موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الجمعة، ١٧ سبتمبر / أيلول ٢٠٢١

من أراد أن يكون أول القوم، فليكن آخرهم

بقلم :
الأب منويل بدر - الأردن
من أراد أن يكون أول القوم، فليكن آخرهم

من أراد أن يكون أول القوم، فليكن آخرهم

 

الأحد الخامس والعشرون (الإنجيل مر 9: 30-37)

 

شيئا واحداً كَرِهته كلَّ حياتي، وهو الكبرياء. فصاحبها وحده يعتبر نفسه أكير وأحسن النّاس. هل نسينا غطرسة ترامب، رئيس أمريكا الفاشل، والّذي أيضاً فشِل بانتخابات نوفمبر 2020؟. كم من مرّة أعلن نفسه أحسنَ رئيسٍ حَكَمَ أمريكا (كان رقم 45). لمّا خسر الإنتخابات 2020 أوجد دعاية الغش المُبطَّنة من منافسه، بدون ما يُقدِّم أيَّ مُبرّرِ أو أي إثبات لذلك. وبالرّغم من ذلك لم يتنازل أن يتواضع ويُقرّ أنَّ منافسه جو بايدن هو الّذي فاز. وانتهت مدّةٌ ولايتِه وتسلّم خلفه السلطة ,لم يُهنئه حتى ولم يحضر حفلة تنصيبه. قال الكتاب المقدّس. الكبرياء هي أصل كل الخطايا

 

بلا شك إنّه لمُخجل أن يكون الإنسان الآخير بكل شيء. فهو أمرٌ مُذِلٌّ بل ومخزي. إنها علامة على اليأس والفشل، وقد قال المثل: من صار الآخير فالطبيعةُ نفسُها تُعاقبه. لكن أن يكون الإنسان الأوّل، فهذا شرفً كبير، ولا يسمع الإنسان من حواليه إلاّ المديح والتقدير. فمثلا الألعاب الأولمبية، هي المكان الحقيقي لمراقبة الشعور بالنّجاح أو بالإخفاق، بالفرح أو بالترح. وهذا ليس جديدا. فإن بولس قد عاش ذلك ووصفه لنا كالتّالي: "ألستم تعلمون أنّ الّذين يركضون في الميدان جميعهم يركضون، ولكن واحداً ينال السبق. هكذا اركضوا لكي تألوا" (1 كور: 24.9).

 

المنافسة كبيرة في كل الحقول، وليس فقط في الرّياضة للحصول على المركز الأوّل. كذلك في الدّعوات العامة، فمن لا يحاول الحصول على مقعد في الصفوف الأوّلية، (إلا في الكنائس، فالبنوك والمقاعد الأمامية غالبا ما تبقى فارغة)، ليرى النّاس مع أيِّ شخصيّات هو جالس. هذا وتتولّى الإذاعات والتلفاز بإرسال الصّور والأفلام القصيرة والمقابلات مع الرّابحين، فيعلو شأنُهم أمام المشاهدين. هذا وتستغل الدّعايات معرفتهم وشعبيتهم، وتظهرهم يستعملون منتوجاتها، فيساعدوا بتسويقها فيزداد بيع المنتوجات المُرَبِّحة.

 

الإنجيل يُخبرنا أنّ التّلاميذ كانوا يتجادلون في الطّريق، حول مَن سيكون الأكبر بينهم، لِيُشغل المناصب المهمّة في الملكوت، الّذي كان يسوع ناوياً تأسيسَه، كما كانوا يفتكرون، إذ قارنوه بالممالك الأرضيّة، مع وزراء وموظّفين. عِلماً بأنَّ يسوع ما عنى، ولو مرّةً واحدة، أنّه سيُنافس العالم وسيؤسِّس مملكة أرضية، تُلغي كلَّ الممالك المعروفة، وتتميّز بنخبة موظّفيها وعمّالِها ووزرائها. إنّ مملكتي ليست من هذا العالم. كان هَمُّ يسوع لا تأسيس مملكة أرضيّة، وإنّما خلقُ تفكيرٍ جديد في رؤوسهم، عبّر عنه ليلة العشاء الآخير، من بعد ما غسل لهم أرجُلهم. "سألهم قائلا: أتفهمون ما قد صنعت بكم؟ أنتم تدعوني مُعلِّماً وسيِّداً، وحسنا تقولون، لأني أنا كذلك. فإن كنتُ أنا السيد والمعلّم، قد غسلتُ أرجُلكم، فأنتم يجب عليكم، أن يغسِل بعضُكم أرجلَ بعض. لأني أعطيتكم مِثالاً، حتى كما صنعتُ أنا بكم، تصنعون أنتم أيصا. الحقَّ أقولُ لكم، إنه ليس عبدٌ أعظمُ مِن سيِّده، ولا رسولٌ أعظمُ من مُرسِله" (يو 13: 13-16). إن في رسالة يسوع القوّة أن تؤثِّر علينا لنتصرّف غير ما يحلو لنا، وأن نتعامل مع بعضنا، بغير ما يتعامل السّياسيّون مع مواطنيهم. كل واحد يريد أن يَبْرُز على حساب غيره. كل واحد يريد أن يصبح أغنى وصاحب نفوذٍ أقوى في المجتمع. وأمّا يسوع فينصح بالتنازل عن المنافسة، واعتبار حياتنا رسالة خدمة لغيرنا

 

ثمَّ أخذ طفلاً، ووضعه في وسطهم، وراح يُعطيهم دروساً واقعية من صفات هذا الطفل. فهو لا يقدر أن يقوم بشيء لوحدِه، بل هو في كل شيء، مُسيّراً لا مُخيّراً، يتّكل على أهله. ما عنده أيُّ همٍّ ليفتِّش عن وظيفة، ولا يعرف المنافسة، ليَظهر كشخصيَّةٍ مُهِمَّةٍ في المُجتمع. فيمكن لهذا الطفل أن يُعطيهم درساً في التّواضع، فلا يجوز لإنسان ان يعتلي على إنسان، إذ البشر كلُّهم سواسية أمام الله. أمّا وإن وافاهم الحظُّ، وحصلوا على وظيفة عالية، فيجب أن يعتبروا ذلك إختيارا منه تعالى، لخدمة مَنْ لم يحالفهم الحظ، إذ في كلِّ مُجتمعٍ بشريٍّ، نجد طبقة ،غبرَ مُوفّقة، لسبب أو لآخر، لذا فهي بحاجة للإهتمام بها وخدمتِها من قِبَل القادرين: ليكن كبيرُكم خادِمَكم. وبالمشابه فإن في تعاليم يسوع وأقواله، حلولاً كثيرة للقضاء على الفقر. أعطوا تُعطوا، لأنه ماذا ينفع الإنسان، أن يكون مادّيا غنيّا، لكنّه لا يفطن لا لجائع ولا لعطشان، فهو سيخسر أيضا نفسه. فكما قالت التّوراة: خلاصُكَ بيدكَ يا إسرائيل. تعاليم يسوع ما هي فقط كلام للعقل، بل عملٌ يُقتدى: الحرف يقتل وأما الرّوح فيُحي. إنه بالتّالي يريد من الجالسين في مناصب عالية أن يعتبروها، أماكن خدمة وتضحية قي سبيل المحتاجين والمتألِّمين.

 

يسوع أراد بالتالي إلغاء الدّرجات والصّفوف. حاكم ومحكوم، سيّد وعبد، غني وفقير. فمن بيده الحكم، يجب أن يعلم أنّ حُكمه هو خدمة. ليكن كبيركم صغيركم. متى دُعيتَ من أحدٍ إلى عرس، فلا تتكئ في المكان الأوّل (لو 14.8). إنّ ابنَ البشرِ لم يأتِ ليُخْدَم بل ليَخدُم ويبذُلَ نفسَه عن الكثيرين.

 

مَن مِنّا لا يفرح، أن يكون له سقفاً فوق رأسه، أن يكون له عائلة ووظيفة مُؤمَّنة، لكن ماذا ينفع كلُّ ذلك، إن لم يكن لي قلباً رقيقاً تجاه من لا يملك شيئاً من هذه الكماليات، وأشرِكُه فيها، إذ ماذا ينفع الإنسان أن يربح العالم كلَّه ويخسرَ نفسَه. إكنزوا لكم كُنوزاً في السماء. أما الكنوز التي نقدر أن نكنِزها في السّماء فهي ليست مادّية، وإنّما روحية، وهي أعمال الخير والإعتناء بمن هم بحاجة للعناية، فإن عملناه للقريب، بما أننا تلاميذٌ ليسوع، فإنّنا له نفعله، قال عنها هو نفسه: الحق أقول لكم، إنَّ أجركم لن يضيع.

 

الأحد الخامس والعشرون اليوم، تحتفل به الكنيسة سنويا كأحد الكاريتاس، والهدف منه، أنها تريد أن تذكِّرنا، بأهمّيَّة القيام بأعمال الرّحمة، تُجاه االمحتاجين للرّحمة، وهم المُعوزين والفقراء والمرضى والمساجين، الّذين لأجلهم جاء يسوع: الحقّ أقول لكم، ليسوا هم الأصحاء، الذين يحتاجون إلى طبيب، بل المرضى.

 

لمّا نظريسوع كثرة الجماهير حواليه، وبأن خدماته وخدمات رسله لم تكن كافية، لتصل للجميع، تنهّد وقال: العمل كثير وأما العملة فقليلون. هذا الوضع لم يختلف حتى اليوم. لذا شعرتْ الكنيسة منذ البداية، يأنها مُلزمةً للإعتناء بهذه الفئة من النّاس، ومن أجلها، أوجد التّلاميذ وظيفة الشمّاسيّة، أي خدمة المحتاجين. فكتاب أعمال الرسل يذكر، أنّ التلاميذ كانوا منهمكين بمهمَّةِ التبشير، ناسين أن هناك فئات كثيرة، كانت بحاجة إلى الخدمة، لا إلى العِلِم، فحدث تذمُّر، من اليونانيّين على العبرانيّين، أن أرامٍلهُم كنَّ مُهملات في الخدمةِ اليوميّة، فبعد تشاورٍ داخلي، قرّر التّلاميذ اختيار أوّلِ سبع شمامسة، للقيام بخدمة الموائد والأرامل ودفن الموتى، ونحن، قال التلاميذ، نبقى في خدمة الكلمة(أعمال 1.6). فالإحتفال بأحد الكاريتاس، أَحَدِ الخدمات الإجتماعبة هو ملائم في زماننا، إذ الكنيسة ما عادت قادرة للتصدّي لكل ما هو مطلوب منها، أمام جماهير اللاجئين واحتياحاتهم بل ومتطلباتهم. هذا وإن أكثر الخدمات من عمال الكاريتاس هي تطوّعية مجانية، من جميع طبقات المؤمنين، الكبار قبل الصّغار، الّذين لا تنافس بينهم على الألقاب والمناصب، بل ما يهمُّهم، هو الوقوف إلى جانب هؤلاء المشرّدين وإطعامهم وإيواءهم، لأنَّ كل الّذي فعلتموه لهؤلاء، فلي  فعلتموه. آمبن