موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأربعاء، ٥ مايو / أيار ٢٠٢١
القدس هي المفتاح لإنهاء أي صراع وإتاحة الفرصة للسلام
الأب إبراهيم فلتس الفرنسيسكاني، المستشار في حراسة الأراضي المقدسة

الأب إبراهيم فلتس الفرنسيسكاني، المستشار في حراسة الأراضي المقدسة

الأب إبراهيم فلتس الفرنسيسكاني :

 

تقدّم لي نافذة مكتبي في مدرسة تراسنطا في البلدة القديمة في القدس، إطلالة رائعة خلابة على مشارف القدس، وخاصة على باب العامود. لكم سرّني في الحقيقة خلال الأسابيع القليلة الماضية، رؤية الحياة تعود إلى طبيعتها شيئاً فشيئاً، وحركة السيارات والمارة تتزايد باضطراد وذلك بفضل حملة التطعيم التي سمحت لسكان المدينة بالخروج من منازلهم والعودة إلى المدارس والأشغال، وأخيراً التخلّص أيضاً من الكمامات.

 

تصادف في بداية شهر نيسان حلول عيد الفصح عند اليهود، وأسبوع الآلام وعيد القيامة عند الكنيسة الكاثوليكية. فشهدت المدينة توافد الآلاف من اليهود إلى القدس، للاحتفال بعيد الفصح؛ أما نحن المسيحيين، فمع منع السفر وغياب الحجاج الأجانب، أتيحت لنا الفرصة لإحياء كافة الاحتفالات الدينيّة في هدوء ولأول مرة بدون حجاج، ولكن بمشاركة المسيحيين المحليين في القدس. وها نحن نشهد اليوم احتفالات الكنيسة الشرقية بأسبوع الآلام وعيد القيامة الأرثوذكسي، أي الكنيسة الشرقية التي تتبع التقويم اليولياني، والتي تحتفل بأحد القيامة يوم ٢ أيار ٢٠٢١. تترافق هذه الاحتفالات مع حلول شهر رمضان المبارك، الشهر الأكثر أهمية والأغلى قيمة عند المسلمين، شهر الصوم والصلاة والتوبة إلى الله عز وجل. عرس فلسطيني عربي بامتياز.

 

ولكن للأسف، بالتزامن مع هذين الاحتفالين الأخيرين، اندلعت في المدينة مواجهات، على أثر إعلان السلطات الإسرائيلية قرارها بمنع التجمهر في ساحة باب العامود والجلوس على درجاته، وهو بدون أدنى شك قرار لا مبرّر له ولا منطق يدعمه، فما هو الا تقييد غير مبرر للحرية المسؤولة ومنع للتجمهر السلمي وقضاء الوقت في السمر وتناول الحلويات الرمضانية وتجاذب أطراف الحديث بين أبناء المدينة المقدسة. هذا القرار التعسّفي، ومعاملة المقدسيين بقسوة، وردة الفعل التي نجمت عنها بين شباب القدس، أدّت في النهاية إلى استنفار الشعب الفلسطيني في جميع أنحاء الضفة الغربية، فكان لهبة باب العامود تأثير الدومينو، حيث هب الفلسطينيون في المثلث والضفة الغربية وغزة نصرة للقدس ولأهلها في تكاتف وتعاضد لا نجد له مثيلاً إلا عندما يتعلق الأمر بالقدس.

 

إن المواجهات الأخيرة هذه تجعلنا نفهم هشاشة الهدوء الذي تشهده مدينة القدس، بعد عام من الوباء؛ وتجعلنا ندرك أنّه طالما بقيت مسألة القدس دون حلّ مناسب ومرضي لكافة الأطراف، ستبقى القدس منطقة تغلي رغم الهدوء الظاهري، مثلها مثل البركان الذي يبدو خامداً خاملاً، ولكنه تحت السطح نار مستعرة. وللأسف فإن المجتمع الدولي تعامل بنوع من اللامبالاة تجاه ضرورة إيجاد حل عادل ودائم، ولا مبالاة إزاء قرار الاعتراف بالقدس بصفتها مدينة مقدّسة لكافة أبنائها، ومدينة إليها تنتمي جميع الشعوب، كما سبق وأعلن البابا الراحل، القديس يوحنا بولس الثاني، الذي تثير كلماته فيّنا مشاعر جياشة بالعواطف: "مدينة القدس هي مدينة مقدسة، مدينة غالية جدا في نظر اليهود والمسيحيين والمسلمين، وهي ترتقي أمام الجميع لتكون مركز لقاء، ومركز وحدة وسلام لجميع أبناء الأسرة البشرية" وقال أيضا:" إذا توفرت الإرادة الحسنة واتساع الأفق، يمكن بالتأكيد إيجاد طريقة مناسبة تستجيب لمصالح كافة الجماعات المختلفة ولآمالهم وتطلعاتهم بشكل متناغم وملائم وفعّال للجميع" وكثيرا ما كان يكرّر أنّه: إذا لم يتحقّق السلام في القدس ، فلن يتحقق السلام في العالم".

 

القدس هي المفتاح لإنهاء الصراع وفتح الباب أمام السلام.

 

إن الاحتجاجات التي نشهدها هذه الأيام، والتي شارك فيها عدد كبير من الشباب، من جميع الأديان، تدعونا إلى كتابة صفحة جديدة لتاريخ جديد، إلى إعادة التفكير في القدس كرمز ونموذج للأخوة الإنسانية. وإنّني أدعو المجتمع الدولي إلى استئناف الحوار بشأن مسألة القدس، وذلك أولا وأخيراً من أجل مصلحة كل إنسان يقيم في المدينة أو يحج إليها، وكذلك من أجل مستقبل ينعم بالسلام والعدالة.

 

مدينة القدس هي رسالة - ويجب- أن تكون رسالة إلى العالم، ولديها فرصة عظيمة، في هذا الحقبة ما بعد الكورونا، لتنهض من جديد بنور جديد، لتبني نموذجا مثاليا، لأن طبيعتها وخصائصها تشكّل بالفعل الركائز التأسيسية لمجتمع جديد، حيث يمكن للديانات التوحيدية الثلاث الكبرى، اليهودية والمسيحية والإسلامية، أن تكون أبطال لمجتمع نموذجي يقوم على التعايش والتعاون يمكنه أن يثري القدس المعاصرة وينطلق بها نحو القدس النموذجيّة، مع احترام الرابط غير القابل للكسر بين القدس التاريخية والقدس السماوية، فتنهض بالتالي بالتاريخ البشري بأسره،لأننا جميعاً كبشر، كلُّنا ولدنا هنا في القدس، وكلنا ننتمي إلى مدينة الله.

 

لا يمكننا أن ننساكِ يا قدس!

 

أُطلُبوا السَّلامَ لأجل القدس:

ولينعم أحباؤها بالسلام،

ليعم السَّلامُ في أَسوارِكِ

والسَّكينَةُ في قُصورِكِ

لأَجلِ إِخوَتي وأَخِلاَّئي «لأَدْعُوَنَّ لَكِ بِالسَّلام».