موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ٢٨ يوليو / تموز ٢٠٢٢

يا جاهل، لمن يكون كل هذا الذي جمّعت؟

بقلم :
الأب منويل بدر - الأردن
الأب منويل بدر

الأب منويل بدر

 

الأحد الثامن عشر (الإنجيل لو 12: 13-21)

 

فتح وصية المتوفّي وتقسيم الورثة هي أمر شائك، ونادرا ما يبقى الوضع سلميّاً، بل غالبا ما يقود ذلك إلى مشاجرات عائلية تنتهي في المحاكم. بهذا الموضوع يبدأ إنجيل اليوم. أحد النّاس يطلب من يسوع أن يتوسط له عند أخيه بسبب خلاف في تقسيم الورثة، بينهما، وأمّا يسوع فيرفض التّدخّل، وبشكلٍ قاطع، إذ للوراثة قانونها، فيجب أن يلتجئ لا إلى واسطة لكن الى القانون.

 

يسوع يستغِلُّ الموقف ليتطرّق من جديد وبشكل واضح إلى موضوع المال والجشع، أي حب المال الزائد. يقول المثل: المال يُريّح البال لكن كثرته تُخرِّب الأخلاق. وللتأكيد، فقد أعطى يسوع مثلا واقعيّاً. هذا وقبل أن نسمعه، نسأل: من منّا لا يهتمّ لمستقبله المادّي، ومن منّا لا يثور ثائره على فوائد البنوك الواطية مقابل مبالغ عالية يضعها الكثيرون في البنوك لتأمين المستقبلٍ؟ هذا والمستفيد منها في كثير من الأوقات والظروف هي البنوك نفسها فقط. مّن مِنّا ليس فخوراً على إنجازات ونجاح ومرابح في الحياة. فهل سيسألنا يسوع سؤالا غير الّذي سمعناه في إنجيل اليوم؟ يا فلان! لمن سيكون كلُّ هذا الذي جمّعت؟ فيسوع لا يريد أن يضع لنا فخّاً، لكنّه يريدنا أن نفتح عيوننا ويُحذِّرنا، كي لا نضلِّ الطريق فنخسر حياتنا، وما يجعلها سعيدة، فهو ليس المال، إذ المال لا يُشبع النفس وعطشها وإنّما هو كالركض وراء السّراب في الصحراء، لا يُروي عطشها. أما الّذي يُروي عطشها فهو محبّةّ الله

 

لا يوجد جريدة لا تٌعطي إحصائية ماليّة سنويّة. وإحصائية السنة الأخيرة في ألمانيا قالت: رأس مال الأغنياء الألمان يزداد بطريقة عالية ويصل إلى3430 مليارات توفير. يا جاهل لمن يكون كلُّ هذا الّذي جمّعت؟ الغريب أن الإنسان يُنفق ثُلثي حياته في الرّكض وراء مهام دُنيويّة وكسب المال، والانشغال في الدُّنيويّات الفانية، علما بأنّ لقمة العيش لا تحتاج كلَّ هذا الانهماك، لكنَّ غريزة الجشع هذه متأصِّلة فيه، إذا لم يحاربها، كفي مَثل اليوم.

 

من لا يعرفه الأمير السعودي وليد، الّذي يحتلُّ منذ سنوات الرقم 4 بين أغنى مئة رجل في العالم، لكن جريدة Fobes، التي تذكر الأسماء، قد ذكرت سنة 2013 أن مكانه في تلك السنة صار الرقم 10. وبعد تدقيق في حساباته، وجد أن الجريدة نست ان تذكر له مبلغ 10 مليارات دولار في بنك في اليابان، فاحتج ورجع إلى صفّه المذكور، أي الرّقم 4 من جديد. يُقال إنَّ صحفيّا قد وجّه إليه السّؤال: هل بوسعك أن تقول لنا ما هو رأس مالِك؟ فأجاب مازحا: قبل السّؤال أو بعد السّؤال؟!... أليس هذا جنونا؟ فماذا يحتاج الغني أكثر من الفقير ليومه؟ لكن من يفتكر من هؤلاء الأغنياء بمآت الملايين من الأطفال، الّذين لا يشبعون مرّة واحدة في اليوم، فهم في فُقرٍ متقع، ولا أحد من الأغنياء يهمُّه أمرهم. الّذين يغيب عن بالهم، أنّ الله هو الّذي يضع هذه الخيرات بين أيديهم، وهي ليست ملكا لهم، إنّما أمانة يجب أن يُوزِّعوها والاتّجار بها لكسب ملكوت الله. إكنزوا لكم كنوزاّ في السماء.

 

يُحكى أنّ غنيّا أوصى بوضع أمواله في تابوت موته ليأخذها معه، وعندما وصل باب الجنّة كان جائعا، فسأل عن دكان لشراء بعض المأكولات، فاقتادوه إلى أفخم سوق هناك، وكادت عيونه لا تُصدّق لمّا رأى: كل شيء بفلس! دخل المتجر وعبّأ عربته ممّا هبّ ودبّ وجاء إلى صندوق الدّفع، فاستغرب بالأكثر حينما كتب شك الدّفع ورُفض، إذ قال له المحاسب: هنا لا نأخذ نقداٌ. أسعار البضاعة هذه يجب أن تكون مدفوعة على الأرض، مقابل كلِّ صنف بحسنة أي بعمل خير. أنت وكل أموالك التي أحضرتها معك هي للجحيم. إذهب إلى النّار الأبدية!... هكذا قال المسيح للغني الّذي فاضت مخازنه وما عمل فيها خيرا. هذا مصير من يكنز لنفسه ولا يعتني بأفعاله عند الله.. السّماء لا تُشترى بالمال بل بالأعمال.

 

الشاعر الرّوسي الكبير Tolstoi، يذكر في أحد كتبه: أنّ رجلا فقيرا، قد أراد حاكم بلده أن يُخرجه من فقره، فدعاه وقال له: أريد أن أعطيك قطعة أرض تنقذك من فَقرك، مساحتها بقدر ما تركض يوماً من طلوع الشمس إلى مغربها طولا وعرضا، بشرط أن تضع أخر خطوة مساءً في أول خطوة ابتدأها صباحا. فراح الفقير يركض ويركض حقولا بطولها وعرضها حول ينابيعها وغاباتها طيلة النهار. وفعلا وصل مساءً كما كان متّفَقاً عليه. لكنه كان منهكاً من الركض فارتمى على الأرض وأصيب بجلطة وفارقته روحه. يا غبي! لمن يكون كلُّ هذا الّذي جمّعت؟

 

أيُّ غنيّ يفتكر بكلمات يسوع لتلاميذه: لا تقتنوا ذهباً ولا فضّةً ولا نُحاساً في مناطقكم. ولا مزوداً في الطّريق ولا ثوبين ولا أحذية. مجّانا أخذتم فمجّاناً أعطوا" (متى 10:10) فنتساءل: هل هذا اليوم ممكنا؟ ومن يُريد أن يعيش مِنّا فقيرا؟ وهل الغنى خطيئة، حتى لا نقول جُرم لا يُغتفر؟ وأنا لا أظن أن يسوع يريد مِنّا أن نستغني عن أي ملبس، ما عدا قميصاً مُمزّقا يحمي عورتنا؟ هو يريد تنبيهنا على نصيب الفقير ويقول، من يعيش غنيّاً وبرفاهيّة، هو ليس استحقاق شخصي، لذا يجب مقاسمته مع الفقراء، لانَّ قيمة الحياة ليست من الأموال: قال لهم: تبصّروا واحذروا كلَّ طمع، لأنّ حياة المرء، وإن اغتنى، لا تأتيه من أمواله (لو 15:12).

 

ولكي لا يبقى الإيمان نظريّة أو حبرا على ورق، دعم يسوع تعليمه بقصّة الفلاح، الّذي غلّتْ له أرضه، فما عاد يفتكر في عمل أيِّ شيء آخر، سوى في توسيع المخازن وبناء أهراءٍ جديدة، وأقول لنفسي: نامي واستريحي، إذ لكِ الآن أرزاقٌ تكفيكِ لسنين عديدة... فقال له الله: يا غبي! في هذه الليلة أسترِدُّ نفسكَ منكَ. فلمن يكون كلُّ ما أعدَدْته. وبالتّالي نسمع التنبيه الأساسي: فهكذا يكون مصير مَن يكنز لنفسه، ولا يغتني عند الله" (لو 23:12).أشبع الجياع خيراً، وأمّا الأغنياء فقد أرسلهم فارغين.

 

نعم، غبي ومجنون، تدعو التوراة، هؤلاء الأغنياء، الّذين يملكون كثيراً، لكنّهم لا بفتكرون إلا بأنفسهم، كأنّهم الوحيدون على هذه الأرض، كأن لا مسؤوليّة عليهم ولا محاسبة عليهم لايٍٍّ كان، لا لجوعانِ أو عطشان أو فقير. والسؤال هل هم يعرفون ما الفقر والجوع حقّاً؟ نعم، غبي ومجنون، هم ليسوا المُعوّقين، الّذين تصدر عنهم بعض الأفعال المشينة، لكن العقّال، الّذين لا عقل لهم، حيث لا يعتمدون إلا على قوّتِهم هم، بل لا يثقون بقدرة الله، ولا يفتكرون إلا بأنفسهم لا بغيرهم من الخيرات التي يُهْديهُم إياها الله. لا يخطر على بالهم، ما معنى المساعدة عند الحاجة. هم ينسون كل الآخرين وتنصبُّ أنانيَّتُهم على أنفسهم. لهم عيون لكنها لا ترى ما يجب أن يَروا، وآذانٌ، لكن لا تسمع لصراخ أليعازر المسكين الراقد أمام قصورهم، ولا قوّة فيه للوقوف على رجليه، من الجوع والألم. فمن له مال، ولا يفطن للمعوزين والجوعانين، هو أحمق. مَن يقدر أن يساعِد ولا يساعد هو غبي. من يسأل مَن قريبي ومَن أخي، هو ساقط في عينَي الله، إذ قريبي وأخي هو كل إنسان محتاج المساعدة ولا أُساعده. يا غبي لمن يكون كل الّذي جمّعت؟

 

يسوع تكلّم مرارا عن المال ومخاطره. الإنسان لا يقدر أن يعبد ربين: الله والمال. إنه لأهون على الجمل أن يعبر من خرم الإبرة، من أن يدخل غني ملكوت السّموات(لو15:18), أن يكون الإنسان غنيّا، هذا ليس شرّاً. الشّر هو كامن في طريقة استعماله. من له المال ولا يساعد الفقير الذي يراه وينساه، هو بالطبع ناسي الله وإنعاماته. أليس مَثَل اليوم هو كمرآة لنا، نرى فيها أنفسنا؟ التفتيش عن الأمان في المال هو أمان مغلوط. وبالتالي كلُّ الّذي جمّعه يُؤخَذ منه. لانّ حياة المرء وإن اغتنى، لا تأتيه من أمواله. أعطوا تُعطوا! إذ بالتّالي ماذا ينفع الإنسان أن يربح العالم كله ويخسر نفسه؟