موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأربعاء، ٢٣ ديسمبر / كانون الأول ٢٠٢٠

والميلاد حدث كل يوم... فهل؟

بقلم :
المونسنيور بيوس قاشا - العراق
فيا ربّ، إجعلني أنْ أكونَ أميناً لحدثِ ميلادِكَ بيننا،لأنك محور حياتي

فيا ربّ، إجعلني أنْ أكونَ أميناً لحدثِ ميلادِكَ بيننا،لأنك محور حياتي

 

نعم... "لما تمَّ مِلءُ الزمان، أرسل الله إبنَه مولودًا من عذراء تحت الناموس" (غلا4:4)، وبهذا أدْخَلَنا الله الآب السماوي في سرٍّ ما كنّا نتخيّل عمقه وتدبيره ، حيث جعل ابنَه محوراً للحياة ومركزاً لتاريخ الإنسانية ، عاش معنا زمنها وتاريخها بعد انتظار طويل حتى تحقق وعدُه الصادق فأصبح الحلم حقيقةً، والموعود واقعاً، وجاء وقد "شابهنا في كلِّ شيء ما عدا الخطيئة" (رومة 3: 8) . وتجسّد من أجلنا ليشدّد عزائمَنا كي نتحاشى الخطيئة والفساد والكبرياء والغيرة السوداء والأنانية وعلى غرارِهِ الذي لم يقع فيه أبداً.

 

والعهد القديم اعلنها، كما العهد الجديد، أنَّ المسيح المولود هو ابن البشر كما هو ابن الله، وسلطته سلطة الله، وقدرته قدرة الله، "وبه خُلِقَ كل ُّ شيء وبدونه لم يكن شيء" (يو 3:1)، وأقام معنا على الأرض ولكنه هو الذي أسّس الأرض منذ البدء، كما يقيم في السماوات، والسماوات نفسها صنع يديه، ولا يزال يقاسمنا مسيرة الحياة بألمِها وفرحِها. إنه عمّانوئيل (عامان إيل)، الله معنا، يقول يوحنا الحبيب "رأيناه بعيوننا ولمسَتْهُ أيدينا" (1يو1:1). أتى ليكون رفيقاً لكلِّ إنسان وحاضراً معنا في تفاصيل حياتنا اليومية، ولكنه ينتظر قبولَنا ليعلن حريتَنا، ويدعونا لأنْ نفتحَ له أبوابَ قلوبِنا. بينما نحن لا زلنا نفضّل أن نعيش من دونه. فوجوده بيننا ليس ضعفاً إلهياً، ولم يكن الله عاجزاً تلك الليلة عن تأمين مكان مميَّز لولادة إبنِه الوحيد؟، حتماً "لا"! كلٌ ما قد يظنّه البعض ضعفاً هو بالحقيقة درسٌ في التواضع ونكران الذات لأجل الأهمّ، لكنه في هذا علّمنا أنَّ حياتَنا ما هي إلا حدثُ مسيرةٍ نحو بيتَ لحمَ، حيث نرى البسطاء من الرعاة ساهرين على أنامهم، والذين قصدوها بعد مسيرة مثالية، وسماعِهِم لبشرى الملاك، فتحققوا منها واختبروها، ثم بشّروا بها ومجَّدوا الله، من خلال الحدث الذي جرى في حياتِهِم وعرفوا كيف يقرأونه.

 

فميلاد المسيح حدثُ كلِّ يوم، تجلّى الله وهو لا يزال يتجلّى، وهو يدعونا إلى أنْ نتخطّى الإطار الخارجي لنصل إلى هذا الحدث. فالمسيرة نحو الحدث ليست أنْ نمشي إلى غاياتِنا الأرضية على أكتافِ البسطاء، كما هو اليوم شأنُ كبار زمننا وأصحاب المصالح والذين لا يرون إلا كراسي ذواتِهِم، إنما الحدث يعلّمنا أنْ نحملَ الآخرين على كَتِفَيْنا لنوصلهم إلى غاياتِهِم السماوية. فالفردوس لا يمكن أن ندخله لوحدنا أبداً ، ولنعلم أنّ النور لا يخشى الظلمة، ولا يخاف الحق إلا الباطل، ولا يخجل من المحبة إلا البغض. والنجاح لا يخشى الغرور الاسود،  وهذا ما جعل هيرودس وحنان وقيافا والمنتفعون من سلطتِهِ إظهار بغضهم وغرورهم من الملك الآتي لأنهم ظنّوه أنه سيأخذ أمكنتهم وسيجلس على كراسيهم وسيحرمهم خيراتِ الدنيا والجزية الموجبة، فخافوا من نور الحدث كما تخاف الظلمات.

 

إنه حدث يدعونا أنْ لا نُدخِل مشروعَنا الخاص في مخطط الله السامي، بل بالأحرى أنْ ندخُلَ نحن في مشروعِ الله الذي أحبّنا أولاً "هكذا أحبّ الله العالم حتى أنه أرسل إبنَه الوحيد" (يو16:3). فالحدث قراءة ذاتية في ضوءِ سرّ التجسد، سرِّ التواضع الذي به يرفعنا، سرّ الفقر الذي به يُغنينا، وعِبرهما يعلّمنا كيف أنه أخذ بشريَّتَنا ليزيّنَنا بألوهيتِه. فقد كلَّمنا بالأمس وهو يكلّمنا اليوم وسيكلّمنا إلى الأبد بمختلف الوسائل وشتى الطرق (عبر8:13)، فهو معنا وعندنا، وكلمتُهُ هذه عملت على تحقيق وعدِهِ إذْ لم تكن كلمةُ أحرف وألفاظ أو بيانات وإستنكارات كما هو اليوم شأن كبار دنيانا، بل كلمةُ حياةٍ متجسِّدة بيننا وساكنةٍ فينا كي تكون الشهادة ، منه وبه وإليه (رو36:11).

 

عِبْرَ هذا الحدث:لا يجوز أن نلوم اليوم يهودَ ذلك الزمن لأنهم لم يؤَمِّنوا مكاناً يليق بالمولود الجديد بل نلوم أنفسنا فنحن بعيدون عن التزامِنا في أنْ نعوِّضَ اليومَ تقصيرَهم بالأمس؟، أي أنْ نجد المكان اللائق بالضيف العزيز. وأيُّ مكانٍ هو الذي يطلبه؟، فهو لا يرغب بكراسي الدنيا ومناصب الزمن والمصالح الفاسدة، ولا الذين أخذوا يفتشون عن اله اخر ناسين أنّ النهاية هي من عملِ يديه. بل يرغب في حقيقةِ القلوب، لذلك فنحن مدعوّون جميعًا إلى السهر في العالم على قطعانِنا، على مصيرِ العالم الجريح في علاقة انجيلية. فالرب أوصانا أنْ لانخاف الآتي بل أنْ ننتظرَه بفارغِ الصبر وان كان الانتظار صعبًا، كي يحوّل الخوفَ من أنفسِنا رُويداً رويداً إلى رجاءٍ وفرحٍ رغم الأزمنة القاسية والوبائية وألم الحياة التي نحياها اليوم في مسيرتِنا الأرضية

 

والآن لنسأل أنفسَنا: هل نشعر جميعاً بأنَّ المسيح الحيّ، وُلِدَ مِنْ أجلِنا ومِنْ أجلِ خلاصِنا، ويدعونا إلى أنْ نقرأ هذا الحدث بِعَيْنَي مريم ثم بعيونِنا؟... وبحضور طفل المغارة بين أهلِنا وعوائِلِنا وهو يُقيم معنا، ونحن نعيش فقرَ ولادتِهِ وحبِّه لنا؟ ونعتبر مجيء المسيح نوراً لِخُطانا ولحياتِنا ولتصرفاتِنا ولمواقِفِنا، ونقلع عن الحسد والكراهية والفساد والغيرة السوداء؟ فالله يخاطبنا اليوم بإبنِهِ المتجسّد، ويدعونا ان نُصغي إلى كلمتِهِ ونبتغي عملَ مشيئتِهِ... وإلا ماذا؟...

 

هل نختار المسيرة الإيمانية في حقيقة حبِّنا فنبادله الحب؟ وكيف نقوم بها من أجلِ الوصول إلى حقيقةِ الايمان عبر التأمل في سرِّ الله كلَّ يوم ، فنعيش حدث الميلاد! أم نُمضي أيامَنا كما نشاء وحسب ما نشاء، ونجعل الله مُطَّلِعاً على إرادتِنا ولا نبتغي مشيئتَه؟. فمغارة بيتَ لحم ومذود الرعاة ،يعلماننا بُعدهما الخلاصي في حياتِنا ومسيرةِ أيامنا؟، فهما رمزان يقوداننا نحو عيش السماء على الأرض في تجسد إبنِهِ وحضورِهِ وحقيقة ألوهيَّتِهِ وناسوتِهِ؟. وإلا ماذا؟...

 

هل نحن واعون إلى أنَّ المسيح بمجيئِهِ غَيَّرَ جوهرَ إنسانيَّتِنا في أنْ نستحقَّ ما عمله الآب وواعين إلى البُعد الشمولي لعمل الله ولا نتوقف عند أشياءَ لم يعملها معنا؟ مُدركون لمكانةِ المسيح فنحياها بأفواهِنا وفي أعماقِ أفئدتِنا وبين اهتماماتِنا. وكيف يجب أن نتعاملَ مع الوجه الإلهي الموجود في بشريَّتِنا وإنسانيتِنا؟ ونشهد لسرّ التجسد في عالم الشهوة والعولمة المزيَّفة، في عالم الوباء والكوارث، في عالم الدنيا ومصالح الكبار وزمنهم، ومناصب الاقوياء وغاياتِهِم؟

 

هل نذهب إلى الكنيسة لنحتفل بولادة طفلَ المغارة، لنُهدي سلام البشر إلى المحبّين بأفواهِهِنا بينما قلوبنا بعيدة عن إدراك سموّ الطفل الذي دعانا إلى بيتِهِ؟، فنذهب لسماع كلمات رنّانة وألفاظ منمَّقة وآيات عِبْرَ الشفاه دون أن نغيّر ما في نفوسِنا ونُصلح ما في ذواتِنا نحن الواعظين اولاً على أسماع البسطاء، فنمدح كلمات سمعناها فننسى بذلك الحدث الالهي العجيب؟

 

هل تعرَّفنا إلى الرعاة البسطاء والفقراء، وقصدنا بيتَ لحم لنرى بساطَتَهم وسذاجَتَهم وكيف ساروا مسيرةً مثالية من السهر إلى الإصغاء ثم الإختبار والتبشير والتسبيح، فنجد منهم محاضرة قيّمة لنبني أساسَ إيمانِنا، ونسألُ أنفسَنا في أيةِ مرحلة نحن من مسيرتِهِم؟ فنكتفي بحقيقة أنَّ الله الذي أحبَّنا أرسلَ إبنَه لخلاصِنا فنحتفظ بها لأنفسِنا ونعتبر أننا إذا آمنّا خَلُصنا، ونسينا أنَّ مسؤولية بشارة جارِنا وخلاصه تقع على عاتِقِنا، فما نحن مسيحيون إلا لنشر بشرى الخلاص وليس الخجل منها لإرضاء بشر الدنيا ورؤساء الزمن وكباره؟ وإلا ماذا!

 

ختاما نسأل أنفسَنا في كيف يجب أن نعيش القديم، لينقلَنا فنرتمي في أحضانِ الجديد الذي علَّمنا أنَّ الحبَّ تضحية وأنَّ الحقيقةَ رسالةُ ايمان وليس كلام الالسن الرنّانة واحترام الألسن ومجاملة المصالح، ومهما كان الزمن قاسيًا، ولنعلم  أننا مسافرون يوما حينه لا ينفع الكبرياء ولا المصلحة ولا الأنانية ولا الغيرة السوداء؟

 

فيا ربّ، إجعلني أنْ أكونَ أميناً لحدثِ ميلادِكَ بيننا،لأنك محور حياتي. أنت وفيٌّ وأمينٌ، أنتَ الحب بالذات، وأنتَ الحقيقة بالتمام، وطوبى لمن كان وفياً لحقيقة هذا الزمن الاعلامي والالكتروني، أنك أنت الاله الحق يسوع المسيح، وما تلك إلا حقيقة حدثِ الميلاد في هذا الزمن القاسي. نعم وامين.