موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الأربعاء، ١٩ يناير / كانون الثاني ٢٠٢٢
الأب ريمون جرجس الفرنسيسكاني يكتب: التكريس الرهباني من الناحية القانونية
فيما يلي نص المحاضرة التي ألقاها الأب د. ريمون جرجس الفرنسيسكاني ضمن أعمال اللقاء الأول للمكرسين والمكرسات في سورية.
الأب الدكتور ريمون جرجس الفرنسيسكاني، المتخصّص في القانون الكنسيّ

الأب الدكتور ريمون جرجس الفرنسيسكاني، المتخصّص في القانون الكنسيّ

الأب د. ريمون جرجس الفرنسيسكاني - سورية :

 

يبدأ الدستور العقائديّ «نور الأمم» بوصف الكنيسة بأنَّها علامة سرّ وأداة للوحدة الحميمة مع الله ووحدة البشرية جمعاء. لذلك، البُعد السّريّ والشركة في الكنيسة يساعداننا على الفهم اللاهوتي لحقيقة الكنيسة ورسالتها ويجعلاننا نكتشف أساس بعدها القانوني. لذلك، هناك علاقة عضوية بين قانون الكنيسة والحياة الكنسيّة الداخليَّة، وهذا وحده فقط يعطي معنى للنظام القانونيّ في الكنيسة. لذلك، من خلال هذا النظام المحدّد، الكنيسة الكاثوليكية نظّمت نشاطها لتحقيق احتياجاتها الدينية والروحية؛ لتحقيق ملكوت الله والغاية خلاص النفوس. فالشَّرع مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالطَّابع الخلاصي لرسالة الإنجيل نفسها، ويهدف إلى «إنشاء نظام في المجتمع الكنسيّ الَّذي يعطي أولويَّة للحب والنعمة والكاريزما»، مما يسهّل التطوّر العضويّ للمؤسّسات والأشخاص الَّذين ينتمون إلى الكنيسة.

 

بهذه الطريقة «من أجل فهم المعنى الصحيح للقانون، من الضروري النظر دائمًا إلى الواقع الَّذي يجب تنظيمه [...] والَّذي يحتوي دائمًا على نواة من القانون الإيجابيّ الطبيعيّ والإلهيّ، وأن يكون فيه كلّ معيار الإنسجام لكي يكون عقلانيًّا وقانونيّاً». من منطلق هذا «المنظور الواقعي» في العمل الكنسيّ الَّذي قادنا في تحليل قوانين الحياة المكرَّسة، كلّ مؤسّسة أو جمعيَّة كنسيَّة، أنشأتها السُّلطة الكنسيَّة المختصَّة، تنطلق بفعل الرُّوح من أجل المساهمة في المهمة الَّتي أعطاها السيد المسيح إلى كنيسته. المهمة هي جزء من الغاية الخاصّة الَّتي نشأت المؤسّسة من أجلها؛ وهي تلبية متطلبات الكنيسة والعالم.

 

وليس هناك أدنى شك في أنَّ المفهوم اللاهوتيّ للحياة المكرَّسة أوسع من المفهوم القانونيّ، فلا يمكننا أبدًا تكريس الحياة بالمعنى القانونيّ إذا افتقرت إلى العناصر اللاهوتيَّة. ومع ذلك، قد يكون العكس هو الصحيح، أي إنَّه يمكن للمرء أن يكون له شكل من أشكال الحياة المكرَّسة بالمعنى اللاهوتيّ دون اعتباره قانونيًّا. ولا يمكننا الحصول على الحياة المكرَّسة بالمعنى القانونيّ فقط عندما تكون الافتراضات اللاهوتيَّة غير موجودة. هنا، وعلى وجه التحديد، يتم إدراج جدليَّة العلاقة بين اللاهوت والقانون، كذلك التمييز بين الحياة المكرَّسة بالمعنى القانونيّ والمعنى اللاهوتيّ. الخياران ليسا في منافسة ولكن في شركة وتكامل تامّين، وإلا سيكون من العبث التعبير عن «التَكريس» بتعابير «نداء وجواب». وهنا نؤكّد هذه الحقيقة: «من الصعب مناقشة الدعوة الإلهيّة بمصطلحات قانونيَّة بحتة دون إدخال العناصر الرُّوحية الَّتي تعبر عن حياة مكرَّسة بالكامل لله إلهام وروح المؤسّس.

 

بهذا المعنى، تقترح الحياة المكرَّسة رؤية لاهوتيَّة واضحة، أي أنّها ليست مؤسّسة اجتماعيّة، لكن حياة فيها «يستطيع سرّ الله أنَّ يمس قلوب الرجال والنساء» وأنَّ يعيشوا في تكريس جذري لله، وهذا التَكريس الَّذي يجد جذوره في طبيعة الله "المحبَّة"، له طابع إسكاتولوجي، أي إعلان «ملكوت الله»، «ويتضح ذلك من أنَّ الحياة المكرَّسة مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بسرّ المسيح، وهدف رسالتها أنَّ يستمرّ في الوجود نمطُ الحياة الَّتي اصطفاها المسيح، مبيِّنةً أنَّ لهذا النمط في الحياة قيمةً مطلقة ومغزى أخرويًا. لذلك، تعتبر الحياة الرَّهْبانيّة في الكنيسة علامة على الواقع الكريستولوجي والاسكاتيولوجي حيث جميع التلاميذ مدعوّون إليه، ولهم حقّ كامل في الوصول إليه.

 

يوضّح الإرشاد الرسوليّ ما بعد السينودس «الحياة المكرَّسة» في العامّ 1996 معنى الحياة المكرَّسة بدءًا من يسوع: «الحياة المكرَّسة هي حقًا بمثابة الذكرى الحيَّة لما اعتنقه يسوع من نمط حياة وعمل، بوصفه الكلمة المتجسد، في علاقته مع أبيه وإخوته. إنَّها سُنّة حية لسيرة المخلّص وتعاليمه» (عدد22). تكشف في يسوع حقيقة شخصيته ورسالته؛ جذورها في سرّ الثالوث الأقدس، والمكان المناسب لفهم نمط حياة يسوع: «فنمط حياته في العفة والفقر والطاعة هو الطريقة القصوى في ممارسة الإنجيل على هذه الأرض، لأنَّه نمط إلهيّ نوعًا ما، اعتنقه الإله – الإنسان، للتعبير عن علاقة الابن الوحيد بالآب والروح القدس، ولذلك تحدّث التقليد المسيحيّ دومًا عن سموّ الحياة المكرَّسة في ذاتها» (عدد 18).

 

يمكن للمرء أن يجد تفسيرًا للبعد الثالوثي في الحياة المكرسة: أولاً في دعوة الإنسان إلى القداسة، داخل الكنيسة من خلال فعل التَّكريس. و"يبلغ هذا التَّكريس أقصى كماله بمقدار ما تنقل هذه الروابط المتينة الثابتة صورة المسيح المتحد اتحادًا لا ينفصم بالكنيسة عروسه. ولكن بما أنَّ المشورات الإنجيلية توحِّد، بشكلٍ خاص، مَن يمارسها مع الكنيسة وسرّها، وذلك بفضل المحبَّة الَّتي تقودهم إليها، وَجَب أن يكرّسوا أيضًا حياتهم الروحية لخير الكنيسة جمعاء».

 

وينبغي تحديد أشكال التَّكريس على أنَّها مؤسّسات الحياة المكرَّسة شريطة أن تشمل جميع العناصر القانونية الكنسيَّة الَّتي حددها المشرّع في هذا الصدد. نحن نتحدث عن مؤسّسات الحياة المكرَّسة الَّتي شيدتها بشكل قانونيّ السُّلطة الكنسيَّة المختصَّة، وأعضاؤها ابرزوا المشورات الإنجيليَّة من خلال الروابط المُقدَّسة ويعيشون حياة مشتركة، يطيعون الشَّرع الكنسيّ العامّ والقوانين الخاصّة وفقًا للمؤسّسة الَّتي ينتمون إليها.  والتعهد مثل هذه المشورات من خلال الروابط المُقدَّسة يجب أن يكون متوافقًا تمامًا مع حالة الشَّخص الَّذي يعتزم تكريس ذاته لله. ويترتب على ذلك إنَّه في حالة نقص إحدى هذه المشورات، لا يمكن للمرء أن يتحدث عن حياة مكرَّسة حقيقيَّة ومناسبة.

 

أعتقد أنَّه بالنَّظر إلى المكانة المركزيَّة الَّذي يحتلّها التَّكريس في الحياة المكرَّسة، فإنَّ أي شكل جديد من أشكال الحياة المكرَّسة دون فعل التَّكريس من خلال نذور المشورات الإنجيليَّة أمر لا يمكن تصورّه. لذلك، يمكن الحديث عن التَّكريس، كفعل إنساني، وهذا هو dedicatio الذات إلى الله، لأنَّه ليس الله الَّذي يكرّس نفسه إنَّما الشَّخص الَّذي يكرّس نفسه. لذلك، لا يوجد أي تغيير وجودي في الشَّخص، كما يحدث في الشَّخص الَّذي يقبل سرّ المعموديَّة، أو سرّ التثبيت وسر الكهنوت». ويجب أن يُفهم التَّكريس «من خلال» اعتناق نذور المشورات الإنجيليَّة بالمعنى الأنثروبولوجيّ، أي أن الشَّخص «كُرس» من الرُّوح القدس، ويُكرس نفسه تمامًا ليسوع «من خلال» اعتناق نذور المشورات الإنجيليَّة، وفقًا لكاريزما المؤسّسة.

 

في الواقع أكد آباء المجمع الفاتيكاني الثَّاني مرارًا وتكرارًا أن تكريس الحياة يتم من خلال اعتناق المشورات الإنجيليَّة عنصر أساسيّ في كلّ حياة مسيحيَّة ينوي المؤمنون فيها تقليد المسيح ومتابعته عن كثب. بحكم هبة خاصّة من الرُّوح: هذه هي بالتحديد سمة الحياة المكرَّسة، باعتبارها متميزة عن غيرها عن أشكال الحياة المسيحيَّة». لذلك، ليس هناك أدنى شك «أنَّ خصوصية التَّكريس مرتبطة بفعل اعتناق المشورات الإنجيليَّة، أي إنَّه فعل إنسانيّ كاستجابة للنعمة الإلهيّة. وهذا الاعتناق الَّذي ينطوي على تكريس، هو نتيجة دعوة واستجابة، إرادة إلهيّة لإقامة علاقة حب زوجي مع الإنسان». من وجهة النظر هذه، «يجب أن نرى جوهر الحياة المكرَّسة في التَّكريس، واقع يتجاوز آفاق «الاعتناق» ويعبر عن قلب كلّ التزام في الحياة الرَّهْبانيّة ‏ والرسوليّة والعلمانية وكل هبة الذات في شكل جديد من الحياة المكرَّسة، يمكن رؤيتها أو هي في حالة البحث عنها».

 

كي يشير المجمع الفاتيكانيّ الثّاني إلى ممارسة جميع المؤمنين المشورات الإنجيليَّة، استخدم دائمًا مصطلح «ممارسة». على العكس، عندما يشير فقط إلى الرّهبان فاستخدم مصطلح «اعتناق». هذا الاختلاف في المصطلحات يوضّح أن فكر المجمع هو أن الرّهبان المكرَّسين يختلفون عن المؤمنين غير المكرَّسين عن طريق الاعتناق. يشير مصطلح «اعتناق» في المقام الأوّل إلى العمل الليتورجي، العلنيّ والرسميّ المقبول من قبل السُّلطة الشَّرعيَّة، الَّتي يتم من خلاله الالتزام بممارسة المشورات الإنجيليَّة خلال الاحتفال الإفخارستي. ثانيًا، يشير إلى الشهادة العامّة، الَّتي تتجاوز الفعل الاحتفاليّ الرسميّ، ويقتضي إنَّه يجب أن يتم إدراك واحترام المشورات الإنجيليَّة بشكل علنيّ، أي إنَّه يجب أن يتم بشكل معلن أمام الكنيسة والمجتمع. و«اعتناق المشورات الإنجيليَّة من قبل علمانيّين يبرزونها إمَّا شخصيًّا أو في جمعيَّات أو حركات كنسيَّة، هناك بالتأكيد استجابة لدعوة إلهيّة من جانب الشَّخص، غالبًا بشكل نهائيّ، وهو ما يتوافق إلى حدّ ما مع ما نسميه التَّكريس الإلهيّ والتَّكريس الشَّخصي».

 

استخدمت كلمة «تكريس» في النصّ الدستور الرسوليّ Provida Mater Ecclesia للبابا بيوس الثّاني عشر (2 شباط 1947)، بمعنى مزدوج. من ناحيَّة، يتم فهمه بمعنى عامّ إلى حدّ ما على إنَّه «تكريس للحياة»؛ ومن ناحيَّة أخرى، مع قيمة أكثر تحديدا وتقنية، هي وسيلة ملموسة للتعبير القانونيّ والمعنويّ لاعتناق المشورات الإنجيليَّة في  المؤسّسات الرَّهبانيَّة. توسيع مفهوم التَّكريس لأولئك الَّذين يتخذون المشورات الإنجيليَّة يعني إنشاء مؤسّسة «طبقة مقدّسة» بين المعمّدين. فالمشورات الإنجيليَّة والتَّكريس هما لجميع المعمّدين، كلهم مدعوون لتقليد المسيح المطيع والفقيروالعفيف؛ فالمشورات لديها البعد الكريستولوجيّ قبل أن يكون لها علاقة بالبُعد الأخلاقيَّ، ولا ينبغي اعتبارها حكرًا على البعض، الَّذين يرغبون في الحصول على «شيء إضافي» أو أن يكونوا أفضل من الآخرين.

 

ولأنَّ فعل التَّكريس كفعل استجابة الإنسان لدعوة الله، أعطاه المجمع الفاتيكانيّ الثّاني صفة فعل تقويّ وتكريس. ووضّح  أنَّ المصطلح اللاتينيّ consecratio يعني أنَّ التَّكريس هو عمل الله وحده»، وإنَّها دعوة الله الَّتي تُشرّع هذا التَّكريس؛ والمسيحي يجيب «تحت عمل الرُّوح القدس». -بالمعنى اللاهوتيّ: الله، من خلال عمل الرُّوح القدس، يدعو، أي «يضع جانبا»، بعض الأشخاص ليسوع وبنعمته يمكّنهم من أن يكون لديهم علاقة خاصّة معه، يعيشون في العفة، في الفقر والطّاعة في شكل مستقر من الحياة. لذلك ليست نذور المشورات الإنجيليَّة هي «سبب» التَّكريس، الَّتي يتم من خلالها فعل «التَّكريس»؛ لكنَّ نذور المشورات الإنجيليَّة هي «تأثير» التَّكريس الإلهيّ و«الأداة» الَّتي يتم تنفيذها. لذلك، فإنَّ التَّكريس ببُعديه الإلهي والإنساني ينبع من دعوة الله الخاصة التي ينال كل من يُدعى من أجلها عطية خاصة في حياة الكنيسة، وهي عطية أقرب لأتباع الرب في الكنيسة. فالتَّكريس هو عمل الله الذي يكرس والشخص الذي يُكّرس نفسه لله، في العمل الليتورجي الذي من خلاله يتم اعتناق المشورات الإنجيلية، أو غيرها من الروابط المقدسة أو نذر العفة للأرامل.

 

يبدو أن التفكير اللاهوتي الحالي موجه نحو هذه القناعة: التَّكريس عنصر تأسيسي لفهم هذه الدعوة بشكل صحيح، بحيث يكون التَّكريس الذي يتحدث عنه المجمع موضوعًا مركزيًا وأساسيًا لفهم ما يسمى بـ "الحياة المكرسة" "بشكل صحيح. هذا لا يمنع من ضرورة توضيح مفهوم التَّكريس الخاص لهذه الدعوة وما يختلف عنه الآخرين وما اختبره غالبية المسيحيين بعد المعمودية.

 

كما تحدّث عنه الطوباوي البابا بولس السادس في Evangelica testificatio عام 1971، "كتكريس خاص"(عدد 4).

 

والبابا القديس يوحنّا بولس الثَّاني في كتابه Redemptoris donum  (1984) ضمن سياق التَّكريس الرهبانيّ، استخدم تسمية الأشخاص المكرسين: " تنظر الكنيسة إليكم، أولاً وقبل كل شيء، كأشخاص "مكرسين": مكرسين لله في يسوع المسيح كخصوصية حصرية". وتحدث البابا القديس يوحنا بولس الثَّانيّ صراحةً: عن "دعوة خاصة" أو "مميزة" "لاتّباع  المسيح"، وهو مظهر من مظاهر" الحب الأبدي اللامتناهي الذي يمس جذور الوجود، لأنه "شكل محدد من أشكال التَّكريس، "جديد وخاص"، لأن العمل الليتورجي الذي يتم من خلاله اعتناق المشورات الإنجيلية هو شبه أسراريّ. نقرأ في العدد 30 من الإرشاد الرَّسوليّ "الحياة المكرَّسة لعام 1996: «في التقليد الكنسي، تُعتبر الحالة الرَّهْبانيّة تعميقًا فريدًا وخصبًا للتكرس العادي، وذلك بأن الاتحاد الحميم بالمسيح الَّذي يبدأ في المعمودية يتطوّر ليصبح موهبة تَشبُّهٍ بالمسيح، يعبّر عنها ويحققها، بطريقة أكمل، اعتناق المشورات الإنجيلية. إلاّ أن هذا التكرّس اللاحق يتميّز عن الأوّل، وليس هو نتيجة حتمية من نتائجه...ثم أن هذه الدعوة يقابلها، من جهة أخرى، موهبة مميّزة من الرُّوح القدس، ليتمكن الشَّخص المكرّس من أن يلّبي مقتضيات دعوته ورسالته. ومن ثم، فبشهادة ليتورجيات الشرق والغرب، في الاحتفال الطقسي بنذور الحياة التوحّدية أو الرَّهْبانيّة، أو بتكريس العذارى، تلتمس الكنيسة للأشخاص المختارين نعمة الرُّوح القدس، وتقرن تقدمة ذاتهم بذبيحة المسيح» (عدد 30).

 

يؤكّد الأب الأقدس، كيف أنَّ حالة الحياة المكرَّسة، تحديدًا مَن ينذر المشورات الإنجيليَّة، تتميز بتكريس خاصّ وجديد"(عدد 31)، قائم دائمًا على سرّ المعمودية: «الجميع، في الكنيسة، يقَدَّسُون بالمعمودية والتثبيت. وأمّا الخدمة الكهنوتيَّة والحياة المكرَّسة فهما تفترضان دعوةً منفصلة ونمطًا مميّزًا من أنماط التكرّس، في سبيل رسالة خاصّة... وأمَّا الأشخاص المكرّسون الَّذين ينهجون طريق المشورات الإنجيلية، فهم ينالون تكريسًا جديدًا ومميّزًا، خارجًا عن نطاق الأسرار، يدعوهم إلى اعتناق نمط حياة مارسَه يسوع نفسه واقترحه على تلاميذه، في التبتل والفقر والطاعة» (عدد 31). لذلك، فعل التَّكريس من خلال نذور المشورات الإنجيليَّة ليس نتيجة ضروريَّة للمعموديَّة، لأنَّه دعوة، هبة خاصّة من الرُّوح، ونعمة تضع الشَّخص الَّذي يحصل عليها في علاقة خاصّة مع سرّ المسيح. لذلك يقال صراحة إنَّها «تكريس جديد ومميز»، متميزة عن المعموديَّة، وتلزم الشَّخص الَّذي يتخذ المشورات الإنجيليَّة بشكل معين من أشكال الحياة، كما «مارسها يسوع شخصيا». إنَّه تكريس «له جذوره العميقة في فعل تكريس العماد ويعبّر عنه بشكل كامل»؛ في الواقع، التَّكريس من خلال المشورات الإنجيليَّة يؤدي إلى عيش الإنجيل واتّباع المسيح بطريقة متكاملة وعيش حقائق تكريس المعموديَّة بأقصى تعبيراتها.

 

 

المصطلح "التَّكريس"

 

المصطلح اللاتينيّ "التَّكريس consecrare، متجذر في كلمة sacrum، بمعنى مقدّس، ويشير إلى أنَّه يتم تخصيص الأشخاص أو الأشياء لغاية معيّنة، بما في ذلك عبادة الله. ومن الممكن أن يشير أيضاُ لفعل «كرَّس» أو «كيان مُكرَّس» وهذا هو في المقام الأوّل فعل شخص يكرّس شخصًا ما أو شيئًا ما (حالة تصميم)؛ ونتيجة لذلك، حالة التنفيذ لأولئك الَّذين تمّ تكريسهم ويريدون العيش على هذا النحو. لهذا السبب، لا بدّ من التمييز بين فعل «التَّكريس» كفعل نهائيّ، عن «التقديس» الَّذي يمكن أن يكون أيضًا مستمرًّا، كحالة صيرورة للذين، على الرغم من أنَّ فعل التَّكريس وقع عليهم، يمارسون قصدهم بشكل عمليّ كلّ يوم.

 

التَّكريس هو شبه سرّ تأسيسيّ، من خلاله يُكرَّس شخص ذاته لخدمة الله ويتجه إلى العبادة الإلهيّة. وهنا من الضروريّ أن نشير إلى أنَّ كلمة «consecratio» بالنسبة إلى القديس توما الأكويني تشير إلى طقس ليتورجيّ يتمّ بموجبه فصل «الأشياء» الدنيويّة وتخصيصها لعبادة الله: الكنائس والمذابح والكؤوس وثياب القداس وغيرها على غرار تكريس الملك (المسيحيّ)، والرُّهبان أو الرَّاهبات. في هذه الحالة الثّانية، يرتقي الأشخاص المكرَّسون إلى «مكانة» بارزة [...] وبعبارة أخرى، فإنَّ التَّكريس الأكويني ليس حياة، بل هو فعل طقسي ذو طابع عامّ خارجيّ ويتجاهل الإشارة المباشرة إلى قدسيَّة الأخلاقيَّة والشَّخصيَّة والداخليَّة يضع المختار في فئة عالية في الكنيسة».

 

نجد في الشرع الكنسيّ الكاثوليكيّ الحاليّ -اللاتينيّ والشرقيّ- عدة مصطلحات "consecrans" أو consecrator" (consacrante) "consecratio" (consacratione) ،(consacratorius) ، "consacratorio، "consecratus" وهي مرتبطة بالأسرار المقدسة والحياة المكرسة. والشرع الكنسيّ الحالي استخدم الفعل dedicatio "كرّس" في العلاقة مع التَّكريس للاعتناق المشورات الإنجيليَّة.

 

بخصوص النساك في القانون 603 البند1 يُقال إنهم "يكرسون حياتهم لمجد الله وخلاص العالم"، وبالتالي التأكيد على التَّكريس الذاتي والشخصي، وفي البند 2 من نفس القانون، يقول "الناسك، شخص وهب نفسه لله في الحياة المكرَّسة، إذا اعتنق علنًا المشورات الإنجيليَّة الثلاث بين يدي الأُسقُف الأبرشيّ،". مشيرًا، إلى تكريس من قبل الله بفعل ليتورجي.

 

القانون 604 البند 1 فيما يتعلق بالعذارى ينص صراحةً على أنهن "مكرسات لله بموجب طقس ليتورجي مصادق عليه، يكون بمثابة زفافهن بصورة سرّيَّة للمسيح ابن الله، حيث يقفن حياتهن على خدمة الكنيسة.

 

فعندما يعّبر عن فعل التَّكريس علنًا ​​في الطقوس الليتورجيَّة: تتلقى الكنيسة فعل تكريس الشَّخص وتصبح وسيطا له من خلال السُّلطة الَّتي تتلقى النُّذور أو غيرها من الالتزامات المُقدَّسة. وبالتالي الشَّخص الَّذي اعتنق نذور المشورات الإنجيليَّة (تكريس شخصي) يدخل في حالة الحياة المكرَّسة (تكريس موضوعي) ويلتزم القيام في الكنيسة بخدمات خاصّة بشكل التَّكريس المتخذ أو المؤسّسة الَّتي هو جزء منها (ق. لاتينيّ 577؛ 603؛ 604). فالكنيسة هي التي تُنشئ مؤسّسات الحياة المكرَّسة، المبنية على اعتناق المشورات الإنجيليَّة، والتي هي بدورها متجذّرة في المعموديَّة، والَّتي تعبّر بطريقة واضحة عن توق الكنيسة لتتوافق مع حياة مؤسّسها، حياة العفة، الفقيرة والطّاعة. فالمؤسّسات الرَّهْبانيّة هي «كنيسة»، تشارك في العناصر الهيكليَّة والتأسيسيَّة للكنيسة الأم والَّتي تحمل الطبيعة الكاريزماتيَّة والمؤسّساتيَّة. تمامًا كما تنتمي الكنيسة إلى الإرادة التأسيسيَّة للمسيح. وهذا يوضّح مكانة الحياة المكرَّسة في الكنيسة، فهي لن تتغيّر، حتى إذا تغيّرت الأشكال التاريخيَّة والقانونيّة في حياة الكنيسة. "أمّا الكنيسة فإنها لا ترفع إعتناق الحياة الرهبانية إلى شرف الحالة القانونية بمصادقتها عليها فحسب، ولكنها تعرضها أيضاً في طقوسها كحالة تكريس لله"(عدد 45).

 

 

مضمون التَّكريس

 

مضمون التكريس هو التشبّه بالمسيح من خلال المشورات الإنجيليَّة الَّتي تقودنا إلى العيش حياة يسوع في العفة والفقر والطاعة. وتتحقّق هذه طريقة من خلال عمل الكنيسة. فالتكريس الرُّهبانيّ يُعاش في مؤسّسة محدّدة، وفي بعض الهيكليات وافقت عليها الكنيسة. ما يعطي فعل التكريس بعض الفروق الدقيقة تنجم عن الكاريزما وروحانيّة كلّ عائلة رهبانيَّة.

 

يعبّر اعتناق المشورات الإنجيليَّة عن تكريس الذات لله الآب، في يسوع المسيح من خلال هبة الرُّوح القدس وديناميكيَّة الخدمة التبشيريَّة المتجذرة في نفس التَّكريس. هبة الرُّوح هذه تجعل من المسيحيّ أن يصبح «الوجود في المسيح»، الَّذي يولد منه «فعل» من المسيح ولأجله، ومن ثم يصبح أقرب إلى كينونة يسوع وفعله، المشاركة في مجمل سره.

 

أتباع المسيح بشكل أوثق، من أجل السعي إلى كمال المحبَّة وتكريس النفس بالكامل لبناء الكنيسة عن طريق خلاص العالم؛ فعلى المؤسّسات الرَّهْبانيّة كلها أن تعتبر هذه القاعدة أعلى قانون لها. يُقال أنَّ القاعدة العليا للتجديد المناسب للحياة المكرَّسة هي إتّباع المسيح. وأصبحت الجملة «إتّباع المسيح عن كثب» وصفًا تقريبًا للحياة المكرَّسة. إنَّها جزء من مبدأ وجدناه بالفعل في فكر الكنيسة الطويل، أي أنَّ المشورات الإنجيليَّة تعتمد على كلمات ومثال الرَّب، الَّذي كان أوَّل مّن مارس هذا النوع من الحياة. حتى أن الشَّخص الَّذي يقبل إتّباع المشورات الإنجيليَّة يتبع المسيح عن قرب عن كثب ونوع الحياة الَّتي اختارها لنفسه وعاش بها حتى الموت.

 

فالتَّكريس في الحياة الرَّهْبانيّة يشمل الرَّاهب كلّه في كيانه وفي عمله في الكنيسة. وهذا هو السبب في كونه يشكّل عملًا ليس فقط في النطاق الثقافيّ، ولكن عمل محبَّة. الفضيلة اللاهوتيّة للمحبَّة هي مكان التَّكريس، وسببه، وتأثيره الداخليّ الَّذي يجعله ينمو. هو محرك لممارسة المشورات الإنجيليّة. لذلك،الحياة الرَّهْبانيّة هي «تكريس الشَّخص كلّه»، بشكل ثابت، وهبة كاملة لله. فعندئذ يصبح هذا التَّكريس  فعل تمجيد الله وتقديس البشر. فعل عبادة؛ يشمل كلّ جوانب حياته. «الوجود كله يصبح عبادة متواصلة لله في المحبَّة». فعل التَّكريس هو فعل محبَّة؛ حُرّ وشخصيّ وفريد يجعلنا نعانق الرَّب في وحدة كاملة وأبديَّة. "ومن يكرّس نفسه تمامًا للآب من خلال المشورات الإنجيليّة، لا يمكن أن يكون إلا مرسلًا لإعلان هبة الله للناس. «إنَّ الكَلامَ الَّذي أَقولُه لكم لا أَقولُه مِن عِندي بلِ الآبُ المُقيمُ فِيَّ يَعمَلُ أَعمالَه» (يو 14؛ 9-10)». فلا يمكن للشاهد أن يعطي شهادة، إن لم يكن قد اختبر هو شخصيًّا كلام الله، حتى الوصول إلى درجة «التطبيق الذاتيّ». عندئذ، تصبح الشهادة التعبير الأكثر أصالة عن الهويَّة الشَّخصيّة. وإذا لم يكن الأمر كذلك، فإنَّ الشهادة ستكون فارغة من المضمون، كلام لا معنى له.

 

فتكريس الذات لله لا يعني إنكار الواقع، ولكن الدخول فيه بمهمة الشهادة والإعلان عن ملكوت الله ووجوده في قلب العالم. لا ينبغي تصور التَّكريس كهروب من العالم، بل وسيلة للقيام بعلاقة بشكل مختلف، ما يشكّل ألم الحياة الإنسانيَّة. في الواقع، التَّكريس لأولئك الَّذين يعتنقون النُّذور الرَّهْبانيّة‏، قبل كلّ شيء يهدف بأنّهم يقدمون للعالم شهادة مرئية لسرّ المسيح الَّذي لا يسبر غوره، حيث أنَّهم يمثلونهم في الحقيقة.

 

العمل الرسوليّ كعنصر أساسيّ في المؤسّسات الرَّهبانيَّة لا يتناقض مع التَّكريس الرهبانيّ. ومع ذلك، رفضت الكنيسة دائمًا مفهوم استخدام التَّكريس كأداة للنشاط الرسوليّ. إذا قبلنا أنَّنا نكرس أنفسنا لله من أجل تكريس أنفسنا للنشاط الرسوليّ، فلن نفهم بعد ذلك الدعوة الرَّهْبانيَّة باعتبارها دعوة خاصة من الله للانتماء إليه تمامًا في صورة حياة يسوع؛ وسيفقد التَّكريس، في حدّ ذاته، كلّ معناه طالما لا يمكن تصوّر هبة الذات لله كوسيلة وأداة لتحقيق أهداف أخرى، حتى تلك النبيلة، مثل النشاط الرسوليّ. علاوة على ذلك، الرسالة الرسوليّة نفسها تأتي من الله: فالله نفسه يتقبل تقدمة الشَّخص ويعطيه المهمة للعمل الرسوليّ من خلال الكنيسة. فإذا كان العمل الرسوليّ ينتمي إلى طبيعة المؤسّسة ذاتها، فإنَّ الرّهبان، عندما يعطون انفسهم لنشاط رسوليّ، لا يمكن اعتباره شيئًا غريبًا أو مكملًا أو تابعًا لتكريسه أو ما هو أسوأ منه ضررًا. إنَّه جزء من دعوته.

 

«فالتَّكريس» و«الرسالة» بعدان لاهوتيّان بشكل عميق، حيث يشير المصطلح «تكريس» إلى أن لا يبدأ الشَّخص من نفسه، ولكن من محبَّة الله، من دعوته ومن مشروعه؛ ويعبّر مصطلح «رسالة» عن الجانب الديناميكي والعملي للواقعة نفسها. من ناحيَّة، هناك نعمة أعطيت، ومن ناحيَّة أخرى، الديناميكيَّة الَّتي تتدفق منها. هذا هو ما أكده القرار «المحبَّة الكاملة»، عندما، بالنَّظر إلى التَّكريس الرسوليّ، يعاش ضمن مشروع الحياة المكرَّسة. وبهذه الطريقة، أبرز القرار المذكور حقيقة أن الله، بتكريس الشَّخص، يكرّس الفعل وكل جانب آخر ينبثق من هذا التَّكريس. الرسالة إذن ليست شيئًا يأتي بعد التَّكريس، بعد الشركة مع الله والكنيسة. التَّكريس هو في حدّ ذاته رسالة. أراد المرسوم، بشأن النشاط التبشيري للكنيسة، التأكيد على أهميَّة مؤسّسات الحياة التأمليَّة في التبشير في العالم (AG 40). والحياة المكرَّسة تعبّر عن علاقة خاصّة مع الكنيسة، والتي تستمد منها المشاركة في رسالتها.

 

الأشخاص المكرَّسون هم في قلب الكنيسة من أجل العمل كقوة حيويَّة تلهم وتحول باستمرار الحياة المسيحيّة من خلال شهادتهم في الحياة وأنشطتهم الرسوليّة. من المهم جدًا أن تتطابق مهمة الأشخاص المكرَّسون كشركاء أو متعاونين مع مهمة الكنيسة. لهذا السبب، العمل الرسوليّ باسم الكنيسة هو فعلها، والذي يتجلى من خلال الفعل الملموس والذي يمكن أن يكون كنسيًّا. تعطي الكنيسة اسمها للعمل الرسوليّ الملموس للعضو الرَّاهب، وتبقى هي تشارك في هذا العمل نفسه بواسطة التكليف.

 

ومن ناحية أخرى، يجب أن يتدفق العمل الرسوليّ دائمًا من اتحاد حميم مع الله، وفي الوقت نفسه يحييه ويثبته. وبهذه الطريقة، يدين الشَّرع، بشكل غير مباشر، تلك التجاوزات في النشاط الرسوليّ الَّذي، بدلًا من تقوية الاتحاد مع الله، يميل إلى تقويضه أو يقلل من الوسائل الَّتي تعززه والَّتي تتشكل أساسًا من خلال الصّلاة.

 

ليس للعمل الرسوليّ معنى إذا لم يولد من المصدر الَّذي هو الله: هو الَّذي يرسل، والَّذي يعلن رسالة الله. الله نفسه الَّذي يعطي القيمة والفعاليَّة للعمل الرسوليّ. بقدر ما يولد العمل الرسوليّ من الاتحاد مع الله، فإنّه يعمّق هذا الاتحاد ويدعمه. بهذا المعنى، يولد العمل الرسوليّ من الصَّلاة ويقود إلى الصَّلاة. والرَّاهب، بقيامه بنشاط رسوليّ، لا يمكن اعتباره شيئًا غريبًا أو مكملًا أو تابعًا لتكريسه أو ما هو أسوأ من ذلك. إنَّه جزء من دعوته. بل تكريس الذات لله والتفاني من أجل العمل الرسوليّ يجب أن تشكل الوحدة؛ الشَّخص لا يكرّس نفسه ظاهريًّا فقط للعمل الرسوليّ، بحجة أن العمل الرسوليّ ينتمي إلى طبيعة الحياة الرَّهْبانيَّة أو أنَّ الحياة الرَّهْبانيَّة هي بالفعل عمل رسوليّ، ولكن العمل الرسوليّ نفسه ينبع من الرُّوحانيَّة الرَّهْبانيَّة المكرَّسة لله في نذور المشورات الإنجيليّة».

 

ويترتب على ذلك أنَّ حياة كلّ راهب أو راهبة يجب أن تكون جديرة بالتَّكريس، وإلا فإنها لا تستطيع أن تتخذ قيمة الشهادة. لذا، العمل الرسوليّ ليس ملحقًا للتكريس، إنَّه عنصر من عناصر التعبير عن حقيقة فعل التَّكريس؛ إنَّه ينتمي إلى طبيعة الحياة المكرَّسة. أعلن القرار في تجديد الحياة الرَّهْبانيَّة «المحبَّة الكاملة» من المجمع الفاتيكانيّ الثّاني (رقم، 8): «إنّ من جوهر الحياة الرَّهْبانيَّة، في تلك المؤسّسات، العمل الرسوليّ والخيريّ، وذلك كخدمة مقدّسة وكعمل يتميز بالمحبَّة، أوكلته الكنيسة إلى هذه المؤسّسات كي تقوم به باسمها. لذلك، فإنَّ الحياة الرَّهْبانيَّة ليست غاية، في حدّ ذاتها؛ ليست بتصميم أنانيّ وذاتيّ، سواء كان ذلك من الجانب العاطفيّ أو الفكريّ. الحياة الرَّهْبانيَّة هي هبة كنسيّة وخدمة؛ إنَّها من أجل الآخرين.

 

 

الخاتمة

 

الحياة المكرَّسة هي صوت الكنيسة، تشير إلى سرّها. والحديث عن سرّ الحياة المكرَّسة يعني النظر إلى الشَّخص، حياته نفسها كسرّ، وذلك لأنَّه لا يمكن التعبير عن الإنسان إلا من خلال المفاهيم. أمام المجتمع الَّذي يوجه خياراته بناء على رؤية منتجة وفعالة وبالتالي تحجب الأصل الحقيقي للإنسان، فإنَّ الحياة المكرَّسة هي، في العالم، أيقونة الشَّخص الَّذي يعترف بأصله ومصيره النهائي في الله. بهذا المعنى، الحياة المكرَّسة مرسلة للإعلان لكلّ إنسان عن سرّ الحياة الجديدة في المسيح.

 

في المجتمع العلماني اليوم تحديدًا، لا بدّ من الاستجابة للنداء الذي أطلقه البابا القديس يوحنا بولس الثاني في بداية الألفية الثالثة: "ليس عليكم أن تتذكروا وتروا تاريخًا مجيدًا وحسب، بل عليكم أن تبنوا تاريخًا عظيمًا. انظروا إلى الأمام، حيث الروح يرسلكم ليصنع معكم عجائب. كما يقول البابا فرنسيس (30 تشرين الثانيّ 2014): "ستكون شهادتكم للحياة المضيئة كمصباح يوضع على الشمعدان كي يعطي الضوء والدفء لكلّ شعب الله".