موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
حكماً سيعد الثالث والعشرين من أيار ، ولعقود طوال قادمة تاريخاً استثنائياً بين أتباع المسيحية والإسلام، لاسيما في العالم العربي وأوربا، فللمرة الأولى يلتقى شيخ الجامع الأزهر، قبلة العالم الإسلامي السني التقليدي، مع بابا المدينة المقدسة روما، وخلف الرجلان نحو ثلاثة مليارات نسمة من الأتباع والمريدين، منتشرين في قارات الأرض الست ما يعني أن لقاءهما هذا في حد ذاته بوصله لاتجاهات الحوار والجوار، والتعايش والتلاقي بين البشر. هل هذا أول لقاء يجمع بين القامتين الدينيتين، الأزهر والفاتيكان؟ مؤكد أنها المرة الأولى بالفعل التي تجرى بها المقادير على الأراضي الإيطالية، وفي مقر الكنيسة الكاثوليكية تحديداً، غير أنها ليست المرة الأولى التي تتعانق فيها الهاماتان الكبيراتان، فقد زار سعيد الذكر البابا يوحنا بولس الثاني عام 2000 الأزهر الشريف، ضمن زيارة لمصر، وحجه الروحي إلى جبل سيناء، ويومها التقى فضيلة الشيخ الإمام محمد سيد طنطاوي رحمه الله. السؤال الأول الذي يرد على الأذهان... منذ متى وهناك رغبة في التلاقي بين الطرفين؟ الشاهد أن غالبية الكتابات الصحفية، لا تسير غور المسألة، وتتوقف عند حدود الأزمات التي أثارها البابا الشرفي للكنيسة الكاثوليكية الآن (البابا المستقيل) بندكتس السادس عشر، وتنسى أو تتناسى كيف تأسست مرحلة جديدة من الحوار بين الشرق والغرب، بين الإسلام والمسيحية طوال العقود الخمسة المنصرمة. حدث أنه في الفترة من 1962 إلى 1965 أن أنعقد ما يعرف بالمجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، وفيه كانت الإنفراجه التاريخية، والانفتاح على الآخر، مسلم أو يهودي، أو بوذي. ولعل الوثيقة المعروفة باسم: "في عصرنا" NOSTRA AETATE، كانت المنشأ والمنطلق لاعتراف الكنيسة الكاثوليكية، الأول في التاريخ، أن المسلمين يعبدون الله الواحد الأحد الفرد الصمد، الذي كلم الناس، الرحمن الرحيم، وهناك حديث جيد وطويل في هذه الوثيقة يمكن لذوى الاختصاص الرجوع إليه. منذ ذلك الوقت ظهرت رغبة كبيرة في التلاقي مع العالم الإسلامي، وإن كان التركيز وقتها أي بقية الستينات وطوال السبعينات، وحتى منتصف الثامنينات كان مركز على مواجهة المؤسسة الكاثوليكية للشيوعية في أوروبا الشرقية. غير أن ذلك لم يمنع البابا الراحل يوحنا بولس من أن يجمع العام 1986 في مدينة اسيزي الايطالية، مدينة السلام العريقة، رموز الأديان من كافة أرجاء العالم سعياً وراء السلام العالمي، ودرءاً للصدامات والمخاصمات، التي تقود ولا شك إلى الحروب. مع أوائل التسعينات وفي زمن الشيخ جاد الحق شيخ الجامع الأزهر، تبلورت رؤية لحوارات متصلة بين الأزهر والفاتيكان، ولقى الأمر ترحيباً من الجانبين. لم يكن الحوار مركزاً في أي فترة حول المسائل العقائدية فقهية أو لاهوتية، بل فيما يخدم الإنسان، سيما وأنه في تلك الآونة تحديداً، بدأت تظهر إرهاصات صراع الحضارات عبر مقال هنتجتون في مجلة الفورين آفيرز الأمريكية الشهيرة، وقد كان الأمر بمثابة منطلق للحديث عن عدو جديد لبعض مراكز القوى العالمية الغربية، بعد سقوط الشيوعية، ويبدو أن صناع القرار، ومستخرجي الأفكار قد وقع اختيارهم غير الصائب بالمرة على الإسلام والمسلمين، كعدو جديد، وهنا يتذكر المرء مقولة الروائي والدبلوماسي والأديب الفرنسي الكبير "جان كريستوف رومان": "العدو الجيد هو مفتاح المجتمع المتوازن". توجت العلاقة الجيدة بين الأزهر والفاتيكان طوال عقد كامل من العام 2000 وحتى العام 2011، وتجلت المشاهد في زيارة "يوحنا بولس الثاني" إلى مصر، وهي أول زيارة يقوم بها بابا للفاتيكان وجد لروما إلى أرض الكنانة. رحل البابا الكبير الذي كان ولا شك المسمار الأخير وربما الأول في نعش الشيوعية العام 2005 ، ليحل محله رئيس مجمع العقيدة والإيمان الكاردينال الألماني جوزيف راتزينجر كبابا لروما ويحمل اسم بندكتس السادس عشر. لم تطل حبرية الرجل، إذ بلغت أقل من عقد من الزمان، شهدت توتراً في العلاقات بين الأزهر والفاتيكان، بداية عام 2006 بسبب بعض التعبيرات قليلة الحظ، التي وردت في محاضرة علمية له في مدينة رينسبورغ الألمانية، الأمر الذي أدى إلى توقف العلاقات والحوارات لعامين بين المؤسستين أي حتى 2008، حيث عادت على مضض، ليحل العام 2011 الذي كان زلزالاً على مصر، بدأت ضرباته عشية رأس السنة عندما تعرضت كنيسة القديسين في الإسكندرية لعمل إهابي أودى بحياة العشرات. ساعتها تكلم البابا بندكتيس عن حتمية توفير الحماية للأقليات الدينية، ما اعتبرته القاهرة تدخلاً في شؤونها، وعلقت الحوارات بين الأزهر والفاتيكان. عبر سنوات خمس استقال البابا بندكتس، ليحل محله الكاردينال الأرجنتيني الفقير والمتواضع، بيرغوليو، الذي سيحمل اسم فرنسيس، الرمز الأشهر للصوفية المسيحية، والقديس الإيطالي الأصل الذي رفض الحروب الصليبية، وزار مصر في وقتها، والتقى الملك الكامل ابن الملك العادل الأيوبي، في لقاء يعد حوار اتباع الأديان الأول في التاريخ. كان من الواضح ولا يزال أن فرنسيس شخصية مغايرة، إنه رجل بسيط، يرفض أن يعيش في القصر الرسولي ويفضل نزل سانت مارتا، ويقنع بغرفة صغيرة، وبثوب بدأ عليه في صور المصورين مؤخراً، البلى، عطفاً على صليبه الفضي القديم، رافضاً الصليب الذهبي المعتاد لباباوات روما، وأمراء الكنيسة من الكرادلة. تمضي العلاقات رويداً رويداً في زمن فرنسيس الأول، وتتوج بلقاء شيخ الأزهر، وهو لقاء يخدم السلام العالمي بداية، ويدفع عن أوروبا حالة الإسلاموفوبيا البغيضة التي تعيشها، سيما وأن مواقف فرنسيس كانت إيمانية وإنسانية إلى أبعد حدود، فقد رفض من قبل الصور المسيئة للرسول عبر مجلة "شارلي ابدو" الفرنسية ، واعتبرها طعنة للإيمان وعدم احترام للإنسان، وفي حديثه الأخير لصحيفة "لاكروا" الفرنسية الكاثوليكية، أشار إلى أن التعايش بين المسلمين والمسيحيين ما زال ممكناً، ورفض فكرة الربط المطلق بين التطرف الإسلامي في أوروبا والإسلام نفسه. حكماً سيدفع لقاء البابا والشيخ إلى الأمام أفكار التلاقي والتعارف بين الأمم والشعوب، في وقت يشتد فيه غضب الأصوليات وجحيمها ويحول الشرق بالتحديد إلى جهنم الحمراء، بعد أن كانت بلاده رمزاً للتعايش المشترك عبر أربعة عشر قرناً ونصف. غير أن الزيارة لا تخلو من بعد يتصل بمصر المحاصرة، مصر المستهدفة، مصر التي تسعى إلى الاستقلال الحقيقي، فتواجه بقوى الرجعية والإمبريالية والاستبداد والطغيان العالمي. كانت مصر أول دولة عربية شملتها علاقات دبلوماسية مع حاضرة الفاتيكان، في العام 1947، ومنذ ذلك الوقت أي في حبرية البابا بيوس الثاني عشر، وحتى فرنسيس الأول مثلت مصر أهمية خاصة في قلب وعقل باباوات روما، بل أن موقف البابا بولس السادس في زمن نكسة عام 1967، كان موقفاً مشرفاً في الدفاع عن الحقوق العربية المشروعة، ورفض احتلال الأراضي المصرية والعربية. يذهب اليوم شيخ الأزهر إلى الفاتيكان، بالقطع ليعزز دعوة الرئيس السيسي للبابا لزيارة مصر، مصر حاضنة الأديان، وراعية الإنسان, هي ولا شك زيارة ستكون لها اهميتها لقطع الطريق على الكارهين والكائدين لمصر والمصريين، بمسلميها ومسيحييها. لقاء شيخ الأزهر والبابا، لقاء السحاب، وأثره ينسحب على العالمين الإسلامي والمسيحي، وليس على مصر وإيطاليا فقط، وإن كانت هذه الأخيرة قد وجدت من يود اللعب على المتناقضات مؤخراً وإفسادها. لا تخلو الزيارة من ذكاء اجتماعي وإنساني يحسب للقيادة السياسية والدينية في مصر، لكنه قبل كل ذلك فرصة لأصحاب النوايا الصالحة والطوايا الطيبة لتعميق الوفاق في زمن الافتراق.