موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٢٣ ديسمبر / كانون الأول ٢٠٢٣

وبينما حان وقت ولادتهما

بقلم :
المطران كريكور كوسا - مصر
وبينما حان وقت ولادتهما

وبينما حان وقت ولادتهما

 

"بَينَما هما فيها حانَ وَقتُ وِلادَتِها، فولَدَتِ ابنَها البِكَر، فَقَمَّطَتهُ وأَضجَعَتهُ في مِذوَدٍ لأَنَّهُ لم يَكُنْ لَهُما مَوضِعٌ في الـمَضافة" (لوقا ٢: ٦-٧).

 

لا تزال هذه الكلمات تلمس قلوبنا من جديد وخاصةً في هذه الأيام التي نستعد لإستقبال الطفل يسوع في مذود قلوبِنا. لقد حلّت الساعة التي أعلن عنها الملاك للعذراء مريـم في مدينة الناصرة: "ستحمِلينَ وتَلِدينَ ابناً فسَمِّيهِ يَسوع. سَيكونُ عَظيماً وَابنَ العَلِيِّ يُدعى" (لوقا ١: ٣١).

 

لقد حل الزمان الذي انتظره الشعب السالكُ في الظلمة منذ دهور، في ساعات وفيرة من الظلام الذي نعيشه يقوم الرب بالاهتمام بنا، ويخرج من مخبئه، ويصبح العالم مكاناً سليماً لإستقباله.

 

في ليلة الميلاد يأتي الله ليجددّنا كلَّنا، لذلك علينا أن نتأمل التحضير الداخلي الذي عاشته مريم، ولهفة الحب التي رافقت مسيرتها نحو تلك الساعة.

 

إن الدلالة الوجيزة: ولفته بالأقمطة، تسمح لنا أن نرى شيئًا من الفرح المقدس ومن الغيرة الصامتة المكنونة في هذا التحضير. كانت الأقمطة حاضرة، لكي يتسنى للعذراء مريـم  استقبال الطفل  بشكل لائق. ولكن لم يكن هناك مكان في الضيافة".

 

لقد تعمق القديس يوحنا في إنجيله بالخبر الذي ينقله لنا لوقا البشير بخصوص  حالة مدينة  بيت لحم، ويشير إلى الأمر الجوهري وهو: "جاء إلى خاصته، وخاصته لم تقبله" ( يوحنا ١ : ١١).

 

نعم، هذا الأمر يتعلق بشكل خاص ببيت لحم: جاء ابن داود إلى مدينته، ولكنه اضطر أن يولد في حظيرة حقيرة، لأنه لا يوجد مكان له في الضيافة. ويتعلق أيضًا -كما قلت سابقًا- الشعب السالكُ في الظلمة: فالمرسل يأتي إلى خاصته، ولكن خاصته لا تريده. ويتعلق بالحقيقة بالبشرية بأسرها: ذاك الذي تجسّد لخلاص العالم، يدخل الكلمة "الذي صار بَشَراً وحلَّ فينا وفي العالم، ولكن مع الأسف، العالم لا يصغي له، ولا يقبله.

 

تتعلق هذه الكلمات بنا نحن أيضًا، بكل فرد وبكل المجتمع، فنسأل أنفسنا: هل لديَّ وقت للقريب الذي يحتاج إلى خدمتنا، إلى خدمتي أنا شخصيًّا، إلى عاطفتي؟ هل لديَّ وقت للمتألم الذي يحتاج إلى مساعدة؟ هل لدي وقت للمهاجر أو اللاجئ الذي يطلب مأوى؟ هل لدي الوقت أو المكان لله في حياتي؟ هل يستطيع الطفل المتجسّد الدخول في حياتنا؟ هل يجد مكانًا فينا، أو ربما ملأنا كل الأمكنة بأفكارنا، بأعمالنا، بحياتنا الخاصة لأجل أنفسنا ومصالحنا الشخصية؟

 

في إنجيل لوقا ونحن نقرأه بعمق نلتقي بمحبة الأم مريم العذراء، وأمانة القديس يوسف، وسهر الرعاة وفرحهم العظيم، كذلك في إنجيل القديس متى، نلتقي بزيارة المجوس الحكماء، الآتين من بعيد، وكذلك أيضًا يقول لنا القديس يوحنا: "أما الذين قبلوه فقد أعطاهم سلطان أن يصيروا أبناء لله" (يوحنا ١: ١٢). هناك من يقبله، وهكذا انطلاقًا من الاسطبل، المذود الحقير، ينمو وينطلق نحو الخارج، نحو المنزل الجديد، المدينة الجديدة، العالم الجديد.

 

تجعلنا رسالة الميلاد نعترف بظلام العالم المغلق، وتبين لنا بذلك واقعًا  نراه يوميًا. ولكنها تقول لنا أيضًا، أن الله لا يتركنا نضعه خارج خارج حياتِنا. فهو يجد مكانًا دائمًا  للدخول في أنفسنا، ربما من خلال مذود قلبنا الذي يتجدّد في يوم ميلاد طفل المغارة، ملك السلام، أو من خلال أشخاص يرون نوره وينشرونه.

 

من خلال كلمة الإنجيل، يتوجه الملاك إلينا نحن أيضاً، ومن خلال الطقوس الليتورجية المقدسة يدخل نور الفادي في حياتنا. سواء كنّا رعاة أو حكماء او أشخاص عاديين  يدعونا نوره ورسالته إلى المسير، والإنطلاق إلى الخارج، أي عدم الإنغلاق، الخروج من ذواتنا، ورغباتنا واهتماماتنا للذهاب للقاء الرب وللسجود له. نسجد له فاتحين قلوبِنا لنملأها بالإيمان مبشرين العالم على الحقيقة، على الخير، على المسيح، على خدمة المهمشين الذين ينتظرنا المسيح فيهم.

 

لقد بدأ داود نفسه كراعٍ. وعندما طلبه صموئيل ليمسحه ملكاً، بدا أمراً مستحيلاً ومتناقضاً أن يصير راعياً، فتىً حامل وعد الله لشعبه في مغارة بيت لحم، هناك حيث كانت نقطة الانطلاق، تبدأ ملوكية داود بشكل جديد، في ذلك الطفل الملفوف بالأقمطة والموضوع في مذود. والصليب هو العرش الجديد الذي سيجذب من أعلاه داودُ هذا العالمَ إلى نفسه. ويطابق هذا العرش الجديد "الصليب" البدء الجديد في الاسطبل.

 

لقد شرح القديس غريغوريوس النيصصي في عظاته الميلادية النظرة عينها منطلقاً من رسالة الميلاد في إنجيل القديس يوحنا: "الكلمة صار بَشَراً وسكن بيننا"، "لقد نصب خيمته في وسطنا" (يوحنا ١: ١٤). يطبق غرغوريوس كلمات الإنجيل هذه على خيمة جسدنا، الذي أصبح ضعيفاً وشاحباً، معرضاً من كل النواحي للألم والعذاب. ويطبقها أيضاً على الكون بأسره، وقد مزقته وشوهته الخطيئة. ماذا كان ليقول لو أنه رأى الحالة التي وصلت إليها الأرض اليوم بسبب سوء استعمال الطاقة، واستغلالها الأناني دون أي انتباه؟ لقد سبق ووصف القديس أنسلموس أسقف كانتربري، بطريقة شبه نبوية، الحالة التي نراها نحن اليوم في عالم ملوث ومهدد مستقبله: "كل شيء كان وكأنه ميت، وقد فقد كرامته، لأنه قد خلق أصلاً لخدمة أولئك الذين يسبحون الله. كانت كل عناصر العالم حزينة لأنها فقدت بهاءها بسبب سوء الاستعمال الذي كانت تتعرض له من قبل خدام الأوثان، الذين لم تخلق لأجلهم". وهكذا، بنظر القديس غريغوريوس، يمثل الاسطبل بحسب رسالة الميلاد الأرضَ التي أسيء استخدامها. لا يبني المسيح أي قصر، لقد جاء ليمنح الخليقة والكون جمالهما وكرامتهما: هذا هو الأمر الذي يعود مع الميلاد ويفرح الملائكة: يتم إعادة الأرض إلى حالتها الإيجابية من خلال فتحها على الله، فتنال بالتالي نورها الحق، وبالتناغم بين الإرادة الإلهية والإرادة الإنسانية، وعبر توحيد العلو والعمق، تحوز من جديد جمالها وكرامتها. وهكذا، الميلاد هو عيد الخليقة المتجددة.

 

يشرح الآباء القدّيسون نشيد الملائكة في ليلة الميلاد المقدسة: هو تعبير عن الفرح لأن العلو والعمق، السماء والأرض تتحد من جديد، ولأن الإنسان يتحد بالله من جديد. بحسب الآباء، يشكل قسم من نشيد الملائكة أن يتمكن البشر والملائكة الآن من أن يتغنوا سوية بجمال الكون هذا الذي يتم التعبير عنه عبر نشيد التسبيح. فالتراتيل الليتورجية تتضمن، بحسب آباء الكنيسة، كرامة خاصة لأن أجواق الأرض والسماء تتغنى به سوية. اللقاء مع يسوع المسيح يؤهلنا أن نسمع غناء الملائكة، ويخلق هذه الموسيقى الحقة التي تنحط عندما نفقد هذا التراتيل سوية، والشعور بها معاً.

 

في اسطبل بيت لحم تلمس الأرض السماء. السماء جاءت إلى الأرض. لهذا ينبع من هناك نور لكل الأزمنة لهذا يتقد هناك الفرح ، لهذا يولد الغناء.

 

في نهاية تأملنا الميلادي أود أن أستشهد بكلمة رائعة من القديس أغسطينوس. ففي تعليقه على دعاء الصلاة الربية: "أبانا الذي في السماوات"، يتسأل: ما هي هذه السماوات؟ وأين هي السماوات؟ ويجيب بشكل مذهل: في السماوات يعني: في القديسين والصدّيقين. السماوات هي الأجسام العليا في الكون، ولكن هذه الأجسام لا يمكنها أن تكون إلا في مكان ما. ولكن، إذا ما اعتقدنا أن الله هو في السماوات، أي في المناطق العليا من العالم، لكانت العصافير أوفر حظاً منا، لأنهم يعيشون أقرب إلى الله. ولكن لم يكتب: "الرب قريب ممن يعيشون في الأعالي وفي الجبال"، بل كتب: "الرب قريب من منسحقي القلوب" (مزمور ٣٤ [٣٣]، ١٩)، وهو تعبير يشير إلى التواضع. فكما يتم تسمية الخاطئ "أرضًا"، كذلك، بالمقابل، يدعى الصدّيق، البار "سماء" (في عظة الجبل ٢، ٥، ١٧).

 

لا تشكل السماء جزءًا من جغرافية الفضاء، بل من جغرافية القلب. وقد انحنى قلب الله، في الليلة المقدسة، إلى المذود: تواضع الله هو السماء. وإذا ما ذهبنا للقاء هذا التواضع، عندها نلمس السماء. وعندها تتجدد الأرض أيضاً. فلنلتزم بتواضع الرعاة بالمسير، في هذه الليلة المقدسة، نحو الطفل المضجع في الاسطبل. فلنلمس تواضع الله وقلب الله. وعندها سيلمسنا فرحه وسيجعل العالم من خلالنا أكثر إشعاعاً ونوراً للعالم ويصبح البشر، رجالاً ومساءً، رجال الله، رجالاً جددًا، وعالمًا جديدًا.