلفازِ الذي نادِرا ما أُشاهِدُه؛ فهناكَ مُسلْسل عربيٌّ خفيف أحرِصُ على مشاهدتِه يوميّا في المَساءِ قبلَ النّوم لأنّه يحمِلُ القليلَ من الصّور ذاتِ الألوانِ البرّاقةِ لطبيعةِ وبَحر حوْضِ البحرِ الأبيضِ المتوسّط، والكثيرَ من كلامِ الحُبّ، وكم أنا بحاجةٍ إلى رؤية هذا “القليل” وسماع هذا “الكثير”، مثلي كمثل كلّ سكّانِ هذا الحوضِ الأزرقِ الفائضِ يأْسًا وأمَلا. ولكنّ الفرْقَ أنّني هذه اللّيلة، وبعد انتهاءِ المُسَلسَلِ  لن أضعَ النّظاراتِ في جواري قبل النّوم؛ لأنّني لا أملِك رفاهيةَ تَمزيقِ جَدْولِ يومٍ آخرَ في نفسِ الشّهر؛ فعليَّ البَدءُ في قراءةِ مسرحيّة “هامْلت” لشكسبير، وكتابة تحليلٍ ونقدٍ أدبيّ لمشهدِ الرّاهباتِ الذي يعلو فيه صُراخ هاملت قائِلا : “أكونُ أو لا أكون”، على الرّغمِ من تفضيلي لصُراخِ محمود درويش في قصيدةِ “سقط القناع” قائلا: “فإمّا أنْ تكونَ أو لا تكون”….. لكن لا يهمّ مَن القائِل، إنْ كان مُستعمِرا أو مُستعمَرا؛ لأنّ صرخةَ الناسِ، كلّ الناس، في نهايةِ اليومِ هي صرخةٌ واحدة….. صَرخةٌ عاليةٌ باحثةٌ عن كيْنونَتِها التي قد تَخْدشُها عدساتُ نظارات، ويُلَمْلِمُها زيتٌ وزعْتَر.

 

(رأي اليوم)