موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
"طوبى للجياع والعطاش إلى البرّ، فإنهم يُشبَعون". إنّ الوضع المأساوي الذي يعيشه أهل غزة، وما يصاحبه من شعورٍ بالعجز، قد يقودنا إلى فقدان الأمل والثقة. ومع ذلك، فإنّ اليقين بأنّ الجياع والعطاش في غزة سيُشبعون يومًا، هو ما يُجدّد التزامنا بالمطالبة بالعدالة.
الأحد الماضي، دفعت مشاعر اليأس والإحساس بالنسيان شعب غزة إلى إطلاق مظاهرة احتجاجية حاشدة، ليصرخوا أمام العالم بأنّ الأطفال يموتون جوعًا. يُعاني السكان منذ شهور من نقص أساسيات الحياة، وقد اُنهكت أجسادهم وأصبحت هزيلة بعد قرابة عامين من المعاناة. فمنذ أشهر، لا يدخل الغذاء والدواء والكهرباء غزة - هذه الضروريات الحيويّة تبقى عالقة على بُعد بضعة كيلومترات فقط من الذين بأمسّ الحاجة إليها، وهذا أمر لا إنساني.
ينبغي لصوت صفارات سيارات الإسعاف الذي يدّوي طويلاً ويصم الآذان، أن يوقظ الضمائر المخدّرة الذين يشهدون بصمت على مجزرة.. بل على مذبحة تتفاقم عندما يُحرم الطعام عن الجياع والماء عن العطشى. هذه هي الفضيحة الكبرى، والعار الذي لا يُمحى لعالمٍ وضع المصالح الاقتصادية وجشع السلطة أعلى سُلّم قيمه، ووضع حياة الإنسان وحقوقه في أدنى مرتبة.
يُشكّل المسنون وذوو الإعاقة والأطفال شريحة كبيرة وهشة من سكان فقدوا منازلهم وقد لا يكون لهم وطن أيضًا - سكانٌ تعرّضوا لهجماتٍ قاتلة ونائمون في الخيام والملاجئ المؤقتة. وإلى جانب الأعداد الهائلة من الشهداء، والمفقودين تحت الأنقاض، والجرحى، والأيتام، علينا أن نُضيف عددًا لا يقلّ وجعًا: أولئك الذين يموتون جوعًا.
يعلم العالمُ أنّ عددًا لا يُحصى من الأطفال يعانون منذ أشهر طويلة من سوء التغذية، وأنّ الآلاف قضوا جوعًا. يبدو الأمر غير قابل للتصديق، لكنّه يحدث على بُعد كيلومترات قليلة فقط من عالم يستهلك ما يفوق احتياجاته، ويُبدّد موارده الحيويّة.
يُشاهد العالم، بشكل مباشر، موت الأطفال جوعًا – موت يمكن تجنّبه: من بين 900 طفلٍ قُتلوا وهم يصطفّون في طوابيرٍ مُذلّةٍ للحصول على رغيف خبز، كانت الغالبيّة من الآباء الذين خرجوا يبحثون عن ما يسدّون به رمق أطفالهم. أما الذين عادوا إلى ديارهم ومعهم ما يُعينهم على البقاء، فكثيرًا ما وجدوا أطفالهم قد فارقوا الحياة.
أظهر مقطع فيديو المأساة المفجعة لرجل مسنّ وهزيل مات واقفًا في طابور الطعام، من الجوع والحرّ. هذا هو الواقع اليوميّ المؤلم الذي يعيشه أصدقائي في غزة، ولعدد لا يُحصى من الناس - بشر، وأطفال يستحقّون الاحترام دون تمييز على أساس الجنسيّة أو الدين، ككلّ أطفال العالم.
خلال هذه الفترة الطويلة من العنف، كانت صور المعاناة –معاناة الأطفال والمعاقين وكبار السن في غزة- هي التي وحّدت ضمائر الذين يشعرون بالعجز أمام هذا الكم الهائل من الألم، والذين لا يريدون أن يكونوا شركاء فيما حدث ويحدث في غزة. إنّ العيون الحزينة العميقة، والدموع التي تذرفها المعاناة والجوع، والصدمات الجسديّة والنفسيّة الشديدة التي يُعاني منها أطفال غزة، هي صرخة صامتة للإنسانيّة.
إنّ نداءات الأب الأقدس القويّة، وصوت صفارات سيارات الإسعاف المدوّي، وتعبئة المجتمع المدني الدولي، ورؤساء الدول، والسلطات والشخصيات البارزة، كلّها لا تزال غائبة عن أذهان أولئك الذين يواصلون استخدام كل أنواع الأسلحة ضد العزل، والذين لا يُدركون أنّ الحقوق التي تُسلب اليوم، ستبقى وصمة لا تمحى في ذاكرة التاريخ. إنّ عيون أطفال غزة ودموعهم وأجسادهم الصغيرة المهشمة والمرتعشة تثير غضبنا، وتجعلنا نصرخ من أجل السلام، ونجوع ونعطش إلى العدالة.