موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
ثقافة
نشر الأحد، ١٩ نوفمبر / تشرين الثاني ٢٠٢٣
الدكتورة هبة عباسي تكتب: الموسيقى سفيرة المحبّة والتّسامح

الدكتورة هبة عباسي :

 

الموسيقى قوّة تُلامس روح الفرد مباشرة، وهي رسالة تُنقل من القلب إلى القلب؛ من قلب المؤلّف إلى قلب المستمع، وهي القوّة الّتي تعمل جنبًا إلى جنب مع الكلمة، وتؤثّر بشكل كبير في الأفراد والمجتمعات والدّول، وهي وسيلة للتّثقيف، والتّعليم، ونقل القيم، وتنمية الذّائقة الفنّيّة، وتعزيز التّطوّر الاجتماعيّ والفكريّ والأخلاقيّ والرّوحيّ للفرد.

 

وللموسيقى تأثير كبير في السّلوك الإنسانيّ؛ ولديها القدرة على تحريك الجسد والمشاعر الرّوحيّة، وتحفيز الذّكاء والإبداع، وتحقيق انسجام الفرد مع نفسه ومع الآخرين في المجتمع، وبذلك يصبح الإنسان واعيًا بالمسؤوليّة الّتي يحملها.

 

نحن نعيش اليوم مرحلة جديدة من التّاريخ الإنسانيّ، ونشهد تطوّرات تكنولوجيّة سريعة، وتعدُّدًا فكريًّا وثقافيًّا، واكتشافات علميّة وفلكيّة، وثورات معرفيّة كبيرة، لم تعرف البشريّة لها مثيلًا من قبل. وفي ظلّ هذا الواقع، وهذا التّطوّر السّريع في عصر العولمة، لا بدّ لنا من التّركيز على مفهوم المواطنة؛ بعدّه جزءًا مهمًّا من الثّقافة الإنسانيّة العامّة، وربطه بالثّقافة والفنون والموسيقى بخاصّة؛ لِـمـا لها من قوّة وتأثير إيجابيّ في نشر المفاهيم الإنسانيّة، والتّأثير بقوّة في قلوب النّاس.

 

ويمكن تعريف «المواطنة» بأنّها كلّ ما يتعلّق بالمشاركة الفاعلة والمسؤولة في الحياة السّياسية والاجتماعيّة للفرد داخل مجتمعه، بما تتضمّنه من حقوق وواجبات ومسؤوليّات تجاه المجتمع والدّولة الّتي يعيش فيها، وبما تتطلّبه من التزام بالقوانين والقيم الّتي تحكم المجتمع، ومشاركة في العمليّات الدّيمقراطيّة فيه؛ كالانتخابات، والعمل التّطوعيّ، وغيرها.

 

لذا يجب علينا أن نشارك في هذه المنظومة الحضاريّة الّتي نعيش فيها، وأن نستثمر طاقاتنا المادّيّة والبشريّة الممكنة والكامنة، ونعي مفهوم المواطنة الّتي ترتكز على رعاية حقوق الإنسان، وحفظ حقوق الكرامة والمساواة، والحقّ في الحياة؛ للوصول إلى التّقدّم الدّائم والمستمرّ في مجتمعنا الأردنيّ. إنّ وعينا لهذا المفهوم سيبعدنا بالتّأكيد عن كلّ أشكال التّمييز والعنصريّة على اختلافها، وسينأى بنا بعيدًا عن كلّ أشكال الاضطهاد والعنف والإرهاب الّتي تعاني منها فئات في مجتمعاتنا العربيّة والعالميّة، وسيحمي مجتمعنا الأردنيّ في ظلّ التّحدّيات الكبيرة الّتي تواجه عالمنا اليوم.

 

في إطار مفهوم المواطنة، تكمن فرصة عظيمة لبناء جسور الفهم والتّواصل بين أفراد المجتمع، ويتجلّى دور الموسيقى كوسيلة فاعلة لتحقيق ذلك؛ بوصفها عنصرًا أساسيًّا في الثّقافة، يعبّر عن تنوّع الأصول والهويّات في المجتمع الأردنيّ، ويشكّل تنوّعه مساحة ثقافيّة واسعة، تتلاقى فيها الكثير من التّأثيرات الموسيقيّة، الّتي تعزّز التّواصل، وتفتح الأبواب لفهم أعمق للرّوابط الإنسانيّة، وتسهم بشكل فاعل في بناء جسور المحبّة والسّلام بين الأفراد في وطننا الحبيب.

 

في ظلّ الأوضاع الحاليّة واللّحظات الصّعبة الّتي تمرّ بها منطقتنا، يظهر دور الموسيقى بوضوح، بوصفها وسيلة فاعلة لتهدئة النّفوس، والسّعي نحو إحلال السّلام الدّاخليّ. يقول النّاشط في قضايا حقوق الإنسان، الكاتب والفنّان الإيرلنديّ المعروف بول ديفيد هيوسون: «يمكن للموسيقى أن تغيّر العالم؛ لأنّها تغيّر الأشخاص»؛ فالموسيقى، بمختلف أنواعها، تحمل في طيّاتها القدرة على توفير ملاذ آمن للأفراد الّذين يعيشون في ظروف صعبة، وتُعَدّ الألحان والإيقاعات، وحتّى كلمات الأغاني، وسيلة للتّعبير عن المشاعر والآمال، وتعزيز روح المصالحة والتّسامح لدى الأفراد.

 

وهنا أدعو إلى إدراج الموسيقى ضمن المنظومة التّعليميّة؛ من خلال برنامج وطنيّ شامل، هدفه تعزيز الموسيقى؛ بوصفها أداة لتعليم القيم الأخلاقيّة والمعنويّة والرّوحيّة، وتعزيزها في قلوب الأفراد في مجتمعنا. وأن يقوم هذا البرنامج على عدّة محاور، مثل: النّظام الموسيقيّ، وتناغم الفرد مع المجتمع، والموسيقى لتحقيق سلام الإنسان وسعادته، والموسيقى أداةً للتّعليم. فبالرّغم من أنّ العديد من الدّراسات القديمة والحديثة تؤكّد أهمّيّة الموسيقى وتأثيرها في عمليّة التّعليم؛ إلّا أنّه، وللأسف، تمّ حذف مادّة الموسيقى من بعض مدارسنا، واستبدال حصّة الفنّ بها.

 

عندما تكون الموسيقى والثّقافة الموسيقيّة حاضرة في مجتمعنا الأردنيّ، ستوجد قوّة مؤثّرة كبيرة، على عكس أيّ قوّة أخرى، قوّة إيجابيّة تصل إلى القلب بسرعة، وتزرع بذور الخير والسّلام في الرّوح، وإذا قبلتها الإرادة الحرّة الّتي يتمتّع بها كلّ شخص، فإنّها ستنعكس في أفعاله.

 

على سبيل المثال لا الحصر، أثبت الكثير من الأبحاث والدّراسات أنّه عندما يغنّي الأشخاص في انسجام تامّ، فإنّ الموسيقى تجعل دقّات قلوب المنشدين تتسارع أو تتباطأ في وقت واحد. وعندما تغدو الموسيقى جزءًا من ثقافة الشّعب، تصبح قاعدة أساسيّة لبدء عمليّة الحوار واللّقاء بين مختلف أفراده.

 

فمن خلال الفعاليّات الموسيقيّة الثّقافيّة والتّجارب الغنائيّة الجماعيّة، يمكن للموسيقى أن تلعب دورًا حيويًّا في إطلاق الطّاقات الإبداعيّة، الّتي تسهم في إيجاد الحلول، وبثّ الأمل، وإحلال السّلام، وبناء مستقبل أفضل.

 

وفي الختام، أدعو إلى تعزيز عمليّة التّعليم الموسيقيّ في مدارسنا وجامعاتنا ومعاهدنا الأردنيّة، ودعم الفعاليّات الثّقافيّة والموسيقيّة في مجتمعنا؛ إذ تسهم هذه الفعاليّات في بناء جسور المحبّة والأخوّة والتّلاحم، وتوفير منصّات للتّفاعل بين الثّقافات المختلفة، والتّعبير عن التّنوّع الثّقافيّ. إنّ دعمنا لهذه الفعاليّات يسهم في بناء مجتمع مترابط ومتآزر، تسود فيه قيم التّفاهم والتّسامح، وتلعب فيه الموسيقى دورًا كبيرًا في التّعبير عن القيم الإنسانيّة الجميلة، وتعزيز روح المحبّة والوحدة. فلنكن معًا مواطنين مسؤولين في هذا الوطن الطّيّب، نعزف وننشد معًا لحن المحبّة والسّلام، ونبني جسورًا لا تعرف الانقطاع.

 

(الدستور الأردنية)