موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الجمعة، ١١ ابريل / نيسان ٢٠٢٥

الأقليات الدينية وتفعيل القيم الإنسانية المشتركة

د. عامر الحافي

د. عامر الحافي

د. عامر الحافي :

 

ما زال مصطلح الأقليات شائعاً في دراساتنا الاجتماعية، رغم الإيحاءات السلبية التي يتضمنها هذا المصطلح، وإشارته إلى وجود مجموعات أخرى أقوى وأكبر تمثل "الأغلبية"، وما تلمح إليه قلة العدد من ضعف له أثره النفسي والاجتماعي، كما في قول الشاعر العربي القديم:

 

أَبا خُراشَةَ أَمّا أَنتَ ذا نَفَرٍ ** فَإِنَّ قَومِيَ لَم تَأَكُلهُمُ الضَبعُ

 

وأما في عصرنا الراهن فلم تعد النسب المئوية والأعداد مؤشراً حتمياً على قوة أو ضعف الأقليات؛ فكثير من الأقليات اليوم لديها تأثير في مجتمعاتها يتجاوز تأثير غيرها من المجموعات الأكثر عدداً. وهذا ما نجده في النظم المدنية التعددية التي يستحق المواطنون فيها حقوقهم مهما كانت نسبهم العددية أو انتماءاتهم الدينية والعِرقية.

 

لا يُمثل الانقسام سِمة بنيوية في المجتمعات العربية، وإن الدين لا يمثل عامل تقويض للعلاقات الاجتماعية، وإنما تعود معظم أسباب الانقسام إلى مشكلات سياسية واقتصادية تتراوح بين الداخل والخارج.

 

يتم استغلال موضوع الأقليات ومظلوميتها في العالم العربي باعتباره حالة طبيعية لمجتمعاتنا، ومحاولة إرجاع سبب ذلك إلى الإسلام وتعاليمه، واعتبار المجتمعات العربية طاردة للأقليات الدينية، وخاصة بعد تلك الصراعات الدامية التي وقعت في العراق وسوريا، وما رافقها من صعود لجماعات دينية عسكرية.

 

علينا أن نعترف اليوم بوجود بعض المشكلات بين المكونات الطائفية والدينية في عالمنا العربي، ولكن لا يجوز لتلك الاختلافات أن تكون مبرراً للصراع بين أبناء الوطن الواحد أو ذريعة للتدخلات الخارجية.

 

لا نستطيع أن نفصل مشكلات الأقليات الدينية عن مشكلات الأقليات الطائفية، كما أننا لا نستطيع أن نفصل الحريات الدينية عن الحريات السياسية؛ فكلاهما يتصل بالآخر من ناحية حقوقية وفلسفية.

 

إن الشعور بالانتماء للوطن لا يتعلق بنسبة عددية أو تقسيمات جغرافية، وإنما بمقدار الوفاء والانتماء للبلاد التي يعيشون فيها ويأكلون من خيراتها. وهذا ما يتضمنه قول الرسول عليه الصلاة والسلام في حديثه عن مكة بقوله: "مَا أَطْيَبَكِ مِنْ بَلَدٍ وأَحبَّكِ إلَيَّ، وَلَوْلَا أَنَّ قَوْمِي أَخْرَجُونِي مِنْكِ مَا سَكَنْتُ غَيْرَكِ ...".

 

لا بد أن ندرك خصوصية الأقليات الدينية التي ترتبط بمجموعات عرقية وقومية خاصة، كما هو الحال مع القوميات المسلمة في روسيا والصين والفلبين وتايلند. وبخصوص الأقليات المسلمة في أوروبا علينا أن نعيد النظر في تسمية الجاليات أو أي تسمية تجعلها تبدو كمجموعات دينية وافدة أو منفصلة عن مجتمعاتها؛ فالمسلمون هم جزء من المجتمعات الغربية وليسوا حالة غريبة أو طارئة عليها.

 

إن نجاح اندماج الأقليات في المجتمعات يتوقف على مستوى العدالة والوئام الذي تقدمه الدولة لجميع أبنائها. وهنا يجب علينا أن نتحدث عن الاندماج كضرورة إنسانية ووطنية ملحة. لكن الاندماج لا يعني الانصهار وفقدان الخصوصية الثقافية والدينية؛ فالمجتمعات التي تحترم التعددية بجميع أشكالها تُمثل المكان المناسب للجميع. إن مطالبة الأقليات المسلمة بالمساواة في الحقوق هي حق مشروع وضروري لها ولجميع الأقليات الأخرى، لكن وفي المقابل فإن المطلوب من الأقليات القيام بواجباتها تجاه مجتمعاتها التي يشكلون جزءاً من نسيجها الاجتماعي والاقتصادي.

 

من أهم المشكلات التي تواجه المسلمين في أوروبا انعكاس المشكلات في بلدانهم الأصلية على أوضاعهم وعلاقاتهم فيما بينهم، كما هو الحال في أوضاع الفرنسيين المسلمين على سبيل المثال.

 

يجب أن تدرك الأقليات الدينية أن معتقداتها الدينية لا تفصلها عن مجتمعاتها ولا تمنعها من البحث عن مستقبل أفضل. وهنا يمكن القول بأن وجود المسلمين كجزء من مجتمع متقدم ودولة قوية مهما كانت نسبتهم العددية أو ديانة الأغلبية، هو أفضل من أن يكونوا أغلبية في بلدان ضعيفة لا يجدون فيها كرامة العيش.

 

إن القول بوجوب تقديم الانتماء للهوية الدينية على الانتماء للهوية الوطنية أو القومية يُشعر بوجود خلل في مفهوم كل من الهوية الدينية والوطنية والقومية.

 

وهنا نستحضر مقولة "جنسية المسلم عقيدته"، وهي مقولة إشكالية تحتاج إلى تشريح وتحليل قبل نقدها أو ابتلاعها دون وعي أو تدبر. فالعقيدة عندما تكون عالمية وإنسانية لا تتنافى مع الانتماء والوفاء للأوطان؛ فالنظرة الإسلامية للأرض لا يمكن أن تتناقض ومقولات العرقية الدينية المركزية التي تربط أتباعها بجغرافيا واحدة مقدسة لا تقبل القسمة على اثنين.

 

على أهمية ما بذله الفقهاء من تنظيرات مهمة لإقامة علاقات مستقرة بين المجموعات الدينية، كما في مفهوم أهل الذمة الذي قام على أساس الحماية والرعاية في مقابل الجزية، ولكن هذه النظرة لم تعد مقبولة اليوم في عالم تسوده أسس جديدة تقوم على مفاهيم المواطنة والتعددية وحقوق الإنسان. وعلى هذا الأساس يجب إعادة النظر في بعض الفتاوى التراثية التي تحرّم على المسلمين الإقامة في بلاد ذات الأغلبية غير المسلمة، والتي أطلق عليها وفق المصطلحات الفقهية القديمة "دار الكفر".

 

إن الدفاع عن الأقليات التي تعاني من التمييز والاضطهاد هو واجب إنساني، سواء كنا نتحدث عن أقليات مسلمة في محيط غير مسلم أو عن أقليات غير مسلمة في بلاد ذات أغلبية مسلمة. وهنا أشير إلى أهمية دعم الحقوق الدينية للأقليات غير المسلمة؛ كبناء أماكن العبادة وحرية ممارسة العبادات والشعائر، والحق في محاكم دينية خاصة بها. ولا يخفى على أحد ما تعانيه النظرة الفقهية التراثية التي تحظر على غير المسلمين بناء أماكن العبادة لهم في "بلاد المسلمين"! وفي الوقت ذاته تطالب بحق المسلمين ببناء المساجد عندما يكونون أقلية في المجتمعات الأخرى!

 

لا بد من تأصيل أخلاقي للقواعد المؤسسة للتعامل مع الأقليات الدينية وغير الدينية. وعلى هذا الأساس فإن إنصاف الأقليات هو المؤشر الأبرز على رقيِّ المجتمعات وانسجام نسيجها الاجتماعي. نحن أحوج ما نكون إلى بناء هوية إنسانية أخلاقية تحترم آدمية الفرد وكرامته وخصوصيته الدينية، وعلى قدر نجاحنا في بناء هذه الهوية يمكننا الحديث عن هويات فرعية متعاونة ومتكاملة.

 

نجحت مجتمعاتنا العربية طيلة قرون طويلة في بناء تعددية دينية وعرقية جمعت المسلمين والمسيحيين واليهود والصابئة، إلى جوار الشيعة والسنة والدروز والعلويين، ولم تكن ثمة مشكلات كبيرة حتى بدأ الاستعمار الحديث يعبث بالجغرافيا السكانية والسياسية.

 

لم يغفل الاستعمار عن استغلال مشكلات الأقليات الدينية باعتبارها "مناطق رخوة" في المجتمعات التي يستهدفها، كما هو الحال في استغلاله السيخ في الهند، وحتى في مرحلة ما بعد الاستعمار ما تزال القوى السياسية الكبرى تفرض رقابتها وسيطرتها من خلال ما يُسمى بتقرير الحريات الدينية، الذي أصبح معياراً لالتزام الدول بحقوق الأقليات.

 

إن وصف الحضارة الغربية بأنها حضارة "يهودية مسيحية " يُلقي بظلاله على المكونات الثقافية المتعددة في المجتمعات الغربية وخاصة المسلمين الذين يشكلون أكثر من 45 مليوناً، وهم يمثلون الديانة الثانية بعد المسيحية في أوروبا. ورغم الإسهامات الإسلامية الكبيرة في تكوين الحضارة الغربية المعاصرة، واعتراف العديد من الباحثين الغربيين بتلك الإسهامات، فإن كثيراً من الدوائر الغربية ما تزال تنكر فضل الحضارة العربية الإسلامية على الغرب ونهوضه الحضاري.

 

وبعبارة مختصرة: لا تخضع حقوق الإنسان لهويته الدينية أو العرقية؛ فالإنسان يستحق حقوقه لكونه إنساناً قبل أن يكون منتسباً لهوية دينية أو عرقية محددة. ويبقى الاختبار الأكبر لإنسانية منظوماتنا الاجتماعية اليوم هو قدرة هذه المنظومات على تفعيل القيم الإنسانية المشتركة التي تجمعنا على اختلاف معتقداتنا وألواننا.

 

(حوار ثقافات)