موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الثلاثاء، ٢٤ مايو / أيار ٢٠٢٢

وبينما هو يباركهم رُفِع إلى السماء

بقلم :
الأب منويل بدر - الأردن
وبينما هو يباركهم رُفِع إلى السماء

وبينما هو يباركهم رُفِع إلى السماء

 

خميس الصعود (الإنجيل لو 24: 46-53)

 

 

صعود المسيح ما هو إلا استمرار لقيامته من القبر، واستكمال لعمليّة الفداء. فلولا الصّعود لما كانت القيامة, ولا قيامة لولا الصعود.

 

نعيّد اليوم ما نؤمن ونعترف به في قانون الإيمان، حيث نُصلّي: قبر وقام، وصعد إلى السّماء، وجلس عن يمين الأب. هذا هو إيمان الكنيسة الأولى. هذا هو إيمان الرّسل. وهذا هو إيماننا، الّذي سلّمنا إيّاه بولس، وكان قد سلّمه له الرب! فهذا قانون إيمان، أي موحى به من الله. والموحى من الله يكفي أن نؤمن به ولو ما كنّا نفهمه، كما قال القديس توما الأكويني: الإيمان وحده يكفي.

 

يوم عيد صعود الرّب، كانت هناك عوائد حيّة، يمارسها الغرب تؤثِّر في الحضور ويبقى المشتركون في القدّاس يتذكّرونها، وهي أنه بعد قراءة الإنجيل كان الكاهن يُطفئ الشمعة الفصحية القائمة منذ 40 يوما قدام الهيكل والحضور، وترمز لوجود المسيح، نور العالم. ثم كان في كثير من الكنائس تمثال ليسوع بجانب الشمعة، يربطونه بحبل ويسحبونه إلى فوق، إلى هوّة فوق الهيكل يدخلونه منها فيتوارى عن الأنظار. والمهم أن الناس كانوا يراقبون من أيّ جهة كان وجه يسوع ينظر وهم يسحبونه إلى فوق، وهكذا يُحدد الفلاح في أيّ شهر سيبدأ فصل الشتاء من الأربع شهور الشتوية ابتداء من أيلول، وذلك لبداية تحضير الحقول للفلاحة. وغيرهم كانوا يضعون ضمّة ملح على أربع زوايا العمارة، وعلامة ذوبان ضمّة الملح كانت تُشير إلى بداية فصل الشتاء. عوائد مضحكة لنا اليوم، حيث لم يكن لديهم آلات حلول المطر التي بين أيدينا اليوم، ولكنّها، إلى جانب إيمانهم البسيط، والاتكال على الله، كانت كافية لهم

 

بعد قيامته أمضى يسوع 40 يوما، خفية وعلنا يلتقي مع تلاميذه يجالسهم، يرشدهم ويُشجِّعهم ويُكمّل تأثيث كنيسته، كما يقول المثل، بما لم يفعله قبل موته، مُجمِّلا إيّاها بباقي الأسرار وإقامة الرئاسة عليها من قبل بطرس، حيث جعل منه خليفته وسلّمه رعايتها: إرعَ خرافي! إرعَ غنمي! كان قد أتمِّ العمل الخلاصي بموته على الصّليب، ثم طلب من الرّسل متابعة هذا الخلاص بممارسة الأسرار: من غفرتم خطاياهُم، تُغفر لهم. ثمّ بالتبشير: اذهبوا وبشّرو جميع البشر وعلّموهم جميع ما أوصيتكم به، وعمّدوهم باسم الأب واللابن والرّوح القدس. وهكذا اطمأنّ باله، بأنه الآن يستطيع أن يتوارى عنهم جسميّاُ، لكن ثقوا، ها أنا معكم كلَّ الأيام إلى مُنتهى الدّهر، وها أنا ذاهب لأهيئ لكم مكاناً، إذ يجب أن تكونوا حيث أنا.

 

هذه الأخبار نجدها موصوفة بدقّة في الأناجيل، من الّذين سمعوها بدقّتِها من القائم من الموت نفسه. والان حقَّ له أن يصعد لعند أبيه، حيث قال منه أتيت وإليه أعود.

 

وفي صباح اليوم الأربعين، رافقوه إلى جبل الزّيتون، وما كانوا يعلمون بما سيحدث له أو لهم في ذلك النّهار. من هناك، من سفح الجبل، حيث تقوم هناك الكنيسة ذات القبة السوداء المعروفة باسم كنيسة بكاء يسوع، ألقوا كلّهم نظرة على المدينة أمامهم، فبدت رائعةً هم مع شروق الشمس مع هيكلها الفخم، الّذي كان إلى ذلك الوقت، أجمل هيكلٍ في العالم. فأبدوا إعجابهم لمنظر المدينة هذا، لكنّ يسوع لم يكن نسي، كم من الجدالات حدثت معه ومع خدّام الهيكل، على الباب وفي الساحة الواسعة، بسبب انحرافهم عن وصايا الله وقوانينهم التي كانوا يَسِنّوها لغيرهم، وهم لا يلمسونها بطرف اظفرهم، فتأثّر في داخله، وتقول الأناجيل وبكى قائلا: يا أورشليم! با أورشليم! يا قاتلة الأنبياء، وهو أكبرهم، كم حاولت أن أجمع بنيك، كما تَجمع الدّجاجةُ فراخها تحت جناحيها، ولم تقبلي. إنّه لن يبق فيك حجرٌ على حجر! وقد حدث ذلك سنة 70 حيث أنهى الرّومان استعمار المدينة، فدمّروها وهدموا هيكلها وأحرقوا قدس أقداسه، وقتلوا جميع من طالته أيديهُم من الشعب.

 

ثم تابع يسوع طريقه مع تلاميذه، إلى البقعة القائمة عليها كنيسة الصعود المعروفة. وقفوا هناك وباركهم يسوع، وبينما هو يباركهم، رُفِعَ إلى السّماء واختفي عن عيونهم وسط غيمة، ظهر فيها جوق من الملائكة لمرافقته، أمروا الرسل أن يعودوا إلى المدينة وينتظرون حلول الرّوح القدس، الّذي كان وعدهم به يسوع، ليقوّيهم، ويبدؤون رحلة التبشير، التي لن تعرف نهاية، حتى يسمع آخر مولود في نهاية العالم عن رسالة يسوع ابن الله هذه. هذا هو عيد اليوم. هذا هو عيد الصّعود: يسوع غاب عن أنظارنا، لكنه بقى حاضراً بنعمته، كما هو موجود معنا في القربان، تحت شكلي الخبز والخمر

 

عيد الصعود ليس حدثاً عابرا وحيداً في التاريخ، بل هو عيدُنا جميعاً، إذ ما حدث للرّأس، سيحدث أيضا للأعضاء، كما أكّد لنا بولس. إننا ليس فقط سنقوم، بل وبنعمته سنصعد إلى حيث هو صعد، فالسّماء هي ليست مكان سكن، بغرفٍ وقصورٍ كما نفتكر، وإنّما إقامة جماعية عند الّذي سبقنا إلى مجده عند أبيه، لا يمكن وصفها، إذ لم ترها عين ولم تسمع لها أُذن. فما نحن إلا ضيوفٌ على هذه الأرض، نُقيم عليها إقامة مؤقّتة، لأداء مهمّةٍ معيّنة من الله، وحينما نٌتمِّمَها، تنتهي الإقامة هنا، ويجب أن نعود من حيث أتينا. كاللابن الضال، فهو لم يجد الهناء والسّعادة في الغربة وإنّما في البيت الأبوي. يسوع غاب عنّا، لكنّنا نبقى مرتبطين به بمحبّته، لذا ففينا حاسّة خفيّة لتوجيهنا بأفعالنا إلى وطننا الحقيقي، وهي بمثابة جهاز النافي في أيدينا اليوم، إن برنمجاه صحيحا، يوصلنا إلى الهدف الصحيح. إلى الوطن الحقيقي

 

من لا يعرفه الحمام الزّاجل؟ فهو عنده حاسةٌ تَوَجِّهه إلى عُشِّه الذي خرج منه، مهما كان بعيدا. هذه الحاسة ما كانت معروفة إلا عنده، يعرفها هو وحده. فأينما أطَلْقته، يعود إلى عشِّه الّذي أُبْعِدَ عنه. وهذا إنوحد فيما بعد عند البقر في الإصطبلات الكبيرة، حيث حينما ترجع من المراعي، تجد كل بقرة مكانها. هذا ولا ننسى أنّ الكلاب أيضا عندها هذه الحاسة الرّهيفة. فإن ضاعت أينما ضاعت، تجد بحاسّة شمّها بيتها وعائلتها التي تعيش معهم. مثل الكلب الذي مر ض صاحبه على بعد 2000 كم بعيدا عن البيت. أرجعوه بالهيلوكوبتر إلى بيته وما فطن أحد للكلب. لكن، ويا للعجب وقف الكلب بعد شهرين أمام البيت عائدا سيرا على الأقدام. الكلب عنده حاسّة اتجاه شم وتوجيه قوية، كالحمام الزاجل المذكور أعلاه. تُرى أين حواسنا؟ فإن وَحَدَتِ الحيوانات مربطها، فكيف إذن لا يحد الإنسان الواعي موطنه الحقيقي، الذي ابتعد عنه بالخطيئة؟ إذ ليس آلَمَ على الإنسان موقفٌ في حياته مثل أن بعبش مُهجّرا، بعيدا عن بيته الّذي وُلد فيه. فلكي يجد الطريق المُؤدّي إليه، أعطاه الله بوصلة التفتيش الشعورية الداخليّة كالحمام الزّاجل، الّذي استعارت به التكنولوجيا لوجود أجهزة التوجيه للطّائرات والسّفن، وهي اليوم أجهزة النافي التي في خدمتنا، وطوّرتها للفائدة العامّة منها.

 

إمرأة روسيّة إسمها zenta maurina من Lettland أمضت حياتها مريضة وفي كرسي الجلوس تتأمّل وتكتب كتبا تأمّليّة رائعة. منها كتاب اسمه: شروشنا في السّماء. وقد حاولت فيه أن تدفع كلَّ قرّائها للتفكير بهذه الحقيقة والعيش بموجبها، كما كانت هي مقتنعة واستسلمت لها وهكذا احتملت آلامها المرتبطة شروشُها أيضا بآلام المسيح. فإن لم تكن الحقيقة هكذا، فمن أين لها ولنا القوّة، التي لا تأتي إلا من فوق، أن نحتمل الآلام. لنحصل على إكليل المجد من يد الله بالذات. هو نفسه سيربط منديلا ويخدمنا (لو 37:12). فلولا ارتباطنا بمحبّة الله، لضاع إيماننا، وأضعنا الطريق عند كلِّ مصيبة. قصة آثار الأقدام على الشاطئ معروفة: خلم أحد المتألمين أنه كان برفقة يسوع على الشاطئ ويرى 4 آثار أقدام أمّا عندما كان يعصره الألم فما كان يرى إلا آثار قدمين فقط. فكا يظن أن يسوع يتركه لوحده يمشي ويتألم، فاحتج إلى يسوع، أين كنت عني، عندما كنت أتألّم؟ فقال يسوع: أنا كنت أحملك على ذراعي، وأنت ما كنت ترى إلا آثاري أنا. المهم، حتى نحصل على السماء يجب ألا يغيب عن بالنا، أننا خَلقنا لنعود إلى السّماء برفقة يسوع، خالصنا ومخلّصنا.

 

إذا أعطيت ولداً صغيرا ورقة وقلم لأول مرة في حباته، وطلبت منه أن يرسم أي شيء، فكثيرا ما يرسم بيتاً والشمس من خلفه. البيت يعني ملجأ حماية والشمس الحرارة المطلوبة. وهذا يبقى حلمنا: أول مسكن هو أحشاء الأم ثم حضنها، ثم السرير بجانبها، أول بيت سكن أمين للبشر كان الفردوس، وبعد أن فقده يبقى يفتّش عنه ليحتمي فيه. واليوم يرينا يسوع بصعوده أين هو هذا المسكن، مسكن الراحة النهائية؟ الذي نبقى نحنّ إليه ونفتّش عنه؟ في حضن الله! من الأب أتيت وإلى الأب أعود, الروح القدس هو الذي يرجعنا إلى البيت الأبوي. فلنطلب مرافقته لنا.