موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ٤ نوفمبر / تشرين الثاني ٢٠٢١

هذه الأرملة ألقت بفلسيها في الصندوق أكثر من كل الأغنياء!

بقلم :
الأب منويل بدر - الأردن
الأب منويل بدر

الأب منويل بدر

 

الأحد الثاني والثلاثون (مرقس 12: 38-44)

 

قالوا: المال يحكم العالم. ومهما امتلك الإنسان منه، فهو يريد دائماً أكثر. المال هو العِجل الذّهبي، الذي حوّلوه إلى هيكل ورقصوا له. في نوفمبر 1991 توفّي أغنى رجل في العالم، هو البريطاني Robert Maxwell صاحب أكبر دار للنشر في العالم. قدّروا رأس ماله لومدّوه ورقا على الشارع، لوصل إلى 2 كيلومتر مربّع، طولا وعرضاً. ولكنهم قالوا أيضا أنه ترك 4.5 مليون دولاراً دَيْنا وراءه. فالسّؤال: لماذا هذا الدّين الكبير؟ هل هو تَصَدَّقَ به لمشاريع خيريّة أو للفقراء؟ بل قالوا كلُّها براطيل موقّعة لموظّفين ومسؤولين في وزارة المالية، كي يُعفوه من دفع الضرائب المستحقّة عليه. فهذا مرض العصر إلى اليوم. كيف نقول عن المؤمنين في الغرب، الّذين يعلنون تركهم للدين وللكنيسة، طلبا لتوفير الضريبة الدينية المفروضة؟ غالباً ما تطالعنا الجرائد اليومية بمثل هذه الأخبار: رئيس البنك الفلاني، أو بكل بساطة: الغني الفلاني يتصدّق بمبلغ كذا، رافعا بين يديه شيك التّبرع، فيعرف كلُّ قرّاء الجريدة بأنَّ فُلانا من النّاس تبرّع يشيء. أمَا صَدق من قال: الغني عنده مال، لكن ما عنده كفاية! فهل هذا ما قصده يسوع؟ وهل نفتكر أن الأغنياء وحدهم، هم الّذين يتبرّعون؟ لأن الجرائد تقوم بالدّعايات لهم؟ وأمّا المتبرّعون المتواضعون فلا ذكر لهم؟ هذا خطأ كبير. هؤلاء المتبرّعون الصّغار هم يعيشون حسب قول يسوع: "إحذروا من أن تصنعوا صدقتَكم قدّام الناس، لكي ينظروكُم، وإلاّ فليس لكم أجرٌ عند أبيكم الّذي في السّموات: (متى 6:1). هذا ومَثَلُ إنجيل اليوم هو خير برهان.

 

 

لو كانت محبّة القريب تُقاس بالمال والدولارات، لكان الإغنياء من الأوائل في ملكوت الله، ولكان بإمكانهم أن يقوموا بأعمال محبّة بالأكثر، ليراهم الناس ويمدحوهم. بالطبع هم بأيديهم إمكانية عمل الأعمال الكبيرة. لكن كل هذا، ما له قيمة، أمام تعليم يسوع في إنجيل اليوم.

 

آخيرا، وبحسنةٍ سيطةٍ، تلعب المرأة، التي ما كان لها قيمة في مجتمع الفريسيّين، بل هن مستَعْبدة منهم للمتعة فقط. وأما في ديانة يسوع، فصار لها دور قيادي! فهذه نصوص الأحد اليوم: القراءة الأولى تُظهر أرملة ساريبتا مع إيليا، ما بقى عندها وله لا طحين ولا زيت. وفي الإنجيل الحديث عن إمرأة أرملة فقيرة، وأفقر من الفار في كنيسة كاثوليكية، يقول مثلٌ ألماني، لا مُعيل لها، ولا مصدر رزقٍ معروف، كما سمعنا. لذا توصي التوراة مرّاتٍ بالإعتناء بالأرامل، وهذه كانت أيضا وصيّة الرّسل، لأول شمامسة أقاموهم. أي الإعتناء بالأرامل. هذه الأرملة  قصدت زيارة الهيكل، لتندب حظها أمام يهواها. فقبل أن تدخل الهيكل رمت في صندوق التّبرّعات أمام الجُباة، كلّ ما كان معها، أي فلسين، أي كلَّ ما كانت بحاجة له للحياة (متى 35:6). أما قال صاحب المزامير: كلُّ ما نحن وكلُّ ما نملك هو من الرب وإلى الرّب! وللصُدْفة كان هناك رب الهيكل يراقب الدّاخلين والخارجين. فمن حَسْنتها البسيطة المُتواضعة، اكتشف حُسْنَ نيَّتها، مثلما اكتشف كُبرياء الأغنياء، الّذين كانوا يرفعون المبالغ، التي يتبرّعون بها في الهواء، ليمدحهم المشاهدون ويصفّقوا، بل ويُعيِّشوا لهم، فتعْزِف لهم الفرقة الموسيقية الواقفة خصيصا هناك، وكان في جُعبتها 13 لحن موسيقي يعزفونها، تقديراً لقيمة الحسنة والتّبرّع.

 

للعلم: الفرّيسيّون الّذين كانوا في خدمة الهيكل، هم أولاد هارون، شقيقِ موسى. بينما أولاد موسى فكانوا الجنود المدافعين عن وطنهم وشعبهم، هذا وكان لهم معاشهم، بينما الفريسيون فلا. لذا كانوا بكثرة على مدخل الهيكل يجمعون التّبرعات ليعيشوا منها ويعتنوا بالهيكل ومتطلباته ويبيعون ما استطاعوا من أغنام وخراف وتقادم،  وتغيير عملة، حتى جعلوا من الهيكل، مثلما قال يسوع: قاعة مبيعات.

 

فكانوا يفرحون على تقادم الأغنياء ويبجِّلونهم، كأنهم ما كانوا سمعوا بكلام يسوع: "وأنت إن قدّمت حسنة، فلا تُصوِّت قدّامك بالبوق، كما يفعل المُراؤون في المجامع وفي الأزِقّة، كي يُمَجَدوا من الناس. الحقّ أقول لكم، إنّهم قد نالوا أجرهم. وأمّا أنت فمتى قدّمت صدقة، فلا تعرف يسارك ما تفعله يمينك، لكي تكون صدقتك في الخفاء (متى 6: 2-3). وفي ميمعة هذا الصخب، حدث ما سمعناه في الإنجيل عن هذه الأرملة. فهي ما كانت تملك أكثر من فلسين، وبدل أن تحتفظ بهما لشراء شيءٍ تسدُّ به جوعها اليوم، رمتهما في صندوق التّبرعات قدامها، واثقة من أنها تُتَمِّم الوصية: احبب الرب إلهك بكل قلبك وعقلك وملكك. واثقة بأن الله لن يتركها في الضيق. صحيح أنَّ حسنتها لم تُقابل، لا من الجُباة الجالسين وصناديق التبرّعات أمامهم بالشكر، لا ولا من مُطبِّلي الأبواق، إذ ما قدّمته لا يستأهل الإنتباه. فكما قلت، ما عاشه يسوع قبل ألفي سنة هو واقعي وفي كلّ مكان وزمان. إنَّ صدقات الأغنياء ما لها أي دافعٍ ديني، بل هي رياء في رياء، وأكثر الأوقات، هي للتملّص من دفع الضرائب القانونية. إنَّ حُكم يسوعَ على هؤلاء الكذبة هو هو: لقد نالوا أجرهم! فبالنتيجة هم لا أجرَ لهم في السّماء، لأنّهم لم يكنزوا لهم كنوزا هناك. الأدوار عند الله هي غير ما هي على الأرض، كما الحال مع الملك الغني وأليعازر الفقير.

 

إن سمحتم لي، دعوني أحكي بعض ما عشت أثناء عملي في الرّعايا. فمرّة طرق على بابي أحد أعضاء الصليب الأحمر، يُجمِّع حسنات للمشاريع التي يقومون بها. فعندما قدّمت له ما كان فيه النّصيب، رفع يده احتجاجاً. لا، قال نحن لا نأخذ حسنة، بل عَقْدَ تبرّعات شهريّة او سنويّة. هذا يعني، المبالغ الصغيرة ما عاد لها قيمة. ماذا كان يقول إذنْ لهذه الأرملة، صاحبة الفلسين؟ بالطبع كان سيضحك عليها مستهزِأً بها.

 

اضطررنا سنة لتصليح كنيسة الرّعية، التي كنت فيها، وكان فيها أغنياء كثيرون، لذا خاطبتهم شخصيا وسألت مساهمتهم، لأن عمليّة تمويل تصليح الكنائس في الشرق، حيث لا ضرائب كنسية تجمعها الحكومة للكنيسة، تختلف عنها في الغرب وفعلا وصلتُ إلى نتيجة. لكن المتبرّعين، واحداً بعد الأخر، وضع شرطاً، أن يُكتَب إسمُه على لوحة صغيرة تحت المشروع، الّذي تبرّع بتجديدة. فكانت الكنيسة مُزيّنة كالمتحف: تبرّع بهذا الشّبّاك فلان... تبرّع بهذه الإضاءة فلان...

 

عندما تحدث لمّة تبرّعات لمشروع ما، فقد جرت العادة، تعليق لائحة بأسماء المتبرعين، وذكر الكمّية التي تبرّعوا بها. هذا ودائماً كنت أقول في نفسي: تُرى، لو رأى يسوع هذا، ماذا كان سيقول؟

 

فأيُّهما أرفعُ قيمةً؟ الدنانير المصفّفة فوق بعضها، أم هذان الفلسان بين أنامل هذه الأرملة؟ هناك اعتقاد في المجتمع الأوروبي، أنَّ من وجد في طريقه فلسا، يسمّونه "فلس الحظ"، أي أن من لاقاه يقف أمام حظٍّ كبير، فيباشر يتَرَقُّبَ حدوثه. هنا إعطاء فلس، جلب للأرملة حظّاً كبيرا عند يسوع، إذ دعا تلاميذه وقال لهم: الحقَّ أقول لكم، إنَّ هذه الأرملة الفقيرة، ألقتْ أكثرَ من جميع الّذين ألقُوا في الخزانة (مر 43:12). فالفقير هو ليس ذاك الّذي لا يملك إلاّ القليل، لكنه يفعل به خيرا، بل الفقير هو ذاك الغني، الذي يملك الكثير، لكنه لا يفعل به شيئاً، كالفلاح الّذي غلّتْ له أرضه، فتساءل: ماذا أعمل؟ أو ذاك الشّاب، الّذي جاء إلى يسوع وسأله: ماذا عليَّ أن أعمل لأرث الحياة الأبديّة؟ فكان جواب يسوع . إذهب وبع كلَّ ما تملك، ووزّعه على الفقراء. فذهب حزينا، لأنه كان غنيّاً (مر 17:10) أمَا هذا تناقض؟ وإلا فماذا عنى يسوع بذلك؟. إن حساب يسوع، هو غيرُ حساب الرّياضيّين، أو الإقتصاديّين. يسوع لا ينظر إلى الكمّيّة، فالغِنى ليس خطيئة، بل الخطيئة هي أنَّ الغني لا يعمل بماله خيرا. وبالتّالي ماذا ينفع الإنسان لوربح العالم كلَّه وخسر نفسه؟

 

هناك كتاب ضخم ب 527 صفحة بعنوان :المِثال، يقرأه القارئ بلهف، فصلا بعد فصل يتتبع فيه وصفا بعد وصف للمثال، الّذي يريد أن يكونه. ولكن بقدر ما كانت فرحته كبيرة في بداية الكتاب، بقدر ما تخيب آماله عندما يُغلق آخر صفحة منه، إذ لا يصل إلى هدفه ولا يُلاقي مثالاً كان في باله لحياته في عالم اليوم. في مثل قصير بسيط، يُرينا يسوع مثالا حيّاً، كفي مرآة قدّامنا، مثل هذه الأرملة، يستحقُّ التقليد، لما فيه من عبرات لنفوسنا. لسنا بحاجة لكتاب ب 527 صفحة، لكن لعمل بسيط نقوم به، لا لسماع المديح ،بل حبّاً بالله. فالقيمة لا تأتي مِن الكمِّيّة، بل من الرّوح، كما يشرح بولس ذلك: إن ما يقدّمونه، هم يقدّمونه للشيطان لا لله. فلست أريدُ أن تكونوا أنتم شركاء للشيطان(1 كور 20:10) ويكمّل "لا تنسوا فعل الخير والتوزيع، لأنّه بذبائح مثلُ هذه، يَسرُّ الله" (عبر 16:13). نعم صدقة بسيطىة صادرة من القلب، لها قيمة أكثر من ملايين، صاحبها ليس بحاجة لها ويقدّمها ليمدحه الناس عليها. أنسينا ما قال: ماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم كله؟ بل معاييرُه هي غير معايير الأرقام، أي ما كان الدّافع للتّبرّع بمبلغ، كبيرٍ كان أم صغير؟ فما يهمُّه هو ليس كمّيةُ الرّصيد، بل السَّبب. لذا فالأرملة هي نجم المُتبرِّعين، لأنَّ النّص اليوناني لكلمة: ألقت كلَّ رِزقِها: كلمة Bio أي حياتها. فبينما الآخرون يتصدّقون بالفاضل، بالزّائد عندهم، فقد تصدّقت هذه الأرملة، ليس فقط بشيءٍ عندهاـ بل بحياتها. فيسوع لا يطلب منّا الصدقة بل التضحية، لذا فالأرملة هي صاحبة الموقف قدام يسوع، لا أؤلئك الأغنياء. وبالمقابل هي الأعمال الصغيرة التي نقدر عليها، إن قدّمناها لخدمة القريب، لها أهمّية أكبر من بناء مستشفى كبيرمع لوحة باسم المُتبرِّع. فلا تهتمّوا للغدّ، فإنَّ الغد يهتمًّ بما لنفسه" (متى 34:6) من ينسى قصة االقديس مارتين، الذي تبرّع بنصف معطفه لفقير على الشارع، وفي الليل ظهر له هذا الفقير في الحلم، وإذا به يسوع يالذات. أعطوا تُعطوا، إذ بالكيل الذي بع تُعطون، يُعطى لكم ويُزاد" (لو 38:6). إفرحوا وابتهجوا في ذلك اليوم، لأن أجركم في السّماء سيكون عظيما.

 

القراءة الأولى ذكّرتنا بأرملة أخرى فقيرة، من قرية ساربتا، مكان مولد النبي إيليا، هي أيضا تصدّقت بآخر رغيق خبزٍ وأخر زيت عندها لهذا النبي، فلأنها صنعت هذا كافأها الرب أيضا، بحيث ما عاد ينقصها لا طحين ولا زيت.

 

العطاء يُفرّح أكثر من الأخذ (أعمال 35:20). يجب إعطاء شيء ممّا هو ضروري للحياة، حتى يكون له قيمة عند الله. فالتّيرع بشيء لسنا بحاجة له ما له قيمة في عين الله، مثل التّيرّع بشيء نحتاجه، ومع ذلك نتبرع فيه. قصة مع الأم تريزا. قالت كنت ماراً وإذا بشحّاذ يوقفني، قال: كل الناس يهدونك أشياء كثيرة، وأنا اليوم أريد أن أهديك شيئاً. قال هذا ومدّ عليها 29 ملّليم، قال عنها، هذا كل ما أتاني اليوم، فأنا أهديك إياها. تفاجأت الأم تريزا بقصّته وقالت في نفسها: إن أخذتها منه، فهو لا يقدر أن يشتري عشاءً لنفسه، وإن رفضتها فهو سيحسب ذلك إهانة مني له. فقالت، مددت يدي وأخذت تقدمته. وعلقت: لقد فرح فرحاً لا أسستطيع وصفه. فإعطاء شيْ ضروري هو تقدمة كبيرة، كقبولة عند الله.