موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الإثنين، ١٤ يوليو / تموز ٢٠٢٥

الأمل ليس رفاهية... إنه حياة

سارة طالب سهيل

سارة طالب سهيل

سارة طالب سهيل :

 

في عالمٍ تتزاحم فيه الأخبار القاتمة، وتتشابك الأزمات السياسية والاقتصادية والبيئية، في كل زمن، تخرج من بين ركام الأيام فكرة تُنير الطريق. فكرة بسيطة، لكنها عظيمة "ما دام في القلب نبض، فثمة أمل“. ولأن الأمل لم يعد مجرد فضيلة نفسية أو فكرة رومانسية، بل ضرورة حياتية وإنسانية، أعلنت الأمم المتحدة في عام 2024 عن تخصيص يوم 12 يوليو من كل عام يوما دوليا للأمل، تكريمًا لهذه القوة اللطيفة التي جعلت البشرية تتخطى الحروب، الكوارث، الفقد، المرض، واللجوء. كتذكير جماعي بأننا رغم كل شيء، ما زلنا نستطيع أن ننهض، أن نبدأ مجددا، أن نحب، أن نواصل.

 

لا يمكن النظر إلى الأمل إلا بوصفه مرآة الروح التي تنعكس عليها رغبة البقاء، والانتصار على العدم. هو أكثر من "شعور"، إنه فلسفة حياة تُترجم في الشعر، والسرد، والسلوك، والعلاقات. يوم دولي للأمل لا يقدّم مجرد شعار احتفالي، بل يُكرّس قيمًا إنسانية عميقة: الكرامة، القدرة على التحمل، والتمسك بالحياة. لأن الأمل ليس رفاهية، بل ضرورة وجودية ونفسية وروحية.

 

الإنسان، في جوهره، مخلوق يأمل. حتى في لحظات الإنهاك القصوى، ينهض متشبثًا بإمكانية "أن يكون الغد أفضل". الفيلسوف الألماني "إرنست بلوخ" يرى أن الإنسان لا يستطيع أن يوجد دون أفق مفتوح للأمل.

 

"الإنسان هو الكائن الذي يأمل… لا الكائن الذي يعلم فقط". الأمل إذًا ليس سذاجة، بل فعل وعي: أن نرى إمكانية للمعنى في وسط الفوضى. أن نواجه اللا يقين بإرادة الاستمرار.

 

يُعرّف عالم النفس الأمريكي (سي. آر. سنايدر) الأمل بأنه "القدرة على تصور أهداف، وتوليد الطرق لتحقيقها، مع الدافع للسير في هذه الطرق". بمعنى آخر

 

الأمل = الهدف + الدفع + الخطة. فهو ليس مجرد أمنية، بل بنية نفسية سلوكية تحرك الإنسان نحو الحياة حتى في أحلك الظروف.

 

دراسات علم النفس الإيجابي تشير إلى أن الأمل يُعد أحد عوامل الحماية النفسية الأساسية التي تُقلل من خطر الإصابة بالاكتئاب والقلق، وتعزز القدرة على التعافي من الصدمات.

 

 

الأمل والأدب

 

منذ فجر الإنسانية، والأدب يحترف صناعة الأمل كيف كتب الشعراء الأمل؟

 

في الشعر العربي يقول أبو القاسم الشابي:

 

إذا الشعبُ يومًا أراد الحياة/ فلا بُد أن يستجيب القدر.

 

وحتى أنا في معظم رواياتي لا يمكن أن تسير الأحداث دون أمل وعزيمة يتلوها تحقيق الحلم والمراد والنصر على الظلام.

 

في كل نص أدبي، تجد بطلًا انكسر، ثم نهض. وهذا هو الأمل: الوقوف بعد السقوط لا الإنكار بأن السقوط حصل.

 

وهناك قصة طفلة نزحت خلال الحرب، كانت ترسم بيتًا صغيرًا وحديقة في كل مرة تُعطى فيها ورقة بيضاء. حين سألها الطبيب النفسي: لماذا؟ قالت "هذا بيتنا بعد ما نرجع". في رسمة طفلة، عبق إنساني رهيب… وتفسير بديع للأمل.

 

 

الأمل وتصحيح السلوك الاجتماعي

 

الأمل ليس فقط عاطفة، بل محفزًا للسلوك الصحيح. إن الشخص المتفائل أكثر استعدادا لتغيير عاداته السيئة، وأن التغيير ممكن، كما تشير الأبحاث أن الأشخاص المفعمين بالأمل يتمتعون بقدرة أعلى على التكيف مع الصدمات هم الأكثر استعدادًا للإقلاع عن التدخين، أو الإدمان وغيرها.

 

حملات التوعية التي تبني رسائلها على الأمل (وليس الخوف) تحقق تأثيرًا أقوى. مثل حملات الصحة النفسية في النرويج وفنلندا التي تضع عبارة "كل نفسية تستحق فرصة أخرى" حملة “Hope is Defiant” استخدمت رسائل أمل لخفض معدلات الانتحار في المدارس الأمريكية.

 

في اليوم الدولي للأمل، أقدم دعوة إنسانية لنسأل أنفسنا: ماذا يعني أن نعيش بالأمل؟ هل هو مجرد تفاؤل فارغ؟ لا. الأمل هو قرار– أن تحبّ رغم الخذلان، أن تعمل رغم الإحباط، أن تحلم رغم الخسارة. الأمل هو ذلك الضوء الذي لا تراه بعينيك، لكنك تشعر به في داخلك، يدفعك لأن تخطو خطوة أخرى، حتى ولو كنت لا تعرف إلى أين. قد لا يغيّر الأمل العالم فجأة، لكنه يغيّر وجه الإنسان الذي يواجه العالم.

 

لنعترف أننا لسنا أقوياء دائمًا. ولسنا ملائكة. لكننا نملك شيئًا أعظم من كل ذلك: القدرة على أن نبدأ مجددا، مهما كانت الخسارة، أو التعب، أو الظلمة.

 

الأمل يُنتج النية، والنية تؤدي إلى التحرك، والتحرّك يُغير السلوك.

 

"أرجوحة الروح معلّقة في غصن الأمل… فلنحرص على ألا تنكسر".

 

حقا إن الأمل يولد من رحم المعاناة، ومن رحم فقدانه أصلا.

 

رأيت الأمل مرارا وتكرار في حياتي قبل كل خسارة، وبعدها (قبلها حين حلمت بالفوز) وبعدها حين لم أفقد الأمل بتكرار التجارب والمواصلة والاستمرار.

 

رأيت الأمل بعد كل إخفاق أو خيبة في أشخاص أو أحداث، ولم أقف أبدا عند الخذلان، ولم أصف الناس جميعهم أو الأحداث بوصمة ما قبلهم، بل واصلت الأمل.

 

لطالما وجدت الأمل متجليًا في قبضة اليد التي تعانق يدًا أخرى ترتجف، في الوردة التي تُهدى لخصمٍ قديم، في ديوان الشعر المخبوء تحت ركام منزلٍ تآكل مع الزمن، في عيني رجلٍ فقد كل شيء عدا إيمانه بأن الغد يُخفي في طياته بذور الخير.

 

في عيني طفلٍ صغير، يحمل قلمه الملون بفخر فوق صفحة ممزقة، يخط بألوانه بيتًا تحيط به حديقة غنّاء، بينما تصدح صفارات الإنذار في الخارج. كان لمعان عينيه أكثر صفاءً من الغيوم جميعهم التي تعبر السماء. رأيته في كفّ جدة العجوز، التي تهز بلطف يد حفيدها النائم، تغنيه بأهازيج عن الأحلام التي تتحقق، وكأنها تنسج من خيوط نغمها درعًا يحميه من قسوة العالم. كان دفء أناملها الذهبي يذوب ثلوج الوحدة، ويبعث في قلبه شعاع الأمل.

 

 

(الرأي الأردنية)