موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
يأتي الفرح في قلب الإيمان المسيحي لا بوصفه حالة شعورية عابرة، بل كخبرة خلاصية متجذّرة في عمل الله الخلاصي في التاريخ والإنسان. وفي تسبيحة العذراء المباركة مريم، كما يوردها إنجيل لوقا (١: ٤٦–٤٧)، نبلغ ذروة هذا الفرح الذي لا تُحدِّده الظروف الخارجية ولا تُلغيه الآلام ولا تُطفئه الأحزان، لأنه ينبع من لقاء حيّ مع الله المخلِّص. تقول مريم: «تُعَظِّمُ نَفْسِيَ الرَّبَّ، وَتَبْتَهِجُ رُوحِي بِاللهِ مُخَلِّصِي»، فالتعظيم والابتهاج هنا ليسا ردّ فعلٍ آنياً، بل اعترافاً إيمانياً بأن الله قد دخل تاريخ البشر ليقيم عهداً جديداً.
فرح مريم ليس فرح القوة الظاهرة ولا الاطمئنان البشري السهل. هي شابة بسيطة من الناصرة، تعيش في واقعٍ سياسي واجتماعي مثقل بالهيمنة والخوف والانتظار، ومع ذلك تجرؤ أن تفرح. هذا وحده يكشف لاهوت الفرح المسيحي: فرح لا يولد من امتلاك الأشياء، بل من الثقة بالله؛ لا يتأسس على ضمانات العالم، بل على وعد الله الأمين. إنّه فرح يتكوّن في العمق، في “الروح”، لا في سطح الحياة، لأن مريم تقول: «تبتهج روحي»، أي أن الفرح يسكن كيان الإنسان كله حين يدرك أن الله مخلّصه.
ويرتبط هذا الفرح بفجر ميلاد عهد جديد بطفل الميلاد. فحبل مريم بقوة الروح القدس هو بداية قلب الموازين، وباكورة زمنٍ يستعيد فيه الإنسان حريته وكرامته. إنّه الفرح الذي يعلن أن الله لم ينسَ الإنسان، ولم يتركه أسير الخطيئة أو الظلم أو القهر، بل اقترب منه اقتراباً حاسماً. في تسبيحة مريم، الفرح ليس هروباً من واقع الألم، بل مواجهة له برجاء جديد. هو فرح يعرف أن الطريق سيمرّ بالصليب، لكنه يرى القيامة منذ الآن، لأن الله قد بدأ فعله الخلاصي ولن يتراجع.
من هنا، يصبح الفرح دعوة. فمريم لا تحتكر الفرح لنفسها، بل تعلّم الكنيسة أن تعظّم الرب القدير وأن تمتلئ نفوس المؤمنين بالابتهاج بخلاصه. الفرح المسيحي فعل عبادة، وتعظيم الرب هو التعبير العملي عن هذا الفرح. حين نعظّم الله، نُقرّ بأن حياتنا ليست رهينة للظروف ولا خاضعة لقوى الشر، بل موضوعة بين يدي الله القادر. ولذلك فإن الفرح في المسيحية ليس إنكاراً للجرح، بل إعلاناً أن الجرح ليس الكلمة الأخيرة.
وفي عالمٍ مثقل بالخوف والحروب وفقدان العدالة، تعود تسبيحة مريم لتذكّرنا بأن الفرح الحقيقي لا يُستورد من الخارج ولا يُصنَع بوسائل زائلة، بل يُستقبَل كنعمة. وكما يقول القديس أوغسطينوس: «قلوبُنا لا تهدأ حتى تستريح فيك يا الله». هذه الراحة هي عين الفرح المسيحي: أن نعرف أن الله معنا، وأن خلاصه يعمل فينا ومن خلالنا.
هكذا، يصبح الفرح بحسب تسبيحة العذراء المباركة مريم موقف إيمان، وخيار رجاء، وشهادة حيّة بأن الله ما زال يصنع الجديد. فرح يحرّر الإنسان من الخوف، ويعيد إليه كرامته، ويدفعه أن يعيش شاهداً لنورٍ لا تُطفئه ظلمة، ولا تقوى عليه كل آلام العالم.