موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ٢٦ أغسطس / آب ٢٠٢١

هذا الشعب يُكرمني بشفتيه وأما قلبه فبعيد منّي

بقلم :
الأب منويل بدر - الأردن
هذا الشعب يُكرمني بشفتيه وأما قلبه فبعيد منّي

هذا الشعب يُكرمني بشفتيه وأما قلبه فبعيد منّي

 

الأحد الثاني والعشرون (الإنجيل مر 7: 1-8 ثم 14-15 ثم 21-23)

 

كل مولود بشري، لأنه يخرج من يد الله، هو مؤمن. فبالولادة لا يوجد مؤمن أو غير مؤمن. الفرق يأتي قي ما بعد، عندما يبدأ الإنسان بالتفكير في أهمية الإيمان لحياته الشخصية. فإمّا أنّه يُنمِّي هذا الشعور ويزداد إيمانا. وإمّا أنّه لا يشعر بفائدة الإيمان، فيتركه في مرحلة الطفولة وبالتالي يختنق عند الكثيرين، خاصة وأنَّ لا أحد يهتم بتربيتهم الدينية. إن حياةً بدون الإيمان بالله هي مهزلة. وبالتّالي لا يحتاج الإنسان لا لعشر وصايا ولا لقوانين كثيرة، كما كانت الحال عند الفريسيّين، لمَا ابتدأ يسوع رسالته بينهم.

 

موضوع إنجيل اليوم لا علاقة له بموضوع الخمس آحاد الماضية، التي كان موضوعها تكثير الخبز والجدالات مع يسوع حول خبز الحياة، الذي سيعطيه لنأكله فنحيا إلى الأبد. إذ الإنجيلي اليوم هو غير إنجيلي الآحاد الماضية. إنجيلي اليوم هو مرقس، وموضوعه اليوم يدور حول وصايا وقوانين، كان الشعب يعتبر، أنَّ المحافظة عليها، ولو خارجيا وخوفا من القصاص، هو وسيلةً تُرضي روؤساء الشعب، وبالتالي ترضي الله. لكن العمل بشيء لأنّه مفروضٌ فرضاً، فهو لا قيمة له، إذ الإنسان ليس حرّاً. أما قال يسوع: "الحرف يقتل وأما الرّوح فيحي". كان إختلاقُ وصايا وكتابتها ومراقبتها شُغلَ الكتبة والكهنة الشاغل. فما كان يمضي يوم بدون إضافة أو حذف هذه أو تلك من الوصايا، حسب الظروف اليومية.

 

بهذا المعنى هذه النادرة المُضحكة:

 

قالوا، إنَّ يسوع حاول أن يزور العالم زيارة راعوية جديدة، فحمل في حقيبته لوحة العشر وصايا وابتدأ رحلته ابتداء بالشعوب العربية، جمعهم وقال لهم: معي عشر وصايا جديدة لكم. من حافظ عليها يخلص. فطلبوا منه أن يطلعهم على واحدة منها. فقال مثلا: لا تقتل. فقالوا: لا. لا بيك ولا بوصاياك! فنحن بدون قتل، لا نقدر أن نعيش. تركهم يسوع وتوجّه إلى أفريقيا. عندي عشر وصايا لكم، إن حافظتم عليها تخلصون. قالوا أعطنا مثلا. قال: أكرموا أباكم وأمّكم. فضحكوا منه وقالوا. لا بيك ولا بوصاياك. فنحن نصفنا لا يعرف من هم أهله. تركهم يسوع وتوجّه إلى فرنسا. هناك قال لهم: عندي عشر وصايا لكم، إن حافظتم عليها تخلصون. قالوا له، أعطنا مثلا؟ قال: لا تزن! أجابوا. هذي الوصية في بلد الحب؟ لا فيك ولا في وصاياك! فتركهم وذهب إلى المكسيك. هناك قال لهم. عندي عشر وصايا لكم، إن حافظتم عليها تخلصون. قالوا أعطينا مثلا؟ قال: مثلا لا تسرق! أجابوا: هل هذا معقول؟ فالسرقة قبي حياتنا. لا فيك ولا في وصاياك! فتركهم وذهب إلى أبناء شعبه المختار، وقال لهم. عندي وصايا لكم، إن حافظتم عليها تخلصون. قالوا له: ماذا تسوى؟ قال: لا شيء. فصفّق روؤساء الكهنة وقالوا: إذن أعطنا منها عشرة.

 

أكثر وأضخم الكتب المعروفة على وجه الأرض هي كتب القانون، إذ لكل شعب قوانينه وشرائعه الخاصة، ليعرف كلُّ مواطن، ما له وما عليه في حياته اليومية. لمّا برز يسوع في الساحة، كان الشّعب رازحا، تحت كثرة وثِقل الوصايا، التي خلقها روؤساء الكهنة والفريسيّون ذوي السلطة، كيلا يتمرّد الشعب عليهم، وتبقى سلطة قيادته بالخوف بين أيديهم. هذا وقد وجد يسوع أنهم في كثيرٍ من المواقف، كانوا قد أبطلوا وصايا الله، وأبدلوها بوصايا مختلقة منهم هم. من هنا سنتابع اقسى وأعنف الجدالات بين يسوع والفريسيّين حول الوصايا، التي كانت قد وصلت إلى 249 وصية جديدة و365 وصيّة حرمان، هذا كلٌّه إلى جانب وصايا الله العشرة، التي ما كانوا اكتفوا بها، لتنظيم حياة وسلوك الشعب.

 

لكلِّ مخالفة تافهة، كبيرة كانت أم صغيرة، كانوا أوجدوا وصية مع قصاص مذكو، كالسؤال والجواب. فكان سلوك الشعب، الخاص والعام، مراقباً، كما الحالة اليوم في السّعودية مراقبة لكل تصرّف من شرطة الأخلاق. فيبدو أنّه كان عندهم حبٌّ خارق للسلطة. كأنها غريزة في الإنسان. هل نسينا محاولات الرئيس ترامب المخجلة، كم صال وجال، كي يبقى في الحكم. من هنا فرض الوصايا لكل كبيرةٍ وصغيرة. جاء ذكر بعضها في إنجيل اليوم: لماذا لا يغسل تلاميذك أيديهم قبل تناول الطعام وبعده؟ فما كان من يسوع إلا أن نعتهم بالمُرائين، إذ هم يهتمّون بالمظاهر لا بالقالب. فهو ليس ما يدخل الفم الذي يُنجِّس، بل ما يخرج من القلب.

 

من ناحية ثانية، هم بدّلوا بعض التعليمات الدّينيّة لصالحهم. فالتوراة توصي بالعناية بالأهل ومساعدتِهم بالمال، إن كانوا بحاجة، فأوجد الفريسيّون حلاًّ بديلا، هم راحوا يستفيدون منه، مفاده من يتبرّع بهذا المبلغ للهيكل، فهو معفى من مساعدة أهله: إنّكم تُهملون وصيّة الله، وتتمسّكون بسُنّة البشر. فهذا الشعب يُكرمني بشفتيه، وأمّ قلبُه فبعيدٌ منّي، فباطلاً هم يعبدوني"(مر 7: 6-8).

 

نعم، بوصاياهم الكثيرة، كان أسهل لهم أن يحكموا الشعب، وتبقى سلطتُهم ونفوذُهم، محميّتان خلف سورٍ منيع. خاصة وأنَّ هذا الشعب كان متأكِّدا أنَّ كلَّ هذه الوصايا من الله، وعليه أن يتعلَّمها ويعمل بها. وهي التي تُميِّزه عن باقي الشّعوب. أيَّةُ أُمَّةٍ كبيرة، لها آلهة قريبة منها، ولها رسومٌ وأحكامٌ عادلة"، قالت لهم قراءة اليوم. لكن الفرّيسيّين حذفوا وبدّلوا وأضافوا على هذه ألأحكام ما طاب لهم، خدمةً لمصالحهم الخاصّة. مُعطين لوصاياهم المختلقة، وزناً أثقل من وصايا الله. لذا شبَّههم يسوع بقبور مُبيّضة، تظهر من الخارج جميلة، وهي من الدّاخل مليئة بعظام أموات وكلِّ رجيسة" (متى 27.23). من هنا إنتقادات يسوع اللاذعة لهؤلاء الرّوؤساء: لقد قيل لكم.... وأما أنا، فأقول لكم.

 

إنَّ الدّيانة اليهوديَّة، كانت أوّل ديانة ناجحة بين الشّعوب، لأن يهوى أسّسها بوصايا وأحكام، وألزم الشعوب للمحافظة عليها. لكنَّ ضعف هذه الدّيانة من ناحية ثانية، كان أنّ هذه الوصايا كانت مُبعثرة هنا وهناك، لا في كتاب واحد ولا في مكان واحد، لذا كان للكهنة المجال الواسع، لإضافة وصايا منهم في وسطها، إعتبرها الشّعب أيضاً مُلزِمة كوصايا الله. والأسوأ من كلِّ ذلك، جعل وصاياهم أهمّ من وصايا الله. هم يُعلِّمون تعاليم، هي وصايا النّاس (متى 9.15). هذا وكانوا يشعرون بارتياح، حينما كانوا يشاهدون أن الشعب يعمل بوصاياهم، أكثر ممّا كانت تهمُّهم وصايا الله. لذا قال لهم يسوع: لا تظنّوا أنّي أتيت لأنقض الناموس والأنبياء. أنا ما جئت لأنقض بل لأُتمِّم. الحقَّ أقول لكم، إلى أن تزول السّماُ والأرض، لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس، حتى يكون الكل" (متى 5. 17-18).

 

من المعروف والمُؤكّد، أنَّ الله، ما أعطى ديانة بوصايا متقلّبة، كما هو معروف في الإسلام، تحت اسم الناقض والمنقوض. فالدّيانة لا يجوز لها خلق قوانين تخنق الحرّية البشرية أو تحصرها، تجعل من الإنسان كائنا مُسيّرا لا مُخيّراً. فمن  قال، إنَّه لا يجوز للإنسان، أن يقف أمام الله ويتكلّم معه، إلا إذا غسل يديه؟ نعم الدّيانة  تصبح عبئاً لا يُطاق، عندما تَخْرُج عن نطاقها، وتضع شروطاً وعوائقاً للإتصال بالله، عندما تعطي لوصايا الفريسيّين قيمة أهمَّ من وصايا الله بالذّات. الدّيانة لا تبني على الخوف من الله، بل على الثقة به. أما قال ذوقوا وأنظروا، ما أطيب الرّب! يسوع لم يترك سؤالهم: لمَ لا يتمسّك تلاميذُك بسنّة الشّيوخ، بغير إجابة. بل أجابهم عليه بالتّفصيل. أظن أنّه أجابنا نحن أيضا، على كل سؤالاتنا. حيث نفهم منه، أنَّ وصايا الله هي نور لعيوننا ومشعل لقدمينا. هي علاماتُ السّير على الشّارع، لأنّها تدلُّنا على الإتجاه الصحيح. نعم مَنْ أضاع الطريق ينتظر بلهفٍ أية إشارة سير، تُعيده إلى أتّجاهه الصجيج. إلى الطريق المطلوب.

 

يسوع قال عن نفسه. أنا الطريق! من تبعني لا يسير في الظّلام، بل يكون له نور الحياة (يو 12:8). فلنختر هذا الطريق، لأنه طريق حياتنا الصّحيح آمين.