موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ١٤ يوليو / تموز ٢٠٢٢

في "العلاج الكيميائي" السياسي

الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط

الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط

د. ميشال عبس :

 

هذه ليست مقالة في السياسة؛ هذه مقالة في ما يمكن أن ترتكبه السياسة بحقّ الإنسان والمجتمع.

 

عندما يقرّر الطبيب أنّ في الجسم خلايا مرضيّة خبيثة ويقرّر أن يقضي عليها، يكون على يقين، ويخبر الشخص المعني، بأنّ هذا العلاج هو اجتياح كيميائي للجسم الإنساني، يستهدف الخلايا المرضيّة ويترك في طريقه كلّ أشكال الأضرار المتوقّعة وغير المتوقّعة على جسم الإنسان. مختصر القول أنّ الغاية العلاجيّة تبرّر الوسيلة المؤذية وأنّ الأضرار الجانبيّة هي أمر لا بدّ منه على طريق شفاء الجسد.

 

في السياسة يبدو أنّ المتنفذين في هذا العالم والّذين نصبوا أنفسهم قضاة للإنسانيّة، يضعون على مجتمعاتها ما يسمّونه عقوبات، قد اعتمدوا هذه الطريقة الإجتياحيّة من الداخل تمامًا كما العلاج الكيمائي.

 

تراهم متّحدين ومنفردين يحكمون على فلان أنّه طاغية وأنّ شعبه سوف يكون في حال أفضل من دونه ويعدون هذا الشعب بمستقبل أفضل ولا شيء من ذلك يتحقّق، لا بل تسوء حالات الشعوب والتاريخ يشهد على ذلك.

 

في المقابل تراهم، متّحدين ومنفردين أيضًا، يوزّعون شهادات حسن سلوك على حلفائهم ويغدقون عليهم العطاءات طالما هم في بيت الطاعة وإن ذهبوا يومًا، نرى لهم ملفّات مفتوحة وليس لها نهاية.

 

لقد ابتدع مستكبرو هذا العالم تعبيرًا جديدًا لمفهوم الحصار، يحمل دلالات أدبيّة وقانونيّة: العقوبات! 

 

الحصار عمل بربري في نظر أصحاب السطوة أمّا العقوبات فهي عمل تأديبي يتوخّى العدالة، عدالة الذئب، عدالة الغابة.

 

ولكن من "يعاقب" من؟ 

 

إنّه الأقوى يعاقب الأضعف والمتسلّط يعاقب من لا حول له ولا قدرة.

 

يتذرّع الأقوى بمعاقبة الدول والحكّام ومن يسمّيهم الطغاة ومن أجل ذلك يضرب حصارًا مموّهًا مزيّنًا بكلمة عقوبات على ملايين البشر.

 

هو منطق العلاج الكيميائي يطبّق في السياسة.

 

أوَ تجتاح اجتماعيًّا واقتصاديًّا وحياتيًّا مجتمعًا برمّته من أجل أن تصيب مجموعة حاكمة لا ترضى عنها أيّها المستقوي بالمال والسلاح والإعلام؟

 

من الّذي أعطاك هذا الحقّ؟

 

ما هي المرجعيّة الكونيّة الدهريّة الّتي نصبتك حاكمًا للعالم؟

 

هل أحصيت القتلى والمرضى والناس الّذين دمّرت مستقبلهم والأسر الّتي فكّكتها والبؤس؟؟؟؟ الّذين عمّمتهم نتيجة سياستك؟

 

لن نذكر بالأرقام فالهيئات المعنيّة بالأمر قد نشرتها وتنشرها على الدوام وقسم منها مكوّن من شرفاء بلادك أيّها المنصب نفسك حاكمًا للإنسانيّة بأمر الله.

 

نذكر فقط أنّ اللّعبة قد أضحت مكشوفة للجميع يفهمها الطفل الّذي يعاني مع أهله الجوع والمرض كما يفهمها المحلّل السياسي المتبحر بالموضوع.

 

أنتم لا تستهدفون فئات معيّنة حاكمة لشعوب معيّنة. أنتم تستهدفون هذه الشعوب، خصوصًا شعوب المشرق الأنطاكي الّذي بشركم بالمسيحيّة الّتي تتلطون وراءها من أجل إبادة هذه الشعوب.

 

نعم، أنتم تستهدفون الشعوب وتعلمون علم اليقين أنّ أوّل المتأثّرين سلبًا من أفعالكم هم الناس الّذين حولتموهم إلى الفقر والجوع والمرض والتشرّد.

 

الحصار المتنقل المموّه بالعقوبات "الإنسانيّة" على حكومات "غير إنسانيّة" طال شعوبًا كثيرة، وما أكثر ضحاياكم، ولكنّها دمّرت مجتمعات المشرق الأنطاكي.

 

ماذا تسمّون حصار غزة؟ عقوبات؟

 

ماذا تسمّون حصار العراق؟ عقوبات؟

 

ما علاقة الرضيع والعاجز بالجيوبوليتيك؟ 

 

ما علاقة الناس بالاستراتيجيّات السياسيّة والعسكريّة الّتي تتوخون عبرها السيطرة على مقدرات الشعوب؟

 

أنتم تقصدون الشعوب وليس الأنظمة، والتذرّع "بمعاقبة" الأنظمة ليس الّا غطاء لتدمير هذه الشعوب حتّى تفقد كلّ قدرة على الصمود فتستسلم لأراداتكم الّتي لا يعرف تبعاتها الّا من كابدها.

 

سجّلوا في مفكّرتكم: "العلاج الكيميائي" السياسي مفهوم جديد لإبادة الشعوب وسلب إرادتها ونهب مواردها بثياب حملان.

 

أنتم الأنبياء الكذبة الّذين تكلّم عنهم السيّد المتجسّد الّذي لا تتجرّؤوا أن تقرؤوا إنجيله ولا أن تعملوا بوصاياه!

 

أنتم المنافقون الّذين تكلّم عنهم السيّد!

 

أنتم لا تبنون بيوتكم على الصخر كما أوصآكم السيّد، لا بل تحضرون لأجيالكم الّتي لم تولد بعد مصيرًا قاتمًا!

 

ألم يوصيكم السيّد ألا تكنزوا لأنفسكم كنوزًا على الأرض حيث يفسد السوس والصدأ وحيث ينقب السارقون ويسرقون؟

 

أمن أجل هذه الكنوز تقتلون الأطفال؟

 

سوف نبقى ملح الأرض وسوف لن نكلّ عن الدفاع عن الضعفاء والمهمّشين وضحايا الظلم وسوف لن نكفّ عن تذكيركم أنّ لا أحد من دون خطيئة وأنّ الأنظمة والتشريعات ليست الّا وسائل لحماية الأبرياء من الكواسر.

 

هكذا علّمنا السيّد وهكذا سوف نكرز بإسمه، بإسم الخلاص الّذي بشّرنا به وبإسم المحبّة الّتي بها يكون "الإجتياح" الصحيح للعالم.