موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
في زحام العالم، حيث تتقاطع الطرق وتتصادم المصالح، يبقى الإنسان هو اللغز الأبدي… يسكن الأرض، ويعمّرها، لكنه أحيانًا يبدو كأنه حمل زائد على كاهلها. ومن بين الأصوات المرتفعة، يطل اليوم العالمي للسكان، ليس كتقويم أممي فحسب، بل كجرس إنذار، يقرع في أعماق الضمير الإنساني قبل أن يسمعه صانعو القرار.
في الحادي عشر من شهر يوليو من كل عام، تتوقف عقارب السياسة والاقتصاد والتعليم والصحة قليلًا، لتستمع إلى صوت لا يُسمع إلا مرة كل عام... صوت الناس لا الحكومات، ولا الشركات، ولا الأسواق، بل الإنسان ذاته. ذلك الكائن الذي يصنع الحضارة، ويشقى في بناء المدن، ويُحاصر في زوايا الأرقام. احتفال لا بالأعداد، بل بالوجوه، لا بالإحصاءات، بل بالحكايات التي تحيا خلف كل رقم.
بدأت الحكاية عام 1987، حين بلغ عدد سكان الأرض 5 مليارات نسمة. لم يكن ذلك مجرد رقم، بل ناقوس خطر، دفع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي إلى إطلاق هذا اليوم رسميًا عام 1990 ليُذكّر العالم بأن النمو السكاني ليس مسألة حسابية، بل مسألة إنسانية، بيئية، نفسية، ووجودية أيضًا.
لك أن تتخيل أن طفلًا يولد كل ثانية، بينما لا يجد ملايين الأطفال فرصة للتعليم أو حتى الماء النظيف. ليس في القضية خلل في الأرقام، بل خلل في التوزيع، في الرؤية، وفي الإرادة.
"إن لم نحسن عدّ الناس، فلن نحسن خدمتهم»–مقولة أممية تتردد كترنيمة لهذا اليوم.
لماذا نحتاج هذا اليوم؟.
نحتاجه لأن خلف كل طفل يولد هناك أم تحلم بمستقبل له. نحتاجه لأن التخطيط السكاني هو تخطيط للسلام، للتعليم، للأمل. نحتاجه لأننا إن تجاهلنا البشر في القرارات، سنجدهم لاحقًا في المآسي.
اليوم العالمي للسكان من منظور أدبي
الإنسان في مواجهة الأرقام في قصيدة لم تُكتب بعد، تقف البشرية على مفترق إحصاء. تُعدّ الأنفاس، وتُقاس الكثافة، وتُحصى الولادات، لكن هل تُقاس المشاعر؟ هل تُحتسب الأحلام؟
"كل رقم في تقارير السكان هو قلب نابض... وطفلٌ يفتش عن دفء، وامرأةٌ تكتب مستقبلها على صفحة مجهولة». إن هذا اليوم فرصة لننظر إلى الكائن البشري لا كمعادلة إحصائية، بل كحكاية. فالأدب يعلمنا أن وراء كل وجه قصة، ووراء كل اسم ذاكرة، ووراء كل مولود احتمالات لا تُعدّ.
تمامًا كما كتب الشاعر محمود درويش: «ليس عددًا، لا... بل أنا إنسان!"
وهكذا، يصبح اليوم العالمي للسكان لحظة تأمل شعري في زحام الجموع، لنتذكر أننا لا نحيا في تعدادٍ سكاني، بل في نسيج إنساني.
اليوم العالمي من منظور إنساني
"الكرامة أولًا... العدالة أساس» وراء هذا اليوم حكاية أوسع من الأرقام؛ إنها صرخة الإنسان البسيط، الذي يطلب حقه في الحياة، في الرعاية، في المساحة، في الهواء النظيف، والتعليم، والهدوء النفسي.
أكثر من 8 مليار انسان اليوم يتقاسمون الأرض، لكن لا يتقاسمون الفرص بالتساوي. 214 مليون سيدة حول العالم لا يملكن حرية اتخاذ قرار الإنجاب. حوالي 1 من كل 3 حول العالم لا يحصلون على مياه شرب آمنة أو خدمات صحية ملائمة. المدن تتضخم.. والضغوط النفسية تزداد، حتى بات الاكتئاب والقلق أمراضًا سكانية بامتياز.
إنه يوم يسأل ضمير العالم: هل يمكن لهذا الكوكب أن يحتضن كلّ هذا التمدّد دون أن يُنهك؟ وهل يحق لكل إنسان أن يُولد ليعيش بكرامة، لا ليُعدّ رقميًا في تقرير فقط؟
كل زيادة في عدد السكان هي خطوة إضافية نحو اختبار قدرة الطبيعة. الأرض تئن. المياه تشحّ. المدن تختنق. وعقل الإنسان يتعب وسط كل ذلك. البيئة لم تعد خلفية للمشهد الإنساني بل شريكا في استمراره ووجوده.
من هذا المنظور، تصبح العدالة البيئية والعدالة السكانية وجهين لعملة واحدة. فلا يمكننا الحديث عن تنمية سكانية دون احترام بيئي، ولا عن رفاه إنساني دون صحة نفسية متزنة.
الإنسان والبيئة.. علاقة مصير
كل إنسان يولد يعني حصة جديدة من الماء، والهواء، والطعام، والتعليم، والخدمات الصحية. ومع تسارع استهلاك الموارد، نحن بحاجة ماسة إلى موازنة دقيقة بين حاجات الإنسان واستمرارية الأرض.
"البيئة لا تئن من كثرة البشر، بل من قلة الوعي» إن العلاقة بين الإنسان والطبيعة يجب أن تعاد صياغتها، ليس على أساس السيطرة، بل على أساس الشراكة.
دعوة للتأمل في زحام العالم
حين نُحصي عدد السكان، فنحن لا نُحصي الأجساد، بل الأحلام، الأحزان، القصص التي لم تُروَ بعد. نحن نُعدّ قلوبًا نابضة، عيونًا تنتظر، وأرواحًا تبحث عن مستقبل أقل ازدحامًا وأكثر كرامة. في هذا اليوم، لنتذكر أن: الطفل في شوارع مانيلا يستحق مقعدًا في مدرسة. الفتاة في قرية نائية تستحق أن تختار متى تصبح أمًّا. الأم في مخيم لجوء تستحق طبيبًا، لا خيمة فقط.
ليس الهدف من هذا اليوم أن نحدّ من النسل فقط، بل أن نهذّب الوعي. أن ننظر إلى الإنسان لا كرقم في قائمة، بل كعالم من المعاني. أن نسعى إلى عدالة في الفرص، في الغذاء، في التعليم، في الراحة النفسية. فلنحوّل الأرقام إلى مسؤوليات، والإحصاءات إلى خطوات، والضجيج السكاني إلى نغم إنساني.
اعتقد أن اليوم العالمي للسكان ليس يومًا نقرأ فيه إحصاءات، بل يوم نقرأ فيه أنفسنا.
هو وقفة بين ضجيج المدن، نسمع فيها الهمس البشري الخافت الذي يقول:
"أنا هنا... لا تنسَ أنني إنسان، لا رقم."
فلتكن هذه الذكرى لحظة تفكّر:
كيف نصنع التوازن بين الكثرة والكرامة؟
كيف نمنح كل مولود حق الحلم، لا عبء الواقع؟
وكيف نعيد كتابة السياسات بلغة القلب، لا فقط لغة الأرقام؟
(الرأي الأردنية)