موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الثلاثاء، ١ أغسطس / آب ٢٠٢٣

إنه الراعي الصالح

بقلم :
المونسنيور بيوس قاشا - العراق
إنه الراعي الصالح

إنه الراعي الصالح

 

في وسط عالم متحرر والذي أصبح فيه كل شيء مباحاً، وفقدت ربما القدسيات قدسيتها، وصارت المجاملة هي السائدة بين العلاقات والمجتمعات، فنسينا طريق الإيمان الصحيح والذي يقود إلى المسيح الحي وليس إلى مسيح الناس.

 

أمام هذه الصورة القاتمة –وليس ذلك إلا الحقيقة– نحن بحاجة والعالم بأسره ومجتمعنا اليوم إلى رعاة أمناء مخلصين يدركون دعواتهم من أجل حمل رسالة الإنجيل، رسالة البشرى السارة، والتي كانت لنا هدية من السماء حيث جعلتنا هذه البشرى أن لا ننكر عمل الله في نفوسنا من أجل ترويح النفس بل من أجل عيش ما أنا فيه من نعمة وليس شيء آخر.

 

لقد تبدلت المفاهيم، وأصبحنا نفتح باب حياتنا على مصراعيه دون أن ندرك لماذا، وأصبحنا نحن الرعاة ننظر إلى الرعية وإلى أبنائها بأنه يجب عليهم أن يبذلوا حياتهم من أجلنا ومن أجل راحتنا ومصالحنا وفي سبيلنا وخيرنا الخاص بعد أن شوّهنا حقيقتنا ورسالتنا وأصبحنا كما جاء في حزقيال النبي (فصل 24):"أليس على الرعاة أن يرعوا الخراف؟ الضعاف لم تقودوها، والمريضة لم تداووها، والمكسورة لم تجبروها، والشاردة لم تردّوها، والضالّة لم تبحثوا عنها، هكذا قال السيد الرب، إنما تأكلون الألبان، وتلبسون الصوف، وتذبحون السمين، لكنم لا ترعون الخراف" وهو جعل حياته من أجلنا ضحية لا عيب فيها (يو10:10). ذلك دعوة لنا لنكون من الرعاة الصالحين في هذا الزمن الصعب، نمتاز بوضوح الرؤية وشفافية الخدمة والرسالة... فأنت لست إلا دعوة مجانية.

 

الراعي الصالح... لنقرأ الآن فصل يوحنا الإنجيلي (1:10-21) حيث يقول:"أنا هو الراعي الصالح، والراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف. والأجير ليس راعياً، وليست الخراف له. حينما يرى الذئب مقبلاً يترك الخراف ويهرب فيخطف الذئب الخراف لأنه أجير ولا يبالي بالخراف... فأنا الراعي الصالح، أعرف خاصتي وخاصتي تعرفني، واضع نفسي عن الخراف وأثبت لتكون لهم حياة. فمَن يدخل من الباب فهو راعي الخراف".

 

الراعي الصالح... هو الذي يدرك أين توجد الحقول الخضراء والمرعى النظيف ليرعى قطيعه وغنمه، ومن خلال ذلك يعمل على تثقيف أبناء رعيته. فرغم التقدم العلمي والتكنولوجي وأخرى عديدة سيظلّ الجهل سائداً في أبناء رعيته إنْ لم يعمل جهده من أجلها. فالجاهل ليس فقط من لا يدرك أنه عدو نفسه بل لا يدرك أيضاً أنه عدو غيره، وليعلم الراعي الصالح جيداً أن الجهلة هم المتدينون أحياناً لا بل غالباً ومن المؤسف ذلك، فالمشكلة ليست في أن ينكر الإنسان وجود الله بقدر معرفة المتدين والذي يدّعي المعرفة وخصوصاً معرفة الله ويعمل على نبذ الآخر وكرهه وتحقيره وربما تكفيره من أجل مصالحه، ولا يدرك أن ذلك عملاً سيئاً ومشيناً. فإذا كان يرفض الله وحبّه يصبح له كل شيء مباح، فلا وازع ضمير، والمصيبة تكبر وتكبر بقدر جهله. فالمعرفة ليست فقط في حفظ آيات بل هي علاقة طيبة، أخوّة إنسانية، رسالة سامية، وإقامة علاقات سليمة. فلينتبه الراعي لكي لا يكون أداة لسماع وعمل ما يشاء المتدينون بل يختبر الأمور ويغوص في حقيقة الإيمان ليقول الحقيقة متى ما يجب.

 

الراعي الصالح... هو الأمين في حمل رسالة البشرى السارة عبر حياة الكهنوت. فهو يتكلم باسم الرب وليس باسمه ولا بفهمه وإدراكه، ويبشر بالمسيح الحي وليس بنفسه كأنه هو المسيح، فهو لا يجامل أحداً بل يقول الحقيقة ويشهد لها بحكمته وتدبيره، ولا يتكبّر أو يتبجّح، ولا يحابي ولا يتنصّل من مسؤولية وضعت على عاتقه بكل حرية، وأن يكون خادماً أميناً وليس أميراً كاسراً أو رئيساً أنانياً يأمر وينهي متى ما يشاء وحسب ما يشاء، ويظهر أمام الملأ بأنه هو الإله ولا إله غيره. فكبرياؤه لا يجعله يرى أخطاءه وهفواته فيرى نفسه عبر موبايله وحاسوبه وفيسبوكه، في رحلاته من بلد إلى آخر ومن وطن إلى وطن، كما يرى نفسه عبر حديث الناس ومجاملاتهم، وأصدقاءه عبر السياسات والأفواه الغير الصادقة والمصلحية والغير الواقعية وربما المزيفة، فيجعل منها حقيقة الزمان بل الحقيقة ما هي إلا دجل مختفي تحت أشكال مختلفة ومتنوعة من بهرجة الحياة ومجال الدنيا الزائلة فتأتي الساعة ولم يهيئ لها ما يجب أن يكون.

 

الراعي الصالح... ليس تاجراً ولا سمساراً وإن كان الزمان يحمل رخصة أن يكون ذلك، فليترك هذه الأمور لأصحابها عبر مسيرة الزمن والحياة ويعمل من أجل إيصال رسالة الإنجيل، فهو قد اختير ليسير في طريق الجلجلة ويكون في الدنيا ولكنه ليس مُلك الدنيا، فالرب يقول:"أنكم في العالم، ولكنكم لستم من العالم" (يو19:15) فهو يتكلم باسم الرب لأنه أب للجميع، فيفتح ذراعيه للكبار والصغار، للخطأة والصالحين، للأبرار والتائبين، ويعمل من أجل إرجاع وعودة كل شريحة إلى أصولها إذا ما زاغت عن طريق السماء. فما الفائدة أن يكون راعياً ولا يعلم كيف يوصل الناس ويظهر لهم طريق السماء عبر صلاة الأفئدة والقلوب؟ فتراه يأمر وينهي ويعمل ما يشاء لأنه يجد نفسه مُلك الدنيا، بينما الراعي لا يحمل حقداً تجاه أحد ولا يتكبر لكي لا يظهر أمام الناس المتلونين بأنه المستحق والقدير وقد نسي هو والذين سلّموه المسؤولية أن الرب هو القدير وإن الملأ ما هم إلا لتمجيد اسم الله القدير وليس لعبودية الإنسان، فالرب يقول:"دعوتكم أحبائي... لم أدعُكُم عبيداً" (يو15:15)... تلك هي الرسالة الحقة.

 

الراعي الصالح... هو الرجل الرحوم، فالرحمة على جميع البشر، إنها رحمة الله وليس رحمته هو، إنها رحمة على الفقراء والمحتاجين فالرب يسوع يقول:"إن الفقراء هم معكم في كل حين" (يو8:12). فرسالته أن يكون مضيافاً للفقير والمريض والمعوز، يتفقدهم ويزورهم ويواسيهم ويشفي جراحهم بصلاته ويفتح ذراعيه ليستقبل هذه الشرائح البائسة فيكون معهم ويعمل من أجلهم، ولا يرسل هذا الفقير أو المحتاج بكلامه النابي والجارح بل بلسان مملوء رحمةً وحناناً بل أكثر من ذلك يُظهر علامات المحبة والاحترام، فمهما كان الإنسان فهو بذلك بحاجة إلى الآخر ليكون له الطريق الذي يقود إلى الرب حيث الطريق الحقيقي فقد قال:"أنا الطريق والحق والحياة" (يو6:14) عبر ابتسامة جميلة وكلام طيب وصادق وخاصة في وجه الطفل الحزين والأرملة البائسة ليكون في ذلك سبباً في خلاصه على مثال المعلّم الإلهي الذي اختاره وجاء من أجله ومن أجلنا ومن أجل كل إنسان... أليس كذلك!؟

 

الراعي الصالح... يجب أن يمتاز برؤية واضحة وثاقبة ليدرك كيف يقود أبناء رعيته ويعيش معهم في السرّاء والضرّاء، فالعالم اليوم بحاجة إلى رعاة محافظين على الإيمان ولكن منفتحين على حقيقة الحياة بمسارها الطبيعي وليس على زيفها، وهذه مشكلتنا في هذا العصر اللاأخلاقي حيث فقدت القدسيات قدسيتها، وصار الذوبان والمصلحة والمحسوبية هي السائدة وليس شيئاً آخر. فما نراه اليوم ما هو إلا شعارات وإعلانات وإعلام مزيف يخالف التعليم فنتهلل له ويتنازل الإنسان عن مبادئ إيمانه أحياناً فنصفق له من أجل مسجات (رسائل) دخيلة وغريبة، ويعتبر ذلك انفتاحاً وتقدماً ويا للأسف، أين رسى مركبنا؟ ما يحصل من رغبات مشبوهة ومنفعة فردية وتقدم مزيف ما هو إلا زرع بلبلة واضطرابات، ومن المؤكد أنه يثير الشكوك فيعمل أخيراً في نفوس أبناء الرعية... أليس كذلك؟

 

الراعي الصالح... هو الذي ينشد أبناءه ويبحث معهم عمّا يفيدهم ويبعد عنهم كل ما يضرّهم، وهذه دعوة لنا أن نكون رعاة صالحين مخلصين قديسين، فالأقداس للقديسين وللأطهار تعطى كما لا تعطى "الأقداس للكلاب" (متى6:7) خوفاً من رجوعها فتمزق أبناء الرعية، بل الأقداس تكون للقديسين الصالحين، وهذه القداسة تدعونا أن نعمل بهمّة من أجل تنشئة الرعايا والمحافظة عليهم والعمل من أجلهم ومن أجل سلامة العقيدة والإيمان وذلك هو المرعى الحقيقي.

 

فالعالم اليوم بحاجة إلى رعاة قديسين وليس إلى رعاة موظفين بل إلى رعاة صالحين وليس إلى رعاة مأجورين، ليحافظوا على الأمانة في بذل الذات كالمعلّم الإلهي وإلا فلا. فالزمن يدعونا إلى أن نكون أوفياء وأمناء، كما ويدعونا أن ننظر إلى السماء بعين الإيمان ولا ننظر بعين الجسد فنرى أنفسنا ومصالحنا وقوتنا ومركزنا وغنانا "فالذي أعددناه لِمَن يكون؟" (لو20:12).