موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
الحديث بالتنوع الثقافي لدى الشعوب مرتبط لدَيَّ بذكريات كثيرة؛ أنا المولودة في بيئة تزخر بالتعددية الدينية والهويات الثقافية المتنوعة. في التاسعة من عمري، كنت أرافق خالتي، أسيرُ متعلقة بطرف عباءتها السوداء. وقتذاك كانت العباءة تقليدًا ثقافيًّا، ترتديه معظم النساء العراقيات بمختلف أديانهن وانتماءاتهن، أكثر من كونه (التزامًا دينيًّا) لفئة محددة. في تلك السنوات، لم يَرمُقنا أحد بنظرة استغراب. تَوقَّفْنا وطرَقْنا بوابة الدَّير الضخمة في مدينة الموصل، ثم سلَّمَت خالتي على صديقتها الراهبة، وقدَّمَت لها الخبز الذي صنعته لها ولرفيقاتها الأخريات في الدير. تُقدِّم خالتي الخبز بحُبّ، وتتناوله صديقتها الراهبة مع الامتنان، في زمن لا تعرف فيه كِلْتَاهما، أن تصرُّفهما هذا يُدْعى التنوع الثقافي، وتقبُّل ثقافة الآخر! إبَّان القرن التاسع عشر، بَنَت البعثةُ الدومنيكانية الفرنسية كنيسةَ اللاتين (الساعة)، لتكون مقرًّا ومركزًا دينيًّا وروحيًّا وخِدميًّا، للآباء الدومنيكان في مدينة الموصل. أجيال عديدة من مبدِعين عراقيِّين، مسيحيين ومسلمين، بينهم نساء مسلمات كثيرات، تخرَّجَت من مدرسة (الآباء الدومنيكان). تربَّت تلك الأجيال في وقت لم يكن المجتمع يواجه فيه خطر عدم الاندماج في المجتمعات، وتكفير الآخر المختلف. بعد هزيمة (داعش) عسكريًّا، دخلتُ ذات الكنيسة، فوجدتُ الكثير من المشانق الغليظة تتدلَّى من الشبابيك المرتفعة في صحن الكنيسة الواسع. حين رأيتُ الحبل المخصص لضرب الناقوس قد تحوَّل إلى مشنقة، سألت نفسي: كم عدد الأرواح التي زَهَقَت هنا؟! تهجير الأقليات، ومقتل آلاف العراقيين خلال السنوات الثلاث الماضية على يد تنظيم (داعش)، يُجبِرَانِنا على التوقف والسؤال: لماذا هذا التحوُّل بين المكونات المجتمعية ذاتها، التي عاشت مع بعضها بعضًا لقرون؟ وكيف حدث هذا التحوُّل؟ وما طُرق إيقافه أو السيطرة عليه على أقل تقدير؟ اِنتقال هذه المجتمعات ذات التعددية المتنوعة، إلى فئات تتصارع مع الهويات الثقافية المختلفة عنها، وتحاول صهرها بمِرجَل الهوية الأحادية، تَزايَد بعد سقوط نِظام صدَّام. فظهرت أنظمة الإسلام السياسي التي دخلت السلطة، والتي بالمقابل لها تنامت الحركات السياسية التي لم يكن لها قبول سياسي ومجتمعي، وتمخَّضَت عنها في النهاية الحركات الجهادية. كِلتَا الحركتين تشتركان في طريقة الاستخدام الأيديولوجي للإسلام، خدمة لمصالحهما السياسية والشخصية. كانت النتيجة واحدة: تحويل الإسلام إلى أداة من الأدوات، واختزاله في وظائف وغايات ذات طبيعة دنيوية متدنية (راجع نصر حامد أبو زيد، التجديد والتحريم والتأويل بين المعرفة العلمية والخوف من التكفير). اليوم وبعد انتهاء وجود (داعش)، التحديات أمام هذه المجتمعات كبيرة جدًّا لإعادة الثقة فيما بينها، والمرور بمراحل تحقيق العدالة الانتقالية، وسط تجاذبات سياسية كبيرة، يُضاف إليها تحدِّي انتشار السلاح بين أيدي الفصائل المسلحة التي ساهمت في مقاتلة (داعش)، والحاصلة أخيرًا على مقاعد برلمانية في الانتخابات الأخيرة. فكيف لهذه الحكومة الجديدة أن تكسب، وتعيد الثقة بين أطراف المجتمع، الذي باتت غالبية مكوناته اليوم تمتلك ميليشيا مسلحة على أرضه؟ إن إطلاق أي إستراتيجية جِدِّيّة لتعزيز التراث الثقافي، وتحقيق المصالحة بين المجتمعات ما بعد (داعش)، في مناطق الصراع المسلح، والتي ما تزال غالبية مكوناته من الأقليات ترفض العودة له، لن تتحقق إلا إنْ مرَّت بمرحلة إنعاش المؤسسات التعليمية والثقافية وتطويرها. التجارب الناجحة في هذا المضمار كثيرة، منها تجربَتَا أستراليا وبلجيكا، في تطبيقهما نظامًا تعليميًّا لتعزيز اختلاف الثقافات، عبر مشاركة الطلاب وعوائلهم في يوم مدرسي مشترك خلال الأسبوع، بالاعتماد على ورش الفن والموسيقى والحكواتي والمأكولات الشعبية. لو تحدثنا بالتعليم الجامعي، فتجربة جامعة الكوفة في محافظة النجف العراقية، أثبتت نجاحها في تأسيس أقسام جديدة للمجتمع المدني وفتحها، ضمن كلية الآداب منذ عام ????. تكرار هذه التجربة في الجامعات العراقية الأخرى، من شأنه إسناد المجتمع المدني، وتعزيز المشاركة الشعبية لإشاعة ثقافة حقوق الإنسان، وتقبُّل الهويات الثقافية المجتمعية المختلفة. إستراتيجية التعليم لا بد من مساندتها بخطة لاستثمار فئة الشباب في هذه المجتمعات بشكل صحيح، بعيد عن استنزافهم ضمن المخططات والمشاريع الأمنية، أو المخابراتية والقتالية، كما فعل تنظيم (داعش)، الذي اعتمد عليهم بشكل أساسي في تكوين قياداته وتنظيماته، خاصة أن الحركة الفكرية الشبابية والفرق التطوعية اليوم، باتت ناشطة بعد تحررها إلى حد مقبول من التخوفات والاستهدافات الأمنية، المرتبطة بوجود الحركات الدينية المتطرفة منذ سنة ???? في المنطقة. (نقلاً عن taadudiya.com)