موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
"إن هذا الشعب يكرمني بشفتيه، وأما قلبه فبعيدٌ مني، إنهم بالباطلِ يعبدونني" (مرقس 7: 6- 7) هذا ما قاله القديس أشعياء النبي، وقد أثنى على كلامه رب المجد يسوع المسيح، كما ورد في العهد الجديد الذي يقدم شخصية يسوع نموذجاً للثائر (الثورجي) الذي جاء يعلن نهاية عالم قديم، ويؤسس عالماً جديداً مثالياً يمكن أن نعيشه. قال يسوع: "رُوحُ الرَّبِّ عَلَيَّ لأَنَّهُ مَسَحَني لِأُبَشِّرَ الفُقَراء وأَرسَلَني لأُعلِنَ لِلمَأسورينَ تَخلِيَةَ سَبيلِهم ولِلعُميانِ عَودَةَ البصَرِ إِلَيهِم وأُفَرِّجَ عنِ الـمَظلومين" (لوقا4: 18). وقال: "تَعالَوا إِليَّ جَميعاً أَيُّها المُرهَقونَ المُثقَلون، وأَنا أُريحُكم. اِحمِلوا نيري وتَتَلمَذوا لي فإِنِّي وَديعٌ مُتواضِعُ القَلْب، تَجِدوا الرَّاحَةَ لِنُفوسِكم،"(متَّى11: 28-29)... كانت رسالة يسوع موجهة بالدرجة الأولى إلى الشرائح الاجتماعية الدنيا المتعبة والمعذبة، وكان راعياً للحرية والعدل والمساواة، ولم يلقَ الأغنياء منه أي تعاطف، بل قد طالبهم بالتخلِّي عن ممتلكاتهم وتوزيعها على المحتاجين. تَمثَّل المجتمع القديم وقيمه في الوثنية التقليدية، وفي اليهودية وشريعتها البالية، التي تكمن خصوصيتها في أنها شريعة طقوس همُها الأول تأسيس الطرق التي يُحب الإله أن يُبجَّل بها، ونوع الذبائح المقربة إليه، والحفاظ على السبت، والاحتفالات الدينية الدورية، وتحديد ما يجوز وما لا يجوز في كل نواحي الحياة، حتى أصبح في حياة اليهودي (613) قاعدة أو وصية تقيد حياته وسلوكه. لقد كان الشغل الشاغل لليهود خلال القرون الخمسة السابقة للميلاد - وهي فترة تشكُّل العقيدة التوراتية-، هو الحفاظ على تفردهم الديني بأي ثمن. وهذا ما أدى إلى إنتاج ظاهرتين مهمتين في الحياة الدينية اليهودية، أوّلها التنظيم الكهنوتي، والثانية الحرص على الالتزام بالشريعة التي اعتُبرت حاجزاً يفصل اليهود عن بقية الأمم، وحارساً على إيمان إسرائيل. ولكن يسوع قلب ركني السلطة اليهودية هذين، أي الشريعة وحراسها من الكهنة والكَتَبة، والناموسيين (علماء الشريعة)، والفريسيين الذين يمثلون النخبة المتعلمة من المجتمع اليهودي. إن من يقرأ الإنجيل، سوف يُعجب بهذا الانقلاب الشامل الذي أراده يسوع، يُدهش من أقوال له ترسخ القديم وتُكرّسه. كما ورد على لسانه في إنجيل مَتَّى: "لا تظنوا أني جئت لأبطل كلام الشريعة والأنبياء. ما جئت لأبطل بل لأكمِّل". وفي الحقيقة إن كل أقوال يسوع وأعماله، تدل على تجاوزه لشريعة موسى، شريعة الحرف، وتأسيسه لشريعة الروح. حيث قال نفسه في إنجيل يوحنا: "لم يعطكم موسى خبز السماء، بل أبي يعطيكم خبز السماء الحق، أنا الخبز الذي نزل من السماء."(يوحنا6). وبذلك يستبدل يسوع شريعة موسى العتيقة التي وهبت الموت، بشخصه الحي الذي يهب الحياة الأبدية. وفي الفصل السابع من إنجيل مرقس نرى يسوع قد ثار على مفاهيم الطهارة الشرعية التي تركز على الطهارة الظاهرة وتنسى الطهارة الحقيقية طهارة القلب والباطن. فقد اجتمع لديه بعض الفريسيين والكتبة الآتين من أورشليم، فرأوا بعض تلاميذه يأكلون دون أن يغسلوا أيديهم، فسألوه: "لماذا لا يجري تلاميذك على سُنَّة الشيوخ، بل يتناولون الطعام بأيدٍ نجسة؟ فقال لهم: ليس ما يدخل الفم ينجس الإنسان بل ما يخرج من الفم هو الذي ينجس الإنسان". وقد جعل الأطعمة كلها طاهرة.(مرقس 19:7). هنا يسوع لم ينتقد فعل الاغتسال في ذاته، لكنه انتقد الانشغال به على حساب الاغتسال الداخلي، والاهتمام بسُنَن حرفية على حساب الوصية في أعماقها، وأجابهم مستشهداً بقول أشعياء النبي: "إن هذا الشعب يكرمني بشفتيه، وأما قلبه فبعيدٌ مني، إنهم بالباطل يعبدونني". وبأنهم يعلّمون تعاليم هي وصايا الناس. وقد تركوا وصية الله وتمسكوا بسُنّة الناس. إن يسوع يقدم لكل إنسان ما يحتاج إليه، فعندما جاءته الجموع البسيطة تحمل المرضى فشفاهم "وكل من لمسه شُفي" يقول الإنجيل، أما جماعة المتعلمين أي الفريسيّين فقد جاءوا لا لينالوا شيئًا بل ليتصيدوا أخطاء، فقدم لهم أيضًا ما يحتاجون إليه، إذ كشف لهم جرحهم العميق ليطلبوا طبيبًا قادرًا على شفاء جراحات نفوسهم. هاجم يسوع تمسكهم بالشكليات القاتلة تحت ستار الحفاظ على سُنّة البشر، إذ كانوا أشبه بمن يكرمون الرب بشفاههم، أما قلوبهم فمبتعدة عن الله. فقد كانوا يعتقدون أنه من لم يغسل يديه وفق الطقوس وبدقة يمتلكه روح نجس اسمه(شيبتا)، يُصاب بالفقر والهلاك. (ومن شدة تمسك اليهود بهذا الطقس، قيل أنه حينما رفض أحد المعلمين ممارسة هذه السُنّة دُفن عند موته في مقابر الهراطقة، وعندما سُجن أحد معلمي الشريعة في سجن روماني كان يستخدم الماء القليل المتوفر في تطهير يديه مفضلاً ذلك عن الشرب حتى مات من العطش). بلا شك، إن نقد الفريسيّين لتلاميذ يسوع بخصوص عدم غسلهم الأيادي قبل الأكل كان مجرد مثل يقدمونه، إذ كان الفريسيون في ريائهم لا يطيقون التلاميذ المتحررين من هذا الرياء. لأن الإنسان الحرفي لا يطيق الفكر الروحي بل يقاومه، محولاً حياته إلى مناقشات غبية وعقيمة!. كانوا يفتخرون بأنهم يحفظون الشريعة، فقدم لهم يسوع نبوءة أشعياء عنهم: "هذا الشعب يكرمني بشفتيه وأما قلبه فبعيدٌ مني". ولذلك إن كان الرب يسوع قد انتقد هؤلاء الفريسيّين في اهتمامهم بالشكل دون الجوهر الداخلي، يليق بي أيضاً كمسيحي أن أهتم بالأعماق الداخلية، يلزم أن يكون اهتمامي بسلوكي وبأفكار قلبي عظيماً. إن يسوع يريد أن يؤكد أنه لا يوجد شعب طاهر وشعب نجس، إنما الحاجة إلى القلب الطاهر. والديانة الحقيقية في الجوهر لا في المظهر، في الروح لا في الحرف، في الأعمال لا في الأقوال. وليس من يقول لي يا رب يا رب يدخل ملكوت السماوات بل من يعمل مشيئة أبي. كذلك يعلن الإناء المختار بولس في رسالته لأهل قورنتس: أنّ الإيمان من غير محبّة لا يجدي نفعاً، فالمطلوب "لا الختان ولا القلف بل الإيمان العامل بالمحبّة" (غلاطية 5: 6). فيجب أن لا نكتفي بالسّماع ولا بالأقوال، لئلاّ نبني بيت إيماننا على الرّمل، بل على صخر العمل والحقّ!. ولنعلم أن الخطيئة هي عدم طاعة الله، وعدم احترام كلمته، لذلك يجب أن لا نسمح بأن نقاد للفكر الفريّسي، بأن نفسّر كلمة الله على أهواء قلبنا، ووفقاً لوضعنا، ونُكيف مشيئة الله على مشيئتنا، بل لتكن كلمة الله، لا عاداتنا ولا تقاليدنا ولا مقاييسنا الشخصية، لتكن كلمة الله هي نهجنا وضميرنا وطريقنا. ولنصلي كما صلى القديس توما الإكويني اللاهوتي الكبير "ليتني لا أرغب في شيء سواك! أعطِني باستمرار أن أوجّه قلبي نحوك؛ وحين أضعف، أعطِني أن أقيّم خطئي بألم، مع قرار ثابت بتصحيح نفسي. امنَحني يا ربّ، قلبًا يقِظًا لا تستطيع أيّ فكرة سيّئة أن تبعده عنك؛ قلبًا نبيلاً لا يذلّه أيّ شعور معيب؛ قلبًا مستقيمًا لا ينحرف بسبب أيّ نيّة مريبة؛ قلبًا ثابتًا لا تحطّمه أيّ عدائيّة؛ قلبًا حرًّا لا يسيطر عليه أيّ شغف عنيف. امنَحني يا ربّي، ذكاءً يتعرّف إليك، وحماسة تبحث عنك، وحكمة تعثر عليك. امنَحني أن أعاني ما تحمّلته، وأن أستفيد من ميزاتك بالنعمة، أنت يا ربّ، يا مَن يعيش ويحكم إلى الأبد. آمين