موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأربعاء، ٢٨ ابريل / نيسان ٢٠٢١

أحد الشّعانين والأسبوع العظيم – أسرارٌ، مغامرةٌ واختبار

بقلم :
الأب مجدي هاشول - الجليل
«ما من حب أعظم من هذا، أن يبذل الانسان نفسه في سبيل أحبائه» (يوحنا 15:13)

«ما من حب أعظم من هذا، أن يبذل الانسان نفسه في سبيل أحبائه» (يوحنا 15:13)

 

المقدّمة

 

إنّ الأسبوع المُقدّس الملقّب بأسبوع الآلام، يبدأ بعد سلسلة أحداث مهمّة من حياة المسيح، كشفاءه لأعمى أريحا، وإقامته للعازر من بين الأموات، وذلك في اليوم الرّابع لموته، في بيت عنيا (العيزريّة) (يو 11، 1 - 45)، بمرأى من الكثيرين، وبعد حادثة التّينة الّتي لم تُعطِ ثمرًا (مرقس 11، 12 - 14)، وبعد أن عاش المسيح وعمل وعلّم بتعاليم الملكوت على المَلَء، ناشرًا نوره في أحلك الظّلمات، وباعثًا روح الحياة والرّجاء في ربوع البائسين والمظلومين والمُحبطين، ومُلهمًا روح المحبّة المجانيّة في جماعة الرّسل وحيث حَلّ وسار وأقام وأراد. يأتينا هذا الأسبوع اكمالًا، تتمّةً وتدشينًا لكلّ حياة المسيح على الأرض، منذ تجسّده في ناصرة الجليل، ليقودنا صوب قيامته المجيدة من بين الأموات.

 

 

مكوّنات الأسبوع المقدّس

 

يبدأ الأسبوع المقدّس بالتّحديد مع "أحد الشّعانين"، في قدّاسٍ احتفاليّ مهيب، تزيّنه سعف النّخيل وأغصان الزّيتون وشموع العيد، وتليه مساءً رٌتبة "الوصول للميناء"، ثمّ تأتي صلوات اثنين الآلام وثلاثاء الآلام وأربعاء الآلام، بأناشيدها وزيّاحاتها ورُتبها، وفق التّقاليد الغنيّة المتنوّعة (صلاة الآلام وزيّاح الصّليب; صلاة الختن; مراحل درب الصّليب)، وبألحانها وكلماتها العميقة الأثر على النّفس والوجدان، وفي يوم الأربعاء تُقام أيضًا رُتبة "أربعاء القنديل" ويُدعى بأربعاء أيّوب، ويليه يوم الخميس، "خميس الأسرار" والمدعو "خميس الغسل" و"خميس العهد" و"خميس الكهنوت"، ومن بعده تأتي "الجمعة العظيمة" برُتبها وفق اللّيتورجيّات المتنوّعة، كالقدّاس السّابق تقديسه المدعو ب"رسم الكأس"، وطقس تذكار "جنّاز المسيح" المُلقّب ب "الجنّاز السّيّدي" الموازي لرُتبة "سجدة الصّليب"، وثمّ يوم السّبت يكون "سبت النّور"، وبه تُقام رتبة الغفران والنّور، ويُقابلها في التّقليد البيزنطي قدّاس "فيض النّور"،  وتلحقها رُتبة "الهجمة" في اللّيتورجيّة البيزنطيّة، والّتي تتقاطع في تقليد "الطَّرق الثُّلاثي على الباب" مع رُتبة "الوصول للميناء" في اللّيتورجيّة المارونيّة. في ختام هذه المسيرة العميقة مع الأصوام والإماتات والتّصدّق، تُقام طلبة القيامة، ويُقام قدّاس ليلة الفصح، عمومًا في نصف اللّيل، و\أو قدّاس عيد الفصح يوم أحد القيامة، وقدّاس "ثاني الفصح" يوم الإثنين.

 

 

أحد الشّعانين

 

بعد أن أقام المسيح بسلطانه، صديقه لعازر من بين الأموات، في بيت عنيا، أمام شهودٍ كثيرين، وبعد أن أنتن جسد لعازر، سطعت حقيقة الكلمة، وزادت ضغينة الفاسدين عليه، وقلِق عظماء الكهنة وبعض الفريسيون من اتّباع النّاس له، حتّى عزموا على قتله (يو 11، 53)، حتّى كفّ المسيح عن التّجوّل علانيّة، لينطلق إلى مدينة أفرام ويقيم مع تلاميذه هناك (يو 11، 54)، في خلوة مقدّسة، تهيّء دروب الرّسالة. ثمّ قبل ستّة أيّام من الفصح ذهب مجدّدًا للبيت الحبيب على قلبه، في بلدة بيت عنيا، بيت الإخوة لعازر، مرتا ومريم، ليتناول معهم العشاء، في جوّ حميميّ، هناك "تناولت مريم حقة طيب من الناردين الخالص الغالي الثمن، ودهنت قدمي يسوع ثم مسحتهما بشعرها. فعبق البيت بالطيب"، فعلَ إكرامٍ وإجلالٍ للسيّد، وحِفظًا ليوم دفنه كما قال! (يو 11، 7). ينطلق السيّد من منطقة بيت عنيا وبيت فاجي، إلى مدينة القدس، إلى أسبوعٍ عظيمٍ، يومَ الأحد، هذا الأحد الّذي يستبق أحد القيامة بأسبوعٍ، ويستبق المجيء الأخير بالمجد!

 

جغرافيًّا

 

كانت بلدة بيت عنيا (بيت عنين) تقع ضواحي القدس، إذ تبعد نحو 15 غلوة عنها (يو 11، 18)، أي نحو 3 كم،  وتقع على المنحدر الشّرقي لجبل الزّيتون، على مفرق الطرق الذي يصل أريحا والأردن بمدينة أورشليم. وهي بالعبريّة בית עניה الآتية من كلمة עניו أي المسكين أو البائس. أمّا بيت فاجي (בית פאגי) وتعني بيت التّين، فهي منطقة تقع بمقربة من القدس، عند جبل الزّيتون (متّى 21، 1 – 2;  مرقس 11، 1;  لوقا 19، 28 - 29)، وقد يكون لها صلة بالتّينة اليابسة الّتي أتت عليها اللّعنة (مرقس 11، 12 - 14)، وكان علامةً لقوّة الإيمان القادر على نقل الجبال من جانب، ونوع صحوة للإنسان الّذي لا يعطي ثمرًا، لينهض ممّا قد يجلبه على ذاته من موت! أمّا جبل الزّيتون فقد سمّي بالعبريّة "هار هازيتيم" وبالآراميّة "طور زيتا"، ويحملون ذات المعنى "جبل الزّيتون"، وهو من أعلى مناطق القدس، ويصل ارتفاع أعلى قمّة فيه نحو 826 م، عن سطح البحر، ومنه صعد المسيح للسّماء في اليوم الأربعين للقيامة، بمرأى من الكثيرين، وهو المكان الّذي تنبّأ عنه زكريّا أنّه سيكون الأوّل من حيث إقامة الأموات، وهو يقع شرق مدينة القدس القديمة، وبينهما يقع وادي قدرون (غور يهوشافاط).

 

بهجة عيد الشّعانين

 

جماهيرٌ من الشّعب حاشدة في أجواء عيد الفصح الموسويّ، بشعورٍ مرهفٍ لهذا المُخلّص الجليل، كلٌّ يُعبّر عن إجلاله وإكرامه ومحبّته، هؤلاء يبسطون أرديتهم على الطّريق، وهؤلاء يفرشون أغصان الشّجر (متّى 21)، هؤلاء يحملون سعف النّخيل، الّذي يستقبلون به الملوك، ويتوّجون به الانتصارات الكبيرة (رؤ 7، 9)، وكقول الكتاب "الصّدّيق مثل النّخل يزهو" (مز 92، 12)، وها ملكٌ شامخٌ فوق نخيل الأرض، ومستقيمٌ فوق استقامتها مُقبلٌ، ها من جذوره أعمق من شجر الزّيتون، لأنّه "هو هو الأمس واليوم وإلى الأبد" (عب 13، 8)، ها رئيس السّلام قد أقبل (إشعيا 9، 6)، وهو أعظم جدًّا من نوح، وفُلكُه كنيسةٌ أبواب الجحيم لن تقوى عليها (تك 8، 11; متّى 16، 18)! ها هو نسل ابراهيم الحقيقي الّذي به تتبارك كلّ شعوب الأرض (تك 22، 18). هتافاتٌ تخرج من قلوب الشّعب بقوّة وإيمان، "هُوشَعْنا لابنِ داود! تَباركَ الآتي بِاسمِ الرَّبّ! هُوشَعْنا في العُلى !" (متّى 21، 8 - 9)، مدينة أورشليم ضجّت بأسرها (10)، وعلى قدر فهمها المحدود قالت وأعلنت "هذا النَّبِيُّ يسوع مِن ناصِرةِ الجَليل"، وكأنّها تريد قول المزيد ولكن لم يبلغها بعد تمام الوحي والفهم عن هويّة المُخلّص!

 

نبوءاتٌ، تسابيحٌ وانتصار

 

يدخل يسوع، هذا الملك المتواضع، لا على مراكب مسلّحة، بل على جحش ابن أتان (الجحش هو الحمار الصّغير، والأتان هي أنثى الحمار)، يدخل لا باستقبالات الفاسدين، بل بهتافات الأطفال والأبرياء كما كُتب "مِنْ أَفْوَاهِ الأَطْفَالِ وَالرُّضَّعِ أَسَّسْتَ حَمْدًا" (مز 8، 2)، وتبدأ نبوءات العهد القديم تتحقّق، فها زكريّا يتهلّل اليوم في ملكوت الله، وهو القائل بنبوءته: "اِبتَهِجي جِدّاً يا بِنتَ صِهْيون وآهتِفي يا بنتَ أُورَشَليم هُوَذا مَلِكُكَ آتِياً إِلَيكِ بارّاً مُخَلِّصاً وَضيعاً راكِباً على حمارٍ وعلى جَحشٍ آبنِ أتان (עַל-עַיִר בֶּן-אֲתֹנוֹת)، وأَستَأصِلُ المَركَبَةَ مِن أَفْرائيم والخَيلَ مِن أُورَشليم وتُستأصَلُ قَوسُ القِتال ويُكَلِّمُ الأُمَمَ بِالسَّلام ويَكونُ سُلْطانه مِن البَحرِ إِلى البَحْر ومِنَ النَّهرِ إِلى أَقاصي الأَرْض" (زكريّا 9، 9-10). لمّا َبَلَغَ يسوع مُنْحَدَرَ جَبَلِ الزَّيْتونِ "أَخَذَ جَمْهُورُ التلامِيذ يُهَلِّلُون وَيُسَبِّحونَ اللهَ بأعْلى أَصْوَاتِهِم عَلى كُلَ الأَشْياءِ العَظيمَةِ التي رَأَوْها وَكانُوا يَقُولُونَ: تَبَارَكَ الآَتي بِاسْمِ الرَّبِّ السلامُ في السَّمَاءِ والمَجْدُ لله في الأَعالي" (لوقا 19، 37 - 38)  ولمّا استاء بعض الفّريسيّون، وشكوا ليسوع لينتهر تلاميذه ويصمتوا أجابهم "أقولُ لَكُم إِنْ سَكَتَ هؤُلاءِ فالحِجارةُ نَفْسُهَا تَهْتُفُ." (لوقا 19، 40).. كان زخم طعم الانتصار هكذا قويّا حتّى قال في النّهاية الفِرِّيسيُّونَ بَعضُهم لِبَعض "تَرونَ أَنَّكم لا تَستَفيدونَ شَيئاً. هُوَذا العالَمُ كلّه قد تَبِعَه" (يو 12، 9).

 

تسمية عيد الشّعانين ودلالته

 

هتف الجماهير كلمة "هوشعنا" العبريّة وتعني خلّصنا، من الجذر "ي.ش.ع" أي خلّص وهي من التوسّل الوارد في المزمور:

 

"אָנָּא יְהוָה, הוֹשִׁיעָה נָּא;    אָנָּא יְהוָה, הַצְלִיחָה נָּא. בָּרוּךְ הַבָּא, בְּשֵׁם יְהוָה"  (108، 25 – 26أ) وتعني "أرجوك يا رب (يهوى) خلص، أرجوك يا رب أنقذ (أنجِح)، مبارك الآتي باسم الرب". كلمة هوشعنا (הושענא) استخدمت أيضا لوصف عيد ال هوشعنا الكبير "هوشعنا رابا" عند اليهود، في اليوم السّابع لعيد المظال (סוכות)، والّذي به كانوا يجلبون سعف النّخيل للهيكل (משנה מסכת סוכה, ד, ו). ثمّ في اللّغتين اليونانيّة واللّاتينيّة مع النّقل اللّغوي، حُفظت كلمة هوشعنا بصيغة "أوصانّا"، كما ترد في نشيد القدوّس في القدّاسٍ الإلهيّ، في اللّيتورجيّة الرّومانيّة اللاّتينيّة وفي اللّيتورجيّة البيزنطيّة.

 

تعاليمً صافية يوم أحد الشّعانين

 

في وسط الصّخب يُلقي السيّد تعليمه، ليعطي مثل حبّة الحنطة، الّتي إن لم تقع في الأرض وتُدفن وتمت، تبع حبّة واحدة، ولكن إن ماتت أثمرت كثيرًا، فالحُب والموت عن الذّات والتّضحية هي طريق الحياة والخلاص. وثمّ يعطي السيّد مثل النّور، فقد جاء للعالم نور، ومن يتبعه لا يسير في الظّلمات، ومن يحِد أنظاره عن النّور فسرعان ما ستتداركه الظّلمات. ويشجّع السّيّد على السّهر، فهناك التّجارب وهناك الشّرور وهناك الأحقاد، ولكن علينا أن نسهر كالعذارى الحكيمات، وسُرُجنا مشتعلة، وزيتنا متوفّر، زيت الصّلاة والإيمان والمحبّة، زيتُ الرّوح القدس، القادر أن يحفظنا في وإلى حياة أبديّة يسودها المجد الحقيقيّ، غير الزّائل. وعلينا أن نفعّل وزناتنا، أن نضع ما وضعه الله فينا، في خدمة الإنسان وخلاصه، أن نستثمر ما استثمره الله فينا، حُبا منه لنا وإكرامًا، فنردّه له حبًّا منّا وإكرامًا له!  (يو 12 وسواه)

 

دخول السّيّد لتطهير الهيكل

 

دخل المسيح هذه المرّة أيضًا إلى هيكل سليمان، وكان قد دخل إليه مرارًا كثيرةً في حياته، خصوصًا في الأعياد الكُبرى من كلّ سنة، كعيد الفصح وعيد الأسابيع وعيد المظال، وفي أعيادٍ أخرى كعيد تجديد الهيكل، كما قد دخله منذ صغره عندما أتمّ أبواه شريعة التّطهير وأخذه سمعان الشّيخ بين يديه، ولكن هذه المرّة دخله بروحٍ أخرى، ليس بعد ليُتمّ عبادة موسى القديمة، بل ليطهّره من فساد الرّئاسات وينقله من العبادات القديمة الّتي آن لها أن تنتهي، ليتهيّأ الهيكل لعهده الجديد! بينما كانت الجموع تهتف وتقول "هذا يسوع النبي الذي من ناصرة الجليل" (متى 21، 11)، "دخل يسوع الى هيكل الله و اخرج جميع الذين كانوا يبيعون و يشترون في الهيكل وقلب موائد الصيارفة و كراسي باعة الحمام" (22)  وقال مُعلّلًا "مكتوب بيتي بيت الصلاة يدعى و انتم جعلتموه مغارة لصوص" (23)، وقام بشفاءات لعرجٍ وعُميٍ في الهيكل، شهادةً لسلطانه، وكان الأولاد يصرخون في الهيكل "هوشعنا لابن داود" (متى 21، 15)! هذه المرّة، دخل يسوع الهيكل، في نهاية رسالته العلنيّة، وبتأييد كبيرٍ من الشّعب، ليطهّر الهيكل، من جميع الّذين كانوا يبيعون ويشترون، وكانوا قد جعلوه "مغارة لصوص" و "لم يدع احد يجتاز الهيكل بمتاع" (مرقس 11، 16). نعم وقد بدأ الهيكل يتدشّن لعبادة جديدة، فالذّبائح آن لها أن تنتهي، كما قال الكتاب "ذَبِيحَةً وَقُرْبَانًا لَمْ تُرِدْ، وَلكِنْ هَيَّأْتَ لِي جَسَدًا" (عب 10، 5 ;  مز 40، 6)

 

 

من أحد الشّعانين وحتّى أربعاء أيّوب

 

المدلول الرّوحي

 

عيد الشّعانين، هو عيد الانتصار، هو العيد الّذي ندعو به السّيّد المسيح لأن يدخل قلبنا وحياتنا ليُصبح ملكًا عليها، ندعوه لأن يملك فينا، فنحيا في ملكوت الله من ههنا. هذا العيد هو عيدُ تقدمةِ ذواتِنا، نحن الّذين صرنا في العماد هياكلًا للرّوح القدس، وهو عيدُ تجديد هيكلنا الدّاخلي، لينقّيه المسيح من كلّ إثمٍ، ويزيل عنه كلّ عبادةٍ باطلةٍ، وكلّ فسادٍ وكلّ شبه خطيئةٍ. هذا العيد هو عيدُ العودةِ للبراءةِ، للطّفولةِ، للبساطةِ، للعمقِ، للحقيقة. في هذا العيد نتذكّر قول المسيح "دَعُوا الأَوْلاَدَ يَأْتُونَ إِلَيَّ وَلاَ تَمْنَعُوهُمْ، لأَنَّ لِمِثْلِ هؤُلاَءِ مَلَكُوتَ اللهِ" (لو 18، 16)، ونتأمّل هتاف الأطفال آنذاك في الهيكل: "هوشعنا لابن داود"، فنجلبَ أطفالنا مع الشّموع والورود، مع أغصان النّخيل والزّيتون، مع جمال "القلب والقالب"، ليهتفوا للمسيح له المجد، ليفرحوا بهذا الملك المتواضع الطّيب الّذي يُحبّنا ويريد لنا الحياة والخلاص. في هذا العيد تبتهج الخليقة لأنّ المسيح وهو في الجسد قد دخل المدينة المُقدّسة، ولو أنّ عليه أن يشرب الكأس بعد، كأس الفداء، ليجني من الصّليب فداءً للبشريّة جمعاء!  لذلك نهتف جميعنا بفرح "هوشعنا في الأعالي، مباركً الآتي باسم الرّب، هوشعنا في الأعالي"!

 

رتبة الوصول إلى الميناء

 

يقول القدّيس يوحنّا فمِ الذَهَب ( +407) في عظةِ يومِ الجمعةِ من أسبوع الشّعانين، عن نهاية فترة الصّوم الأربعيني المقدّس، المفروضة علينا، أنّ ما بقي علينا هو "أن نَحْذَرَ المَللَ ونَرفُضَ الفشل، ونخافَ منِ احتيالِ الصَيّادين، ونُظهِرَ حرارة الشّوقِ ونُضاعِفَ وسائلَ الطلب، لِنَبلُغَ ذُروةَ الفضيلةِ وندخُلَ مدينةَ الظافرين". ويعطي لنا مثالًا من عالم الملاحة، قائلًا أنّ "مُدبِّري السفينةِ هكذا يَصنعون: فإنّهُم إذا أوغلوا في السفر، وضاعفوا الجَهْدَ وقطعوا مُعظمَ اللُجَجِ الهائلةِ والأنواءِ الرَّهيبة، وقاربوا الميناء المقصود، إذا بهم يدفعون عزمًا بعزم، ويُعْمِلون الآلاتِ والرِّجالَ تدارُكاً للطوارِئ الفواجع، كُلُّ ذلكَ لضمانِ الوصولِ إلى الميناءِ بِسَلام.. يجتهدون.. عندَ إشرافهم على غايةِ مَهَمّتهم، يتنافسون في أدائها حتّى السخاءِ بالنفسِ".

 

الرّتبة – دلائل روحيّة وحلقة وصل

 

هذه الرّتبة هي حلقة وصل، بين نهاية رحلة صّوم الأربعين وبداية رحلة أسبوع الآلام صوب صليب القيامة! الميناء هو المسيح بالدّرجة الأولى، ومن ثمّ الكنيسة الّتي تستمدّ منه شرعيّتها وسلطتها ودورها ورسالتها. يُحتفل بالرّتبة يوم الأحد ليلًا، عند موعد وصول العريس كما يرد في مثل "العذارى الحكيمات"، الّذي يدعو للسّهر والصّلاة، واكتناز "الزّيت" الّذي يجعل باطن الإنسان منيرًا ومُعدًّا للقاء المسيح. وهي تجمع بين وصول من مسيرة صوم وبين انتقالٍ إلى مسيرةِ آلامٍ ذي مذاقٍ خلاصيّ!

 

الرّتبة – رموز ودلائل ليتورجيّة

 

في هذه الرّتبة يلبس المحتفل اللّون البنفسجي، الخاصّ بطعم الألم والحزن الذي بالمسيح، وتُستبدل كلمات الـ "هلّلويا" بالـ "كيريالِيسون"، لتنتقل من بُعد التّسبيح الفرِح إلى بُعد التّوسّل والتضرّع، ولا تُطلب البركة من المحتفل أثناء القراءات، فيصمت المُحتفل عنها وعن عبارات "السّلام لجميعكم" أو "السّلام للبيعة" لا تُقال مقدّمات الإنجيل على الطريقة الاحتفاليّة، ولا تُختم قراءة الإنجيل "حقًّا والأمان لجميعكم"، بل يُبارك المحتفل الشعب بإشارة الصّليب بالإنجيل فيما الشعب ينشد مبارك من فدانا بموته فأحيانا. فيها تُرفع تراتيل النّور لله، "أشرق النُّورُ على الأبْرار والفَرَحُ على مُسْتَقيمي القُلوب"، وثمّ يقرع المحتفل الباب ثلاث مرّات بقوّة على مدخل الكنيسة الرّئيسي، والشَّعب يردّ: "من نور الملكوت املأ قلبنا يا رب"، ثمّ يدخل المحتفل إلى لكنيسة ووراءه يتدفّق الشّعب، ولمّا يصل المذبح، يُزيل اللباس الأبيض ويلبس البنفسجي، وتُزال ستائر المذبح البيضاء من قدّاس الشّعانين وتُوضَع عوضًا منها السَّوداء، وَيُوَشَّح الصَّليب بالسَّواد وتُضعَف الأنوار في الكنيسة، لأنّ مسيرة آلام المسيح وتضامننا معها قد بدأت.

 

إثنين، ثلاثاء وأربعاء الآلام

 

في هذه الأيّام يدخل المؤمنون بعمق أكبر إلى مسيرة آلام المسيح، إلى تأمّل أعمق في تعاليمه وقدوته، إلى الحمل الحامل خطايا العالم، إلى الّذي جاء ليحوّل ظلمتنا إلى نور، وليوجّه شرّ العالم إلى خلاص شامل، تبدأ التّأمّلات في الأسفار المقدّسة، يسوع يتألّم أجل أورشليم الّتي أراد أن يجمع شتاتها وأبَت، التّينة يابسة والغصون لا تُثمر، الهيكل على وشك أن يُهدَم، هيكل جسد المسيح لثلاث أيّام، وبعده بأربعين سنة هيكل القدس وقد أعلنت الـ "أوريم" والـ "توميم" من يد رؤساء الكهنة أزمنة غضب! يستفحل الشّر، وتعلو ضحكات زائلة في أصقاع الأرض من الفاسدين والمُفسدين، على ألحان العبوديّة في مصر، وبرج بابل الّذي سقط، وسدوم الّتي خلت من كلّ صدّيق، وجيل نوح الّذي زاغ دون هداية، والملوك الّذين فعلوا الشّرّ، أمثال آحاب الّذي آثر إيزابيل وبشارتها على كلام الرّب.. أيّام تشهد لروح التّمرّد أمام طاعة المسيح، وروح الكبرياء أمام اتّضاع الّذي تنازل وأخذ صورة عبد من أجل خلاصنا، وروح التّسلّط أمام من أتى ليغسل أقدامنا وقلوبنا وحياتنا بزوفاه! في اللّيتورجيّة البيزنطيّة، تتلى هذه الأيّام صلاة الختن (العريس)، وهي تشمل تأمّلات في المسيح العريس الّذي يأتي للقائنا، في وليمة العرس (متّى 25، 1 - 13)، وترتّل الكنيسة: "ها هو ذا الختن يأتي في نصف الليل، فطوبى للعبد الذي يجده مستيقظًا..." وهي صلوات تعبّر عن القُرب والمحبّة الحميميّة بيننا وبين المسيح الّذي يأتي إلينا بشغف ليهبنا الخلاص. في صلوات الختن الثّلاثة، نرى أيضًا نماذج التّينة العقيمة، العشر عذارى، والمرأة الزّانية، وفي جميعها دعوة للتّوبة، للسّهر، وللاستعداد الدّاخلي للقاء المسيح له المجد.

 

أربعاء القنديل

 

يوم الأربعاء غني بطقوسه، من جانب يواصل التوغّل في آلام المسيح، تتمّة ليومي الإثنين والثّلاثاء، ومن جانب تُقام به رتبة القنديل، رتبة تبريك الزّيت المقدّس، ليُمسح به المؤمنين، شفاءً للرّوح والنّفس والجسد. هي خدمة لعامّة المؤمنين، وتُمسح جباه المؤمنين أثناءها بالزّيت المُقدّس، إذ يرسم الكاهن علامة الصّليب عليها، واضعًا يده على رؤوس المؤمنين، غفرانًا للخطايا وشفاءً لأمراض الجسد، قائلا "لِغُفرانِ ذُنوبِكَ وَتَركِ خَطاياك وَصِحَّةِ جَسَدِكَ وَنَفْسِكَ". بهذه الرّتبة ينال كافّة المؤمنين هذه المشحة أقلّه مرّة واحدة في السّنة. ومن الجدير ذكره أنّ هذه الرّتبة مرتبطة بعمقها في في سرّ "مسحة المرضى"، الّذي يُستَخدم به الزّيت المقدّس الّذي يكرّسه غبطة البطريرك ويوزّعه على جميع الأبرشيّات ليمشح الكهنة به المرضى في جميع أصقاع الكنيسة.

 

الرّتبة بين قديمٍ وجديدٍ

 

كانت تُقام هذه الرّتبة سابقًا بحضور سبعة كهنة وإن تعذّر فثلاثة، وبها سبعة "قَومات"، وفي كل قومة مزمور، صلاة الحسّاي، مزمور قراءات، قراءة من العهد القديم، قراءة من الرّسائل، قراءة من الإنجيل، وصلاة ختام. لقد تمّ اختصار القومات بصلوات أقصر لأنّها كانت تستهلك وقتًا طويلًا يصعُب الالتزام به في أيّامنا. بعد كلّ قَومة تُشعَل فتيلة واحدة من الفتائل السّبعة للقنديل، يتبع كلّ منها طِلبة مُرتّلة، وتوزّع الخدمات على الشّعب خصوصًا من له مرض أو ضيق ليأخذ منها البركة.

 

الرّموز والمكوّنات

 

يُضع على المذبح الصّغير وعاء، وبه عجينة مصنوعة من طحين الذّرة، وهي عجينة جافَّة، وقليلة التّماسُك، ترمز إلى جسد أيّوب الضّعيف، خصوصًا أمام تجارب الألم على أنواعها. ويَضع عليها زيت الزّيتون، رمز البركة وحلول الرّوح القدس، ثمّ توضع الشّموع السّبعة بالتّوالي، وهي ترمز إلى مواهب الرّوح القدس الّذي يرافق المريض في وجعه، ويعزّيه ويقوّيه وقد يهبه الشّفاء إن كانت تلك الإرادة المُقدّسة، هذه المواهب السّبع هي الحكمة، الفهم، المشورة، القوّة، العلم، التّقوى، المخافة (أشعيا 11، 1)، وإشعال هذه الشّموع، ترمز للنّار الآكلة الّتي تحرق خطيئة الإنسان، وتُبدّد الظّلام، وتشعل القلب بالحُبّ الإلهيّ.

 

الأساس الكتابي لرتبة القنديل

 

هذه الرّتبة لها أساس كتابي واضح، من رسالة القديس يعقوب ( 5،  13-18) حيث يحث من هم في ضيق باستدعاء كهنة العهد الجديد (الشّيوخ - presbiteros)  ليصلّوا على المريض، وهذا أوّلًا لينال المريض غفران الخطايا، وثمّ لينال الشّفاء. ويوصي يعقوب بالاعتراف في الخطايا وبالصّلاة لبعضنا البعض أيضًا، فلا تتوقّف الصّلاة فقط على الكاهن وإن كان وجوده ضروريّا لممارسة سلطان غفران الخطايا باسم المسيح.  هذه المسحة هي من رحمة الله الّذي يريد أن يضمّد جراحنا، ويريد لنا كهنة وعلمانيّين أن نكون شركاء في رسالة الشّفاء والتّعزية لكلّ مريض، ومتألّم وتعيس في هذه العالم.

 

أربعاء أيّوب

 

يدعى هذا الأربعاء أيضًا بأربعاء أيّوب، وكما أشرت فإنّ العجينة ترمز لجسد أيّوب الضّعيف وقد صارعته المحن. وفي أسبوع الآلام نتأمّل أيضًا في آلام أيّوب العوصيّ (أيوب 1، 1) وعوص كما هو متعارف، هي من أعمال بلاد ادوم العربيّة.  نرى أيّوب يتأوّه في آلامه ولا يجد له تعزية، فأصدقاءه قاموا عليه، وظنّوا أنّ ما يصيبه من السّوء هو بسبب خطاياه، أمّا أيّوب فقد قال «عُرْيَانًا خَرَجْتُ مِنْ بَطْنِ أُمِّي، وَعُرْيَانًا أَعُودُ إِلَى هُنَاكَ. الرَّبُّ أَعْطَى وَالرَّبُّ أَخَذَ، فَلْيَكُنِ اسْمُ الرَّبِّ مُبَارَكًا» (أيوب 1،21).، «أنقبَلُ الخير من الله ولا نقبلُ منه الشرّ؟» (أيوب 2، 1 ). في هذا اليوم نتأمّل مثل السّامري الرّحيم، هذا المثل الرّاقي والعظيم في مدلولاته الإنسانيّة، حيث يجعل به المسيح كلّ إنسان قريب، بحبّه لنا، ويدعونا لأن نطبّق هذا علينا، بأن لا ننتظر من الآخر ليكون قريبًا بمفاهيمنا لنُساعده، بل أن نساعد الغريب والمحتاج والمتألّم لو مهما بدا لنا غريبًا، فنجعله برحمتنا له ومحبّتنا، قريبًا! إذ «ما من حب أعظم من هذا، أن يبذل الانسان نفسه في سبيل أحبائه» (يوحنا 15:13)