موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأحد، ١٤ يناير / كانون الثاني ٢٠٢٤

شعوب تحيتها: أكلت اليوم؟!

بشار جرار

بشار جرار

بشار جرار :

 

لن أغامر بالاتكال على «غوغل ترانسليت»، لكن سلام الناس على بعضها بعضا في سنغافورة هو التساؤل بوازع التعاطف والاطمئنان لا الفضول: أكلت اليوم؟ ظننت في الأمر خطأ في الترجمة أو مبالغة بتحميلها معان تثقل كاهلها، حتى جاورت زميلا أيام الدراسة في إنجلترا من الأخوة السنغافوريين المنحدرين من أصل صيني -ومنهم من أصول ماليزية وهندية- وقد كان يعد لنيل الدكتوراة في سلامة المنشآت النووية المدنيّة مع زميلة له من كوريا الجنوبية. أخبراني يومها بما يؤكد التحية الوطنية للبلاد على اختلاف إثنيّاتها عرقيا ودينيا.

 

الأمر يعود إلى أيام الحرب وكلفها العالية التي لا تقتصر فقط على الضحايا المدنيين والخسائر المادية بل وتعطيل الإنتاج وتثبيط الهمم، فضلا عن الفاقة جراء انعدام فرص العمل أو تدني الدخل وغلاء الأسعار. كان شأنا عظيما أن ينعم الله على الإنسان بلقيمات تقيم أوده حتى لا ينام خاوي البطن. لذلك كان السؤال اليومي أو التحية الوطنية كل طالع شمس من شقين: أمورك؟ أكلت؟ بمعنى هل أمورك طيبة وما زالت قادرا على المضي قدما؟ ومن ثم هل «تعشّيت» أمس أو هل أكلت شيئا اليوم؟

 

سنغافورة معجزة في قدرتها على وصل الماضي بالحاضر وتوظيفهما معا لغد أفضل. هم مستقبليون بالفطرة و الحاجة والإرادة أيضا. بلاد رسمت حدودها بتسويات إقليمية وتفاهمات دولية. وكذلك كان التعايش فالعيش المشترك بين جميع المواطنين في دولة القانون سواسية بصرف النظر عن الدين أو العرق أو التوجه السياسي.

 

لم تفرّط سنغافورة -على تقدمها الفلكي بالقطاعات التقنية والمعلوماتية والبنى التحتية وبيئتها الاستثمارية الجاذبة المنفتحة على العالم كله- لم تفرّط بتراثها الأخلاقي والاجتماعي. ما زال «العلك» أي مضغ اللبان مدانا. وإن بلغ «العلاك» باللهجة الشامية -الثرثرة أو النميمة والغيبة أو السفسطة –بـ»المتشاقين» أو الأشقياء حدّ تخريب الممتلكات العامة أو الخاصة «فانداليزم» ولو بالألوان فيما يعرف بـ «غرافيتي الشوارع» فإن العقوبة تصل إلى السجن والغرامة وتبدأ من الجلد! نعم الجلد، عبر الضرب بعصا على رجليّ -لا قدميّ (ليست فلقة) من يتجاوز القانون. وتعود تلك العقوبة إلى زمن الاستعمار البريطاني لسنغافورة وتعرف بـ «كانينغ» أو «فلوغينغ». وقد تعرض مراهق أمريكي يدعى مايكل فاي للضرب بالعصيّ ست جلدات سنة 1994 بعد إدانته بجنحة «فانداليزم».

 

مثلنا بالضبط، لا يطيق السنغافوريون أيضا الصفير، ما لم يكن «صفير البلبل»! التصفير سوء أدب وقلة احترام وهدر للهيبة. لا صفيرا ولا «علكا»! لا وقت لذلك. فمن لا يعمل لا يطعم ولا يطعم (بفتح العين وكسرها). لا بحسب المنطق الشيوعيّ التقليدي، وإنما بقانون «الحافزية»، الشرط الحقيقي للتقدم، حتى تبقى الأمور ماشية في الاتجاه الصحيح.

 

زيارة قرة عين سيدنا إلى سنغافورة دالّة، ومن قبلها اكتملت الرسالة الملكية بزيارة جلالة الملك عبدالله الثاني إلى رواندا حيث كانت هناك أيضا قصة نجاح إنسانية أخرى، انتصرت على أسباب الفناء والحاجة وقامت بالحياة ومن أجلها، في مقاربة أشد عبرة في تجاوز مآسي الماضي لعيش الحاضر وصنع المستقبل الأفضل رغم أهوال حرب الإبادة العرقية -الحرب الأهلية التي شهدتها رواندا بين قبائل الهوتو والتوتسي عام 1994.

 

مثالان في الصميم في خضم هذا الغثاء الذي لا ينفع الناس في بعض الساحات الشرق أوسطية.هذا يرعد وذاك يزبد وما ترك دعاة الحروب والفتن خلفهم إلا دماء وزبدا.. أفلا ينظرون إلى حال ما كان لعقود سويسرا الشرق؟ «ضيعانه» باللهجة اللبنانية، أضاعوه وأضاعوا قلاعا ومنارات عربية كانت جديرة بتحويل بلادها إلى سنغافورة الشرق.

 

مبارك هذه الرؤى الملكية السامية التي تذكّر الجميع وطنيا وشرق أوسطيا بآفاق عالم نستحق أن نحياه بأمن وأمان، وحرية وكرامة، ونسلمه بأمانة سنسأل عنها أمام الله، لأبنائنا وأحفادنا.

 

(الدستور الأردنية)