موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
إنَّ الحديثَ عن ميلادِ يسوعَ ليسَ مجرَّدَ عودةٍ إلى نَصٍّ دينيٍّ، ولا ذِكرى لِحَدَثٍ تاريخيٍّ وقعَ قبلَ أكثرَ مِن ألفَي سنة، بل هو انفتاحٌ على لحظةٍ فريدةٍ يُصبِحُ فيها الإنسانُ قادرًا على أن يرى نفسَه والعالَمَ بِرؤيةٍ جديدة. لا يُقدَّمُ ميلادُ يسوعَ كحادثةٍ داخلَ التاريخِ فحسْب، بل كنافذةٍ يُطِلُّ منها شيءٌ أكبرُ مِن التاريخِ نفسِه. ولهذا، فإنّ غيرَ المؤمنين أو غيرَ المسيحيّين يجدون أنفسَهم أمامَ حَدَثٍ غيرِ عاديٍّ، يتجاوزُ النقاشاتِ العقائديّة ليطرحَ أسئلةً كبرى مِن نوع: ما معنى أن يدخلَ اللهُ في الزمان؟ ما معنى أن يأخذَ اللامحدودُ شَكلَ المحدود؟ وما الذي يتغيَّرُ في العالَمِ عندما يقتربُ اللهُ مِن الإنسانِ إلى هذا الحدّ؟
في الثقافاتِ القديمةِ كان البشرُ يبحثونَ عن اللهِ بالصعودِ إلى السماءِ، عبرَ الطقوسِ أو المعرفةِ أو القوّة. لكنَّ روايةَ الميلادِ تُقدِّمُ مسارًا مُعاكِسًا: ليست قصةَ الإنسانِ الذي حاولَ الوصولَ إلى الله، بل قصةَ اللهِ الذي اختارَ النزولَ إلى مستوى الإنسان، لا في صورةِ قوّةٍ أو سُلطان، بل في صورةِ طِفلٍ. إنَّ اختيارَ الضَّعفِ بدلَ القوّة، والفقرِ بدلَ الغِنى، والبساطةِ بدلَ التَّعالي، يُبدِّلُ مفهومَ الألوهيّةِ نفسِه. فعندما يولَدُ يسوعُ طفلًا، فإنَّ هذا يمزِّقُ التَّصوُّرَ التقليديَّ عن اللهِ البعيد، الصارم، المُخيف، ويُقدِّمُ صورةً مختلفةً جذريًّا: اللهُ الذي لا يخجلُ مِن الدخولِ إلى عالَمِنا مِن أبسطِ الأبواب، اللهُ الذي يقبلُ أن يُحمَلَ على الأذرُع، وأن يَجوعَ ويبكي ويتعلَّمَ الكلام. هذه ليست شِعرًا روحيًّا فحسب، بل ثورةٌ على تصوُّرِ الإنسانِ لنفسِه وللإله.
الميلادُ هنا يُصبِحُ لحظةً تتجلّى فيها كرامةُ الإنسان. فما دامَ اللهُ قد اقتربَ إلى هذا الحدّ مِن الطبيعةِ البشريّة، فهذا يعني أنَّ الإنسانَ ليس مخلوقًا عبثيًّا، ولا كائنًا ساقطًا بلا قيمة. إنَّ التَّجسُّدَ يرفَعُ قيمةَ الجسدِ والصوتِ واللغةِ والعملِ والعلاقة، وكلِّ ما هو إنسانيّ. لقد أتى اللهُ لا في صورةِ فكرةٍ ولا وصيّة، بل في صورةِ إنسان، وهذا يدلُّ على أنّ الإنسانيّة ليست وعاءً عابرًا، بل مكانًا قادرًا على احتضانِ السرّ الإلهيّ. فمُنذُ الميلادِ لم يَعُدْ الإنسانُ مجرّدَ كائنٍ يبحثُ عن معنًى، بل صار المكانَ الذي يُريدُ اللهُ أن يلتقي فيه العالَم.
ومن جهةٍ أخرى، فإنَّ ميلادَ يسوعَ يُقدِّمُ نموذجًا جديدًا لمعنى القوّة. ففي الحضاراتِ الكُبرى وُلد الملوكُ في القصور، مُحاطينَ بالهيبةِ والجلال. أمّا يسوعُ فولدَ في مِذوَد. لم تُصنَعْ حياتُه مِن الذهبِ ولا مِن أعمدةِ الرخام، بل مِن خشبِ البُسطاء ومِن أنفاسِ الحيوانات. في هذا المشهدِ لا يوجدُ شيءٌ يُرضي خيالَ السلطةِ أو التَّرف، بل كلّ عناصره تكشف عن عالَمٍ مختلف: عالَمٍ يُقدِّرُ الإنسانَ قبلَ المظهر، والجوهرَ قبلَ الشكل. الميلادُ هنا يُعيدُ تعريفَ القوّة بأنّها القدرةُ على المحبّة، وعلى النزولِ إلى مستوى الآخر، وعلى التخلّي عن الحقوقِ مِن أجلِ أن ينهضَ الآخرُ بكرامتِه. هذه ليست القوّة التي تُدرَّسُ في مدارسِ السياسةِ والاقتصاد، بل القوّةُ التي تُغيِّرُ العالَمَ مِن الداخل.
أحدُ الأبعادِ العميقةِ في قصةِ الميلادِ هو إعادةُ تعريفِ الزمن. فالتاريخُ -بهذا الميلاد- لا يعودُ مجرّدَ تسلسلٍ ميكانيكيٍّ للأحداث، بل يُصبِحُ مجالًا لِعملِ الله. يولدُ يسوعُ في لحظةٍ معيّنة، في مكانٍ محدّد، مِن امرأةٍ معيّنة، داخلَ سياقٍ اجتماعيٍّ مُضطرب. وبذلك يصبحُ الزمنُ ليس مسرحًا لفعالياتِ البشر فقط، بل مجالًا لحضورِ الله. الزمنُ الذي نعيشه - بتعبِه وضغطِه وخيباتِه - لم يَعُدْ بعيدًا عن الله، بل صار مكانًا للِّقاء. ولذلك لا يتعاملُ المسيحيّون مع الميلادِ كذكرى ماضٍ، بل كحضورٍ دائم، لأنَّ كلَّ ميلادٍ جديدٍ يُحتَفَلُ به لا يُعيدُ الماضي، بل يفتحُ الحاضرَ على إمكانيّةٍ جديدة.
كما يُقدِّمُ الميلادُ معنًى جديدًا للهويّة. فالهُويّاتُ كثيرًا ما تُبنى على الفصلِ والتمييز: نحنُ في مقابلِ الآخر، الداخلُ في مقابلِ الخارج. أمّا الميلادُ فيُقدِّمُ هُويّةً مفتوحة، إذ يأتي يسوعُ ليكونَ للجميع: للرعاةِ البُسطاء، وللغرباءِ القادمينَ مِن الشرق، ولكلِّ إنسان. منذ يومِه الأول كان محاطًا بوجوهٍ لا يجمع بينها شيءٌ إلّا رغبتُها في الحقيقة. الميلادُ يُعلِنُ أنَّ العالَمَ لم يَعُدْ منقسمًا بين مُقدَّسينَ ودنيويّين، بل صار الكلُّ مدعوّين للمشاركةِ في نورٍ واحد. هذا يُقوِّضُ الميلَ البشريَّ لبناءِ الأسوارِ والحواجز، لأنَّ اللهَ لم يأتِ لفئةٍ دونَ أخرى.
ونجدُ في الميلادِ أيضًا بُعدًا فلسفيًّا عميقًا يتعلّقُ بالعلاقةِ بين المعنى والواقع. فالكثيرُ مِن الفلاسفةِ رأوا أنّ الحقيقةَ العليا بعيدةٌ عن المادة، وأنَّ الجسدَ عائقٌ أمام المعرفة. أمّا الميلادُ فيُقدِّمُ مصالحةً كاملة: الحقيقةُ تتجسَّد، الكلمةُ يصيرُ جسدًا، والمعنى يُلامِسُ التّراب. وهذا يعني أنَّ العالَمَ ليس عبئًا، بل مجالًا لِنعمةٍ يمكن اكتشافُها. لهذا احترمت المسيحيّةُ -منذ بداياتِها- الفنَّ والموسيقى واللغة والجسد، لأنَّ الميلادَ حوّلَ الأشياءَ البسيطةَ إلى علاماتِ حضورِ الله.
لكنَّ الميلادَ، رغم جمالِه، لا ينفصلُ عن مأساةِ العالَم. فمنذ دخوله، كان هناك مَن يرفضُه، ومَن يُهدِّدُ حياتَه. ميلادُه لا يُلغِي الشرّ، بل يكشفُ أنَّ الشرَّ ليس الكلمةَ الأخيرة. الطِّفلُ الذي هَرَبَ مِن القتلِ صار لاحقًا رمزًا للخلاص. هذه المفارقةُ تجعلُ الميلادَ حدثًا واقعيًّا، يحتفلُ بالرجاءِ في عالَمٍ جريحٍ لا ينكُرُ جراحَه. ولذلك يصبحُ الميلادُ ليس رومانسيةً مُزيّفة، بل إعلانًا أنَّ النُّورَ أقوى مِن الظلام، حتى لو بدا الظلامُ كثيفًا.
وأخيرًا، يدعونا الميلادُ نحنُ أيضًا إلى إعادةِ اكتشافِ معنى الحضور الإلهيّ في حياتِنا. فكما دخل يسوعُ إلى عالَمٍ مزدحمٍ مُرهِق، كذلك يدخلُ إلى حياتِنا اليوميّةِ بكلّ تناقضاتِها. الميلادُ ليس حدثًا نُشاهِدُهُ مِن الخارج، بل دعوةٌ لأن يولدَ اللهُ في داخلِنا: في وعْيِنا، علاقاتِنا، قراراتِنا، وأعمالِنا. الإنسانُ الذي يستقبلُ هذا الميلادَ الداخليَّ يُصبِحُ نفسُه حاملًا للنور. وهذا هو جوهرُ الرسالة: أن يُصبحَ العالَمُ مكانًا يُمكن أن يولدَ فيه الرجاءُ مرّةً أخرى، وأن يكونَ كلُّ واحدٍ منّا «مِذوَدًا» يتهيّأ لاستقبالِ المعنى.
وهكذا، فإنَّ ميلادَ يسوعَ -بهذا المنظور- ليس حدثًا لاهوتيًّا خاصًّا بالمؤمنين فقط، بل حدثًا إنسانيًّا يفتحُ البابَ أمامَ كلِّ مَن يبحثُ عن معنًى أعمقَ للوجود. إنَّه لحظةٌ يلتقي فيها اللهُ بالإنسان، والرُّوحُ بالجسد، والأبديّةُ بالزمن، ليُعادَ تشكيلُ العالَمِ مِن الداخل، ويُعادَ اكتشافُ الإنسانِ ككائنٍ قادرٍ على حملِ نورٍ لا يَنطفِئ.