موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٢٢ فبراير / شباط ٢٠٢٥

مَحَبَّةُ الأَعْدَاءِ والرَّحْمَة للجَميع

بقلم :
الأب لويس حزبون - فلسطين
الأحَد السَّابع من السَّنة: مَحَبَّةُ الأَعْدَاءِ والرَّحْمَة للجَميع (لوقا 6: 27-38)

الأحَد السَّابع من السَّنة: مَحَبَّةُ الأَعْدَاءِ والرَّحْمَة للجَميع (لوقا 6: 27-38)

 

النص الإنجيلي (لوقا 6: 27-38)

 

27 وأَمَّا أَنتُم أَيُّها السَّامِعون، فأَقولُ لَكم: أَحِبُّوا أَعداءكم، وأَحسِنوا إِلى مُبغِضيكُم، 28 وبارِكوا لاعِنيكُم، وصلُّوا مِن أَجْلِ المُفتَرينَ الكَذِبَ علَيكُم. 29 مَن ضَرَبَكَ على خَدِّكَ فاعْرِضْ لَه الآخَر. ومَنِ انتَزَعَ مِنكَ رِداءكَ فَلا تَمنَعْه قَميصَكَ. 30 وكُلُّ مَن سَأَلَكَ فأَعطِه، ومَنِ اغتَصَبَ مالَكَ فلا تُطالِبْهُ به. 31 وكَما تُريدونَ أَن يُعامِلَكُمُ النَّاس فكذلِكَ عامِلُوهم. 32 فإِن أَحبَبتُم مَن يُحِبُّكم، فأَيُّ فَضْلٍ لَكُم؟ لأَنَّ الخَاطِئينَ أَنفُسَهُم يُحِبُّونَ مَن يُحِبُّهُم. 33 وإِن أَحسَنتُم إِلى مَن يُحسِنُ إِليكُم، فأَيُّ فَضْلٍ لَكُم؟ لأَنَّ الخاطِئينَ أَنفُسَهُم يَفعَلونَ ذلك. 34 وإِن أَقرَضتُم مَن تَرجُونَ أَن تَستَوفوا مِنه، فأَيُّ فَضْلٍ لَكُم؟ فهُناكَ خاطِئونَ يُقرِضونَ خاطِئينَ لِيَستَوفوا مِثلَ قَرْضِهم. 35 ولكِن أَحِبُّوا أَعداءَكم، وأَحِسِنوا وأَقرِضوا غَيرَ راجينَ عِوَضاً، فيَكونَ أَجرُكم عَظيماً وتكونوا أَبناءَ العَلِيّ، لِأَنَّهُ هو يَلطُفُ بِناكِري الجَميلِ والأَشرار. 36 كونوا رُحَماءَ كما أَنَّ أَباكُم رَحيم. 37 لا تَدينوا فَلا تُدانوا. لا تَحكُموا على أَحَدٍ فلا يُحكَمَ علَيكم. أُعْفُوا يُعْفَ عَنكم. 38 أَعطُوا تُعطَوا: سَتُعطَونَ في أَحضانِكُم كَيْلاً حَسَناً مَركوماً مُهَزْهَزاً طافِحاً، لِأنَّه يُكالُ لَكم بِما تَكيلون)).

 

مُقَدِّمَةٌ


يَتَنَاوَلُ سَيِّدُنا يَسُوعُ المَسِيحُ فِي القِسْمِ الثَّانِي مِنْ عِظَتِهِ الكُبْرَى الوَاجِبَاتِ المَطْلُوبَةَ مِنْ تَلَامِيذِهِ الحَقِيقِيِّينَ، أَعْضَاءِ المَلَكُوتِ (لُوقَا 6: 27-38)، مُؤَكِّدًا أَنَّ المَحَبَّةَ هِيَ جَوْهَرُ المَلَكُوتِ، وَالرَّحْمَةَ هِيَ الصِّفَةُ المُـمَيِّزَةُ لِتَلَامِيذِهِ، حَيْثُ نُحِبُّ حَتَّى الأَعْدَاءَ وَنَرْحَمُ الآخَرِينَ كَمَا يَرْحَمُنَا اللَّهُ؛ وَمِنْ هُنَا تَكْمُنُ أَهَمِّيَّةُ البَحْثِ فِي وَقَائِعِ النَّصِّ الإِنْجِيلِيِّ وَتَطْبِيقَاتِهِ.

 

 

أولاً: تحليل وقائع نص إنجيل لوقا (لوقا 6: 27-38)

 

27 وأَمَّا أَنتُم أَيُّها السَّامِعون، فأَقولُ لَكم: أَحِبُّوا أَعداءكم، وأَحسِنوا إلى مُبغِضيكُم.

 

تُشِيرُ عِبَارَةُ "أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ" إِلَى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى فِي العَهْدِ القَدِيمِ: "لَا تَنْتَقِمْ وَلَا تَحْقِدْ عَلَى أَبْنَاءِ شَعْبِكَ، وَأَحْبِبْ قَرِيبَكَ حُبَّكَ لِنَفْسِكَ: أَنَا الرَّبُّ" (الأَحْبَارُ 19: 18). هَذَا القَوْلُ تَعْدِيلٌ لِشَرِيعَةِ مُوسَى الَّتِي تَنْصُّ: "عَيْنًا بِعَيْنٍ وَسِنًّا بِسِنٍّ" (خُرُوجُ 21: 24)، وَالَّتِي أَعْطَاهَا مُوسَى مِنْ أَجْلِ أَنْ يَعْمَلَ عَلَى ضَوْئِهَا الحُكَّامُ لَا الأَفْرَادُ فِي مُعَاقَبَةِ المُعْتَدِي، لَكِنَّهُمْ اتَّخَذُوهَا ذَرِيعَةً لِلانْتِقَامِ وَالأَخْذِ بِالثَّأْرِ. وَحُبُّ اللَّهِ وَالقَرِيبِ يُجْمِلُ كُلَّ الشَّرِيعَةِ وَالأَنْبِيَاءِ (مَتَّى 7: 12؛ لُوقَا 6: 31)، وَحُبُّ القَرِيبِ يَسِيرُ بِنَا حَتَّى مَحَبَّةِ الأَعْدَاءِ (مَتَّى 5: 44)، وَمَوْقِفُ اللَّهِ تِجَاهَنَا يَرْتَبِطُ بِمَوْقِفِنَا تِجَاهَ القَرِيبِ (مَتَّى 6: 14-15). وَيَصِفُ يُوحَنَّا الذَّهَبِيُّ الفَمِ كَيْفِيَّةَ مَحَبَّةِ الأَعْدَاءِ: "يَجِبُ أَنْ نَتَجَنَّبَ العَدَاوَةَ مَعَ أَيِّ شَخْصٍ كَانَ، وَإِنْ حَصَلَتْ عَدَاوَةٌ مَعَ أَحَدٍ فَلْنُسَالِمْهُ فِي اليَوْمِ نَفْسِهِ، وَإِنِ انْتَقَدَكَ النَّاسُ فَاللَّهُ يُكَافِئُكَ. أَمَّا إِنِ انْتَظَرْتَ مَجِيءَ خَصْمِكَ إِلَيْكَ لِيَطْلُبَ مِنْكَ السَّمَاحَ فَلَا فَائِدَةَ لَكَ مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ يَسْلُبُكَ جَائِزَتَكَ وَيَكْسِبُ لِنَفْسِهِ البَرَكَةَ". وَخَيْرُ مِثَالٍ عَلَى مَحَبَّةِ الأَعْدَاءِ هُوَ مَحَبَّةُ دَاوُدَ لِعَدُوِّهِ شَاوُلَ، إِذْ لَمْ يَسْتَجِبْ لِلِانْتِقَامِ وَلِرُوحِ العَدَاوَةِ، بَلْ تَسَامَى مُتَحَلِّيًا بِرُوحِ المَحَبَّةِ. (1 صَمُوئِيل 26: 2، 7-23). تَذَوَّقَ هَذَا المَلِكُ الشَّابُّ رَحْمَةَ اللَّهِ بِقَلْبِهِ، لِذَا شَارَكَ هَذِهِ الرَّحْمَةَ مَعَ شَاوُلَ الَّذِي عَادَاهُ كَثِيرًا. وهو يَدْعُونَا بِتَصَرُّفِهِ هَذَا، لَا إِلَى الِانْتِقَامِ بِرُوحِ العَدَاوَةِ، بَلْ إِلَى رُوحِ المَحَبَّةِ الَّتِي تُوقِفُ وَتُنْهِي تَدْمِيرَ الآخَرِ. وَعِبَارَةُ "أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ" تَتَكَرَّرُ فِي النَّصِّ لِأَهَمِّيَّتِهَا (الْآيَةُ 27 وَ35). يُبرِزُ يَسُوعُ هُنَا مَوقِفَ المَجَّانِيَّةِ فِي المَحَبَّةِ، أَنْ نُحِبَّ دُونَ انْتِظَارِ أَيِّ مُقَابِلٍ، لِأَنَّ الآبَ نَفْسَهُ يَقُومُ بِذَلِكَ: "أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ، وَأَحْسِنُوا، وَأَقْرِضُوا غَيْرَ رَاجِينَ عِوَضًا، فَيَكُونَ أَجْرُكُمْ عَظِيمًا، وَتَكُونُوا أَبْنَاءَ الْعَلِيِّ، لِأَنَّهُ هُوَ يَلْطُفُ بِنَاكِرِي الْجَمِيلِ وَالأَشْرَارِ" (لوقا 6: 35). وَيَسُوعُ يَدْعُونَا أيضا إِلَى مَحَبَّةِ أَعْدَائِنَا، لَيْسَ بِالكَلَامِ فَحَسْبُ، بَلْ أَيْضًا بِحَيَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ غَافِراً لصَالبيّه. وَيَظْهَرُ نَوْعُ الحُبِّ الَّذِي يَطْلُبُهُ يَسُوعُ مِنَّا كَتَلَامِيذِهِ، بِالتَّأَمُّلِ فِي مَحَبَّةِ اللَّهِ الَّتِي تَجَلَّتْ فِي بَذْلِ حَيَاتِهِ فِي يَسُوعَ مِنْ أَجْلِنَا، نَحْنُ الأَعْدَاءَ، حِينَ تَكُونُ لَدَيْنَا عَقْلِيَّةٌ تَتَعَارَضُ مَعَ عَقْلِيَّةِ اللَّهِ. الأَمْرُ هُنَا لَا يَتَعَلَّقُ بِالخُضُوعِ لِلظُّلْمِ بِشَكْلٍ سَلْبِيٍّ، بَلْ بِحِفْظِ الأَمَلِ فِي القَلْبِ بِأَنَّ الخَيْرَ أَقْوَى مِنَ الشَّرِّ. أَمَّا عِبَارَةُ "أَحِبُّوا" فِي الأَصْلِ اليُونَانِيِّ ἀγαπᾶτε (مَحَبَّةٌ رُوحِيَّةٌ أُخُوِيَّةٌ) فَتُشِيرُ إِلَى دَعْوَةٍ إِلَى المَحَبَّةِ، وَالمَحَبَّةُ هِيَ فِعْلُ إِرَادَةٍ وَلَيْسَ تَبَادُلَ العَاطِفَةِ، وهناك سِلْسِلَةٌ مِنَ الأَفْعَالِ الَّتِي تَنْدَرِجُ ضِمْنَ مَفَاهِيمِ الْمَحَبَّةِ: البَرَكَةُ، العَطَاءُ، عَدَمُ الرَّفْضِ، الإِحْسَانُ، الإِقْرَاضُ، الرَّحْمَةُ، عَدَمُ الإِدَانَةِ، وَالمَغْفِرَةُ. وَتَقُومُ المَحبَّة عَلَى الرَّغْبَةِ الحَارَّةِ المُتَلَهِّفَةِ لِأَجْلِ خَيْرِ الآخَرِ، وَالاهْتِمَامِ العَظِيمِ بِرِفَاهِيَتِهِ، وَهَكَذَا مَعْنَى مَحَبَّةِ العَدُوِّ هُوَ العَمَلُ لِصَالِحِهِ. بِمَعْنَى أَنْ نُصَلِّيَ مِنْ أَجْلِ الأَعْدَاءِ وَنُفَكِّرَ فِي طُرُقِ مُسَاعَدَتِهِمْ، حَيْثُ إِنَّ المَسِيحَ أَحَبَّ العَالَمَ كُلَّهُ بِالرَّغْمِ مِنْ عِصْيَانِ العَالَمِ ضِدَّ اللَّهِ، فَعَانَى الآلَامَ مِنْ أَجْلِ البَشَرِيَّةِ جَمْعَاءَ؛ وَالمَطْلُوبُ مِنَّا أَنْ نَكُونَ مِثْلَهُ وَنَقْتَدِيَ بِهِ فِي مَحَبَّةِ الأَعْدَاءِ. وَمِنْ هَذَا المُنْطَلَقِ، لَا أَعْدَاءَ لِلمَسِيحِيِّ الَّذِي يَعْتَبِرُ كُلَّ وَاحِدٍ قَرِيبَهُ وَيَرَى فِي كُلِّ إِنْسَانٍ أَخًا لَهُ (مِثْلُ السَّامِرِيِّ الرَّحِيمِ – لُوقَا 10: 25-37)، مُقْتَدِيًا بِالآبِ السَّمَاوِيِّ "الَّذِي يُطْلِعُ شَمْسَهُ عَلَى الأَشْرَارِ وَالأَخْيَارِ، وَيُنْزِلُ المَطَرَ عَلَى الأَبْرَارِ وَالفُجَّارِ" (مَتَّى 5: 45). وَفِي الوَاقِعِ، لَا يُوجَدُ لَنَا أَعْدَاءٌ حَقِيقِيُّونَ إِلَّا عَدُوٌّ وَاحِدٌ هُوَ إِبْلِيسُ (لُوقَا 9: 27-37). أَمَّا فِي إِنْجِيلِ مَتَّى، فَيَطْلُبُ يَسُوعُ أَنْ نُحِبَّ أَعْدَاءَنَا كَيْ نَنْتَقِلَ إِلَى حَالَةٍ جَدِيدَةٍ وَهِيَ أَنْ نَصِيرَ بَنِي أَبِينَا السَّمَاوِيِّ (مَتَّى 5: 45). المَحَبَّةُ هِيَ فِي قَلْبِ تَعْلِيمِ يَسُوعَ، وَهِيَ تَصِلُ إِلَى جَمِيعِ الأَصْدِقَاءِ وَالأَعْدَاءِ. أَمَّا عِبَارَةُ "أَعْدَاءَكُمْ" فَتُشِيرُ إِلَى الأَشْخَاصِ الَّذِينَ يُلْحِقُونَ بِكُمُ الأَذَى بِطَرِيقَةٍ أَوْ بِأُخْرَى: "يُبْغِضُونَكُمْ"، "يَلْعَنُونَكُمْ"، "يَفْتَرُونَ عَلَيْكُمْ"، "يَضْرِبُونَكُمْ"، وَالَّذِي "يَنْتَزِعُ رِدَاءَكَ"، وَالَّذِي "يَسْلُبُكَ". وَالأَعْدَاءُ تَدُلُّ عَمَلِيًّا عَلَى الرُّومَانِ الَّذِينَ كَانُوا أَعْدَاءً لِلْيَهُودِ لِأَنَّهُمْ يُضْطَهِدُونَهُمْ. إِلَّا أَنَّ الرَّبَّ يَطْلُبُ مِنْهُمْ أَنْ يُحِبُّوا أَعْدَاءَهُمْ. يُعَدُّ هَذَا الكَلَامُ لِلْيَهُودِ تَطَرُّفًا وَعَثْرَةً، لِأَنَّ اليَهُودَ اعْتَادُوا تَحْتَ ظُلْمِ الرُّومَانِ عَلَى حُبِّ الانْتِقَامِ وَالبُغْضِ لِأَعْدَائِهِمْ. وَهَا هُوَ السَّيِّدُ المَسِيحُ يَقْتَرِحُ أُسْلُوبًا جَدِيدًا لِمُقَابَلَةِ الظُّلْمِ وَهُوَ أَنْ نَصْنَعَ العَدَالَةَ وَالرَّحْمَةَ أَهَمَّ مِنَ المُطَالَبَةِ بِهِمَا وَنُقَابِلُ العَدَاوَةَ بِالحُبِّ، وَيُعَلِّقُ البَابَا فِرَنْسِيسُ: "بِقُوَّتِنَا وَجُهْدِنَا الشَّخْصِيِّ لَا يُمْكِنُنَا أَنْ نَفْعَلَ شَيْئًا، وَحْدَهَا نِعْمَةُ اللَّهِ قَادِرَةٌ أَنْ تُحَقِّقَهُ فِينَا". وَهَكَذَا، فَإِنَّ مَحَبَّةَ الأَعْدَاءِ دَعْوَةٌ لَمْ يَسْبِقْ لَهَا مَثِيلٌ فِي تَارِيخِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا. وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ يُوحَنَّا الذَّهَبِيُّ الفَمِ: "جَاءَ المَسِيحُ بِهَذَا الهَدَفِ حَتَّى يُغْرِسَ هَذِهِ الأُمُورَ فِي ذِهْنِنَا وَيَجْعَلَنَا نَافِعِينَ لِأَعْدَائِنَا كَمَا لِأَصْدِقَائِنَا". أَمَّا عِبَارَةُ "وَأَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ" فَتُشِيرُ إِلَى حُبٍّ يُتَرْجَمُ إِلَى عَمَلِ رَحْمَةٍ، وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ كَيْ لَا يُعَطِّلَ التَّلَامِيذُ نَشْرَ الكَلِمَةِ، لِأَنَّهُمْ أَصْبَحُوا خَلِيقَةً جَدِيدَةً، كَمَا جَاءَ فِي تَعْلِيمِ بُولُسَ الرَّسُولِ: "فَإِذَا كَانَ أَحَدٌ فِي المَسِيحِ، فَإِنَّهُ خَلْقٌ جَدِيدٌ" (2 قُورِنْتُس 5: 17). أَمَّا عِبَارَةُ "مُبْغِضِيكُمْ" فَتُشِيرُ إِلَى مَنْ يَمْقُتُونَنَا وَيَسْتَخِفُّونَ بِنَا، وَقَدْ أَمَرَنَا الرَّبُّ أَنْ نُحِبَّهُمْ. المَحَبَّةُ هِيَ عَكْسُ البِغْضَةِ (مَتَّى 5: 43-48)، حَيْثُ أَوْصَانَا المَسِيحُ أَلَّا نُبْغِضَ إِلَّا الخَطِيئَةَ، وَأَنْ نُحِبَّهُ فِي الآخَرِينَ. وَفِي هَذَا الصَّدَدِ، يَقُولُ بُولُسُ الرَّسُولُ: "إِذَا جَاعَ عَدُوُّكَ فَأَطْعِمْهُ، وَإِذَا عَطِشَ فَاسْقِهِ، لِأَنَّكَ فِي عَمَلِكَ هَذَا تَجْمَعُ عَلَى رَأْسِهِ جَمْرَ نَارٍ. لَا تَدَعِ الشَّرَّ يَغْلِبُكَ، بَلِ اغْلِبِ الشَّرَّ بِالخَيْرِ" (رُومَة 12: 20-21). وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ أُوغُسْطِينُوسُ: "إِنْ أَمْكَنَكَ، لَا تَجْعَلْ لَكَ عَدُوًّا. وَإِنْ وُجِدَ مَنْ يُبْغِضُكَ فَلَا تَحْزَنْ بِذَلِكَ، لِأَنَّكَ لَسْتَ وَحْدَكَ مَنْ أُبْغِضَ، بَلْ سَيِّدُكَ (المَسِيحُ) قَبْلَكَ قَدْ أُبْغِضَ". أَمَّا البِغْضَةُ، فَهِيَ سَبَبُ جَمِيعِ الانْشِقَاقَاتِ وَالخُصُومَاتِ الَّتِي تُؤَدِّي إِلَى أَعْظَمِ الأَضْرَارِ.

 

28 وبارِكوا لاعِنيكُم، وصلُّوا مِن أَجْلِ المُفتَرينَ الكَذِبَ علَيكُم

 

تُشِيرُ عِبَارَةُ "بَارِكُوا لَاعِنِيكُمْ" إِلَى طَلَبِ يَسُوعَ المَسِيحِ أَنْ نُبَارِكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ بِنَا شَرًّا، أَوِ الَّذِينَ يَطْلُبُونَ لَنَا ضَرَرًا؛ فَهَؤُلَاءِ قَدْ أَمَرَنَا الرَّبُّ أَنْ نُحِبَّهُمْ وَأَنْ نُبَيِّنَ مَحَبَّتَنَا لَهُمْ بِأَنْ نُبَارِكَهُمْ. فَإِنَّ البَرَكَةَ تُقِيمُ بَيْنَ الكَائِنَاتِ تِيَّارًا حَيَوِيًّا وَمُتَبَادَلًا. جَاءَتْ هَذِهِ الوَصِيَّةُ مُرْتَبِطَةً بِكُلِّ كِيَانِنَا فِي الرَّبِّ، وَمُرْتَبِطَةً بِعِبَادَتِنَا. وَيَضَعُ بُطْرُسُ الرَّسُولُ السَّيِّدَ المَسِيحَ مَثَلَنَا الأَعْلَى بِالقَوْلِ: "شُتِمَ وَلَمْ يَرُدَّ عَلَى الشَّتِيمَةِ بِمِثْلِهَا، تَأَلَّمَ وَلَمْ يُهَدِّدْ أَحَدًا، بَلْ أَسْلَمَ أَمْرَهُ إِلَى مَنْ يَحْكُمُ بِالعَدْلِ" (1 بُطْرُس 2: 23). وَعَلَى نَفْسِ الخُطَى سَارَ بُولُسُ الرَّسُولُ قَائِلًا: "نُشْتَمُ فَنُبَارِكُ، نُضْطَهَدُ فَنَحْتَمِلُ" (1 قُورِنْتُس 4: 12). أَمَّا عِبَارَةُ "صَلُّوا مِنْ أَجْلِ المُفْتَرِينَ الكَذِبَ عَلَيْكُمْ" فَتُشِيرُ إِلَى طَلَبِ يَسُوعَ مِنْ تَلَامِيذِهِ أَنْ يُصَلُّوا مِنْ أَجْلِ الَّذِينَ يَتَكَلَّمُونَ ضِدَّهُمْ، وَيَأْتُونَ بِأَعْمَالٍ مُعَادِيَةٍ لَهُمْ. فَوَاجِبُنَا أَنْ نُظْهِرَ مَحَبَّتَنَا لَهُمْ بِأَنْ نُصَلِّيَ مِنْ أَجْلِهِمْ. وَهَذَا لَيْسَ أَمْرًا طَبِيعِيًّا، لِذَلِكَ نَحْنُ بِحَاجَةٍ إِلَى اللَّهِ كَيْ يُمَنِّحَنَا القُوَّةَ لِنُحِبَّ كَمَا هُوَ يُحِبُّ، بَدَلَ الِانْتِقَامِ، وَنَغْلِبَ الشَّرَّ بِالخَيْرِ، وَذَلِكَ مِنْ خِلَالِ مَحَبَّةِ أَعْدَائِنَا وَالصَّلَاةِ لأَجْلِهِمْ، كَمَا صَلَّى يَسُوعُ المَسِيحُ وَهُوَ عَلَى الصَّلِيبِ لِأَجْلِ السَّاخِرِينَ مِنْهُ: "يَا أَبَتِ، اغْفِرْ لَهُمْ، لِأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ مَا يَفْعَلُونَ" (لُوقَا 23: 34). وَهُنَا يَتَسَاءَلُ البَابَا فِرَنْسِيسُ: "إِنْ كُنْتُ لَا أَقُومُ بِهَذِهِ الأُمُورِ الأَرْبَعَةِ، أَيْ إِنْ كُنْتُ لَا أُحِبُّ أَعْدَائِي، وَلَا أَصْنَعُ الخَيْرَ لِلَّذِينَ يَكْرَهُونَنِي، وَلَا أُبَارِكُ لَاعِنِيَّ، وَلَا أُصَلِّي مِنْ أَجْلِ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَيَّ، فَهَلْ أَكُونُ مَسِيحِيًّا؟"

 

29 مَن ضَرَبَكَ على خَدِّكَ فاعْرِضْ لَه الآخَر. ومَنِ انتَزَعَ مِنكَ رِداءكَ فَلا تَمنَعْه قَميصَك

 

تُشِيرُ عِبَارَةُ "مَن ضَرَبَكَ" إِلَى مَثَلٍ عَلَى الأَذَى الشَّخْصِيِّ وَجَرْحِ الكَرَامَةِ. يَشِيرُ يَسُوعُ بِذَلِكَ إِلَى أُولَئِكَ الَّذِينَ اعْتَدَوْا عَلَيْنَا وَظَلَمُونَا بِمُمَارَسَةِ البَطْشِ وَأَسَاؤُوا إِلَيْنَا؛ أُولَئِكَ هُمُ الَّذِينَ يَتَوَعَّدُونَنَا بِالشَّرِّ وَيُهِينُونَنَا. وَيَسُوعُ كَانَ أَوَّلَ قُدْوَةٍ لَنَا فِي ذَلِكَ، كَمَا تَنَبَّأَ عَنْهُ أِشَعْيَا النَّبِيُّ قَائِلًا: "أَسْلَمْتُ ظَهْرِي لِلضَّارِبِينَ، وَخَدِّي لِلنَّاتِفِينَ، وَلَمْ أَسْتُرْ وَجْهِي عَنِ الإِهَانَاتِ وَالبُصَاقِ" (إِشَعْيَا 50: 6). فَكَمَا أَنَّ المَسِيحَ تَأَلَّمَ لِلدُّخُولِ فِي مَجْدِهِ (لُوقَا 24: 26)، كَذَلِكَ لَا بُدَّ لِلمَسِيحِيِّ أَنْ يَرَى فِي الِاضْطِهَادِ عَلَامَةَ اقْتِرَابِ مَلَكُوتِ اللَّهِ.أَمَّا عِبَارَةُ "فَاعْرِضْ لَهُ الآخَرَ" فَتُشِيرُ إِلَى عَدَمِ الرَّدِّ بِالضَّرْبَةِ مِثْلَهَا، إِمَّا فَوْرًا وَشَخْصِيًّا، بَلِ التَّنَازُلَ عَنْ سَبَبِ الخِلَافِ وَالمُسَامَحَةَ وَتَحَمُّلَ ضَعْفِ الآخَرِينَ لأَجْلِ المَسِيحِ. وَهَذَا الأَمْرُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَفْعَلَهُ سِوَى مَنْ صَارَ فِي المَسِيحِ خَلِيقَةً جَدِيدَةً (2 قُورِنْتُس 5: 17). فَخَيْرٌ لِلإِنْسَانِ أَنْ يُحَوِّلَ لِمَنْ ضَرَبَهُ عَلَى أَحَدِ الخَدَّيْنِ الخَدَّ الثَّانِي مِنْ أَنْ يَنْتَقِمَ وَيُرَبِّيَ فِي قَلْبِهِ جَرَائِمَ الغَضَبِ وَالِانْتِقَامِ، فَالأَفْضَلُ أَنْ يَتْرُكَ النَّقْمَةَ لِلَّهِ وَلِلْحُكَّامِ. وَلَيْسَ المَفْهُومُ هُنَا عَدَمَ دِفَاعِ المَسِيحِيِّ عَنْ نَفْسِهِ، وَجَعْلِ المَظْلُومِ فَرِيسَةً لِلظَّالِمِ، بَلْ أَنْ يَحْتَمِلَ الآخَرَ قَدْرَ اسْتِطَاعَتِهِ وَبِمَحَبَّةٍ كَيْ يَرْبَحَهُ لِلمَسِيحِ. فَالمَطْلُوبُ مِنَ المَسِيحِيِّ أَنْ يَكُونَ رَدُّهُ بِوَدَاعَةٍ وَلُطْفٍ وَحِكْمَةٍ، اِقْتِدَاءً بِيَسُوعَ المَسِيحِ الَّذِي لَمْ يَحْتَمِلِ الشَّرَّ، بَلْ قَاوَمَهُ بِكَلَامِهِ، كَمَا حَدَثَ حِينَ ضَرَبَهُ الخَادِمُ أَمَامَ رَئِيسِ الكَهَنَةِ، فَرَدَّ عَلَيْهِ يَسُوعُ قَائِلًا: "إِنْ كُنتُ أَخْطَأْتُ فِي الكَلَامِ، فَقُلْ لِي أَيْنَ الخَطَأُ؟ وَإِنْ كُنتُ أَصَبْتُ، فَلِمَاذَا تَضْرِبُنِي؟" (يُوحَنَّا 18: 23). وَهَكَذَا فَعَلَ بُولُسُ الرَّسُولُ، عِنْدَمَا أَمَرَ حَنَنِيَا عَظِيمُ الكَهَنَةِ الَّذِينَ بِجَانِبِهِ بِأَنْ يَضْرِبُوا بُولُسَ عَلَى فَمِهِ، فَقَالَ لَهُ بُولُسُ: "سَيَضْرِبُكَ اللَّهُ، أَيُّهَا الحَائِطُ المُكَلَّسُ، أَتَجْلِسُ لِمُحَاكَمَتِي بِسُنَّةِ الشَّرِيعَةِ، وَتُخَالِفُ الشَّرِيعَةَ فَتَأْمُرُ بِضَرْبِي؟" (أَعْمَالُ الرُّسُلِ 23: 2-3). وَهَكَذَا فَعَلَ الرُّسُلُ أَيْضًا وَالمَسِيحِيُّونَ فِي كُلِّ عَصْرٍ. فَكُلُّ مَوْقِفٍ لَهُ رَدُّ فِعْلٍ، وَلَكِنَّ المَفْهُومَ العَامَّ هُوَ أَنْ نَحْتَمِلَ ضَعْفَ الآخَرِينَ لأَجْلِ المَسِيحِ، وَنُحَاوِلَ جَذْبَهُمْ إِلَى السَّلَامِ وَنَحْيَا نَحْنُ فِي سَلَامٍ. وَيَضَعُ المَسِيحُ هُنَا حِكْمَةً ذَهَبِيَّةً:
"
كَمَا تُرِيدُونَ أَنْ يُعَامِلَكُمُ النَّاسُ، فَكَذَلِكَ عَامِلُوهُمْ" (لُوقَا 6: 31). فَالمَطْلُوبُ أَلَّا نَرُدَّ عَلَى إِخْوَتِنَا بِمِثْلِ مَا يَفْعَلُونَ بِنَا مِنْ شَرٍّ، بَلْ بِحَسَبِ مَا نُحِبُّ أَنْ يَفْعَلُوا هُمْ بِنَا. وَأَوْصَى يَسُوعُ بِعَدَمِ المُقَاوَمَةِ لِلشَّرِّ، لِأَنَّهُ هُوَ نَفْسُهُ اِسْتَنْفَذَ كُلَّ عُقُوبَةٍ، وَقَوَّمَ كُلَّ خَطَأٍ، وَقَاسَى كُلَّ ثَأْرٍ وَكُلَّ عِقَابٍ، وَقَدَّمَ الخَلَاصَ بِمَوْتِهِ عَلَى الصَّلِيبِ. وَبِالتَّالِي، فَإِنَّ الثَّأْرَ يَكُونُ نُكْرَانًا لِعَمَلِ المَسِيحِ وَتَعْلِيمِهِ. لِذَا يَجِبُ أَنْ نُحْسِنَ إِلَى مَنْ يُسِيئُونَ إِلَيْنَا، وَأَنْ نُحِبَّ وَنَغْفِرَ لَهُمْ وَنُصَلِّيَ مِنْ أَجْلِهِمْ. وَيُفَسِّرُ بُولُسُ الرَّسُولُ هَذِهِ الآيَةَ بِقَوْلِهِ: "فِي كُلِّ حَالٍ، فَإِنَّهُ مِنَ الخَسَارَةِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَكُمْ دَعَاوٍ. فَلِمَاذَا لَا تُفَضِّلُونَ احْتِمَالَ الظُّلْمِ؟ وَلِمَاذَا لَا تُفَضِّلُونَ احْتِمَالَ السَّلْبِ؟" (1 قُورِنْتُس 6: 7). فَيُعَلِّمُنَا يَسُوعُ هُنَا مَبْدَأً جَوْهَرِيًّا، وَهُوَ أَنَّ أَفْضَلَ طَرِيقٍ لِمُقَاوَمَةِ شَرِّ العَالَمِ لَيْسَ المُدَافَعَةُ القَوِيَّةُ، بَلِ احْتِمَالُهُ بِالحِكْمَةِ المَسِيحِيَّةِ. فَإِنَّ مَنْ يَحْتَمِلُ الظُّلْمَ إِكْرَامًا لِلمَسِيحِ وَلِأَجْلِ غَايَاتٍ رُوحِيَّةٍ يُظْهِرُ القُوَّةَ الحَقِيقِيَّةَ، لَا الجُبْنَ وَلَا الضَّعْفَ. فالعَفْوُ عِنْدَ المَقْدِرَةِ. أَمَّا عِبَارَةُ "فَلَا تَمْنَعْهُ قَمِيصَكَ" فَتُشِيرُ إِلَى مَا هُوَ أَشَدُّ الثِّيَابِ ضَرُورَةً، وَلَا يُنْزَعُ إِلَّا عَنِ الذِي يُبَاعُ كَعَبْدٍ، كَمَا فَعَلَ إِخْوَةُ يُوسُفَ مَعَهُ لَمَّا بَاعُوهُ لِلإِسْمَاعِيلِيِّينَ: "فَلَمَّا وَصَلَ يُوسُفُ إِلَى إِخْوَتِهِ، نَزَعُوا عَنْهُ قَمِيصَهُ" (تَكْوِين 37: 23). إِنَّ مَا يُطَالِبُ بِهِ يَسُوعُ بَاهِظٌ، وَمَعَ ذَلِكَ يَطْلُبُ يَسُوعُ أَنْ تَسِيرَ الأُمُورُ إِلَى النِّهَايَةِ، وَأَنْ يُعْطَى القَمِيصُ أَيْضًا كَتَبَرُّعٍ. فَالقَمِيصُ لَا يُؤْخَذُ مِنْ أَحَدٍ مَهْمَا كَانَتِ الظُّرُوفُ (خُرُوج 22: 26-27)، وَلَكِنَّنَا نُعْطِيهِ وَلَا نُفَكِّرُ فِي اسْتِرْدَادِهِ، وَنَعْتَبِرُهُ تَبَرُّعًا مِنَّا. وَهَكَذَا نَكْسِرُ الشَّرَّ. وَالمَسِيحُ يَنْهَى عَنْ مُخَاصَمَةِ الآخَرِينَ فِي المَحَاكِمِ عِنْدَمَا تَكُونُ الغَايَةُ مِنْ ذَلِكَ الِانْتِقَامَ وَلَيْسَ إِظْهَارَ الحَقِّ، كَمَا يُوصِي بُولُسُ الرَّسُولُ بِقَوْلِهِ: "فِي كُلِّ حَالٍ، فَإِنَّهُ مِنَ الخَسَارَةِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَكُمْ دَعَاوٍ. فَلِمَاذَا لَا تُفَضِّلُونَ احْتِمَالَ الظُّلْمِ؟ وَلِمَاذَا لَا تُفَضِّلُونَ احْتِمَالَ السَّلْبِ؟" (1 قُورِنْتُس 6: 7). وَمِنْ هَذَا المُنْطَلَقِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ رَفْعُ الدَّعَاوِي إِلَى المَحَاكِمِ عِنْدَمَا يَكُونُ الأَمْرُ مُهِمًّا وَالوَسَائِلُ الأُخْرَى لَا تُجْدِي نَفْعًا فِي الحُصُولِ عَلَى حُقُوقِنَا، بِشَرْطِ أَنْ نَرْفَعَهَا بُغْيَةَ الإِنْصَافِ، وَأَنْ نَرْتَضِي بِالمُصَالَحَةِ عَلَى شُرُوطٍ مُعْتَدِلَةٍ. فَخَيْرٌ لَنَا أَنْ نَخْسَرَ مَالَنَا مِنْ أَنْ تَخْسَرَ نُفُوسُنَا لِعَدَمِ مَحَبَّتِنَا. وَلَا تَعْنِي هَذِهِ الآيَةُ أَيْضًا عَدَمَ مُقَاوَمَةِ الشَّرِّ عَامَّةً، بَلْ عَلَيْنَا بِالأَحْرَى مُقَاوَمَةُ إِبْلِيسَ، كَمَا يُوصِي يَعْقُوبُ الرَّسُولُ: "قَاوِمُوا إِبْلِيسَ، يُوَلِّ عَنْكُمْ هَارِبًا" (يَعْقُوب 4: 7). وَكَذَلِكَ بُطْرُسُ الرَّسُولُ يُنَبِّهُ المُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ: "إِنَّ إِبْلِيسَ خَصْمَكُمْ كَالأَسَدِ الزَّائِرِ يَرُودُ فِي طَلَبِ فَرِيسَةٍ لَهُ، فَقَاوِمُوهُ رَاسِخِينَ فِي الإِيمَانِ" (1 بُطْرُس 5: 9). هَذِهِ الآيَةُ مُتَطَلَّبٌ شَدِيدُ الصُّعُوبَةِ، وَلَكِنْ، مَنْ يُؤْمِنُ بِكَلِمَةِ الرَّبِّ وَيَعِيشُهَا، يُعْطَى نِعْمَةَ رُوحِ اللَّهِ فِيهِ، كَمَا أَعْلَنَ بُولُسُ الرَّسُولُ: "أَمَا تَعْلَمُونَ أَنَّكُمْ هَيْكَلُ اللَّهِ، وَأَنَّ رُوحَ اللَّهِ حَالٌّ فِيكُمْ؟" (1 قُورِنْتُس 3: 16).

 

30  وكُلُّ مَن سَأَلَكَ فأَعطِه، ومَنِ اغتَصَبَ مالَكَ فلا تُطالِبْهُ به

 

تُشِيرُ عِبَارَةُ "كُلُّ مَن سَأَلَكَ فَأَعْطِهِ" إِلَى طَبِيعَةِ العَطَاءِ بِسَخَاءٍ، وَهُوَ مَا تُنَادِي بِهِ الشَّرِيعَةُ المُوسَوِيَّةُ، كَمَا جَاءَ فِي الكِتَابِ المُقَدَّسِ: "إِذَا كَانَ عِندَكَ فَقِيرٌ مِنْ إِخْوَتِكَ فِي إِحْدَى مُدُنِكَ، فِي أَرْضِكَ الَّتِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلَهُكَ إِيَّاهَا، فَلَا تُقَسِّ قَلْبَكَ وَلَا تَقْبِضْ يَدَكَ عَنْ أَخِيكَ الفَقِيرِ" (تَثْنِيَةُ الِاشْتِرَاعِ 15: 7). وَهُوَ المَوْقِفُ الإِيجَابِيُّ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يَتَّخِذَهُ المَسِيحِيُّ تُجَاهَ مَنْ يَسْأَلُهُ صَدَقَةً، فَيَجْعَلُ مِنْ صَدَقَتِهِ بِأَمْوَالِهِ كَنْزًا لَهُ فِي السَّمَاوَاتِ، كَمَا قَالَ سَيِّدُنَا المَسِيحُ: "بِيعُوا أَمْوَالَكُمْ وَتَصَدَّقُوا بِهَا، وَاجْعَلُوا لَكُمْ أَكْيَاسًا لَا تَبْلَى، وَكَنْزًا فِي السَّمَاوَاتِ لَا يَنْفَدُ، حَيْثُ لَا سَارِقٌ يَدْنُو وَلَا سُوسٌ يُفْسِدُ" (لُوقَا 12: 33). لَنْ يَسْتَطِيعَ الإِنْسَانُ القِيَامَ بِهَذَا العَمَلِ إِلَّا إِذَا اعْتَبَرَ كُلَّ شَيْءٍ نِفَايَةً، عَلَى غِرَارِ بُولُسَ الرَّسُولِ، الَّذِي قَالَ: "أَعُدُّ كُلَّ شَيْءٍ خُسْرَانًا مِنْ أَجْلِ المَعْرِفَةِ السَّامِيَةِ، مَعْرِفَةِ يَسُوعَ المَسِيحِ رَبِّي. مِنْ أَجْلِهِ خَسِرْتُ كُلَّ شَيْءٍ وَعَدَدْتُ كُلَّ شَيْءٍ نُفَايَةً لِأَرْبَحَ المَسِيحَ" (فِيلِبِّي 3: 8). فَمَهْمَا أَعْطَى الإِنْسَانُ، فَهُوَ أَفْضَلُ مِنَ الرَّفْضِ بِرُوحِ الغَضَبِ. فَصَدَقَاتُنَا يَجِبُ أَنْ تَكُونَ عَلَى مِقْدَارِ إِمْكَانِيَّاتِنَا، وَبِالنَّظَرِ إِلَى خَيْرِ مَنْ يَسْأَلُنَا إِيَّاهَا (2 تسالونيقي 3: 10). وَأَوَّلُ مَنْ يَسْتَحِقُّ العَطَاءَ هُمُ الأَرَامِلُ وَاليَتَامَى وَالعُمْيَانُ وَالعُرْجُ وَالمَرْضَى، كَمَا قَالَ المَسِيحُ: "لِأَنِّي جُعْتُ فَأَطْعَمْتُمُونِي، وَعَطِشْتُ فَسَقَيْتُمُونِي، وَكُنْتُ غَرِيبًا فَآوَيْتُمُونِي" (مَتَّى 25: 35). أَمَّا عِبَارَةُ "مَنِ اغْتَصَبَ مَالَكَ فَلَا تُطَالِبْهُ بِهِ" فَتُشِيرُ إِلَى عَدَمِ اسْتِخْدَامِ العُنْفِ تُجَاهَ الظُّلْمِ، فَالعُنْفُ لَا يُوَلِّدُ إِلَّا العُنْفَ، وَالمَحَبَّةُ هِيَ الرَّابِحَةُ فِي النِّهَايَةِ. فَحُبُّ الآخَرِ أَهَمُّ مِنْ حُبِّكَ لِمَالِكَ وَلِحَاجَتِكَ لِلْعَدَالَةِ، وَلِحَقِّكَ فِي التَّعْوِيضِ. إِنَّ الحُبَّ بِهَذَا المِقْيَاسِ يَعْنِي وَضْعَ الآخَرِ فَوْقَ كُلِّ ذَلِكَ، حَتَّى لَوْ كَانَ قَدْ أَضَرَّ بِكَ.  فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَسْمَحَ لِأَيِّ شَيْءٍ يَأْخُذُهُ أَوْ يَطْلُبُهُ الآخَرُ مِنْكَ أَنْ يَمْنَعَكَ مِنَ البَقَاءِ عَلَى عِلَاقَةٍ طَيِّبَةٍ مَعَهُ، وَأَنْ تُحِبَّهُ كَمَا هُوَ. أَمَّا الدِّفَاعُ عَنِ العُنْفِ بِالعُنْفِ فَلَا يَدُلُّ دَوْمًا عَلَى القُوَّةِ، وَعَدَمُ الدِّفَاعِ لَا يَعْنِي الخُنُوعَ. وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ أُوغُسْطِينُوسُ بِقَوْلِهِ: "إِنَّ رَبَّنَا يَمْنَعُ أَتْبَاعَهُ مِنَ الِالْتِجَاءِ إِلَى القَانُونِ فِي الأُمُورِ الزَّمَنِيَّةِ ضِدَّ الغَيْرِ." قَدْ يَبْدُو أَنَّ الَّذِينَ يَسِيرُونَ عَلَى وَصَايَا المَسِيحِ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى المُطَالَبَةِ بِحُقُوقِهِمْ وَالحُصُولِ عَلَى العَدَالَةِ، وَيَبْدُونَ خَاسِرِينَ، وَلَكِنْ فِي الوَاقِعِ، يُعْطَى هَؤُلَاءِ مِقْدَارًا مِنَ الحَيَاةِ المُتَمَيِّزَةِ وَالفَرِيدَةِ، حَيَاةٌ لَا يَعْرِفُهَا سِوَى مَنْ يُحِبُّ بِحَقٍّ. وَالمَحَبَّةُ مُرْتَبِطَةٌ بِالرَّحْمَةِ، وَالرَّحْمَةُ تَتَطَلَّبُ مِنَّا أَنْ نَتَعَامَلَ حَتَّى مَعَ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّهَا، اِقْتِدَاءً بِرَبِّنَا وَإِلَهِنَا السَّمَاوِيِّ: "لِأَنَّ الدَّيْنُونَةَ لَا رَحْمَةَ فِيهَا لِمَنْ لَمْ يَرْحَمْ، فَالرَّحْمَةُ تَسْتَخِفُّ بِالدَّيْنُونَةِ" (يَعْقُوب 2: 13). فَنَحْنُ نَرْحَمُ مَنْ فِي عُهْدَتِنَا لِكَيْ يَرْحَمَنَا اللَّهُ نَحْنُ الَّذِينَ فِي عُهْدَتِهِ. وَقَدِ اقْتَرَحَ يَسُوعُ أُسْلُوبًا جَدِيدًا لِمُقَابَلَةِ الظُّلْمِ، فَبَدَلًا مِنَ المُطَالَبَةِ بِالحُقُوقِ، يَطْلُبُ يَسُوعُ التَّسْلِيمَ بِهَا، وَيَعْنِي ذَلِكَ أَنَّ صُنْعَ العَدَالَةِ وَالرَّحْمَةِ أَهَمُّ مِنَ المُطَالَبَةِ بِهِمَا.

 

31 وكَما تُريدونَ أَن يُعامِلَكُمُ النَّاس فكذلِكَ عامِلُوهم"

 

 تُشِيرُ عِبَارَةُ "كَما تُرِيدُونَ أَنْ يُعَامِلَكُمُ النَّاسُ، فَكَذَلِكَ عَامِلُوهُمْ" فِي الأَصْلِ اليُونَانِيِّ καθὼς θέλετε ἵνα ποιῶσιν ὑμῖν οἱ ἄνθρωποι, ποιεῖτε αὐτοῖς ὁμοίως، وَمَعْنَاهَا: "كَمَا تُرِيدُونَ أَنْ يَفْعَلَ النَّاسُ بِكُمْ، افْعَلُوا بِهِمْ هَكَذَا". وَتُشَكِّلُ هَذِهِ العِبَارَةُ "القَاعِدَةَ الذَّهَبِيَّةَ" الَّتِي يَرَى فِيهَا مَتَّى الإِنْجِيلِيُّ مُلَخَّصَ الشَّرِيعَةِ وَالأَنْبِيَاءِ، كَمَا قَالَ: "فَكُلُّ مَا أَرَدْتُمْ أَنْ يَفْعَلَ النَّاسُ لَكُمْ، اِفْعَلُوهُ أَنْتُمْ لَهُمْ: هَذِهِ هِيَ الشَّرِيعَةُ وَالأَنْبِيَاءُ" (مَتَّى 7: 12). أَمَّا الشَّرِيعَةُ وَالأَنْبِيَاءُ فِي نَظَرِ لُوقَا الإِنْجِيلِيِّ، فَهِيَ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ نُبُوءَاتٌ تَتَحَقَّقُ فِي يَسُوعَ، كَمَا يُؤَكِّدُهَا السَّيِّدُ المَسِيحُ لِتِلْمِيذَي عِمَاوُسَ: "فَبَدَأَ مِنْ مُوسَى وَجَمِيعِ الأَنْبِيَاءِ يُفَسِّرُ لَهُمَا جَمِيعَ الكُتُبِ مَا يَخْتَصُّ بِهِ" (لُوقَا 24: 27). وَمِنْ هَذَا المُنْطَلَقِ، فَإِنَّ العِبَارَةَ تَعْنِي عَمَلَ الخَيْرِ لِلحُصُولِ عَلَى الخَيْرِ بِالمُقَابِلِ، وَلَكِنَّ يَسُوعَ يُضِيفُ إِلَيْهَا بُعْدًا جَدِيدًا، إِذْ يَجْعَلُ المُبَادَرَةَ إِلَى عَمَلِ الخَيْرِ لِلآخَرِينَ مُطْلَقَةً، بِلَا تَوَقُّعِ المُبَادَلَةِ، وَذَلِكَ اسْتِنَادًا إِلَى المَحَبَّةِ، كَيْ نَكُونَ عَلَى مُسْتَوَى الآبِ السَّمَاوِيِّ. فِي العَهْدِ القَدِيمِ، كَانَتْ هَذِهِ القَاعِدَةُ تُعْرَفُ بِالشَّكْلِ السَّلْبِيِّ، كَمَا قِيلَ فِي سِفْرِ طُوبِيَّا: "كُلُّ مَا تَكْرَهُهُ، لَا تَفْعَلْهُ بِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ" (طُوبِيَّا 4: 15). وَلَكِنَّ يَسُوعَ وَضَعَهَا فِي صِيغَةٍ إِيجَابِيَّةٍ، وَأَضْفَى عَلَيْهَا طَابِعًا جَدِيدًا، إِذْ يَطْلُبُ مِنَّا أَنْ نُبَادِرَ بِعَمَلِ الخَيْرِ، دُونَ تَوَقُّعِ أَيِّ مُقَابِلٍ، وَدُونَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي إِطَارِ المُبَادَلَةِ فَقَطْ. وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ كِيرِلُّسُ الكَبِيرُ عَلَى هَذِهِ القَاعِدَةِ قَائِلًا: "اعْتَمَدَ يَسُوعُ عَلَى غَرِيزَةِ مَحَبَّةِ النَّفْسِ حُكْمًا بَيْنَ النَّاسِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، فَأَمَرَ كُلَّ وَاحِدٍ أَنْ يَعْمَلَ لِلآخَرِينَ مَا يُرِيدُ مِنْهُمْ أَنْ يَعْمَلُوهُ لَهُ. فَإِذَا كُنَّا نُحِبُّ الآخَرِينَ أَنْ يُعَامِلُونَا بِالرَّحْمَةِ وَالشَّفَقَةِ، كَانَ وَاجِبًا عَلَيْنَا إِذَنْ أَنْ نُعَامِلَهُمْ بِالمِثْلِ." فَإِنَّهُ يُطَالِبُنَا لَا أَنْ نَرُدَّ مُعَامَلَةَ إِخْوَتِنَا بِالمِثْلِ، وَلَكِنْ أَنْ نُقَدِّمَ لَهُمْ مَا نَشْتَهِيهِ لأَنْفُسِنَا، بَغْضِّ النَّظَرِ عَمَّا يَفْعَلُونَهُ مَعَنَا. وَتُعْرَفُ هَذِهِ القَاعِدَةُ فِي العَالَمِ اليَهُودِيِّ وَالوَثَنِيِّ القَدِيمِ، وَلَكِنْ فِي صِيغَةٍ سَلْبِيَّةٍ: "لَا تَفْعَلْ بِالآخَرِينَ مَا لَا تُرِيدُ أَنْ يُفْعَلَ بِكَ." أَمَّا يَسُوعُ، فَقَدْ صَاغَهَا فِي صِيغَةٍ إِيجَابِيَّةٍ، جَاعِلًا إِيَّاهَا أَسَاسَ أَعْمَالِ الخَيْرِ وَالرَّحْمَةِ، وَهَذَا مَا يَصْنَعُهُ اللَّهُ مَعَنَا كُلَّ يَوْمٍ. وَإِذَا مَا تَمَّ الِالْتِزَامُ بِهَا، فَإِنَّهَا تَكْفِي بِمُفْرَدِهَا لِتَغْيِيرِ وَجْهِ العَائِلَةِ وَالمُجْتَمَعِ وَالبَشَرِيَّةِ.

 

32 فإِن أَحبَبتُم مَن يُحِبُّكم، فأَيُّ فَضْلٍ لَكُم؟ لأَنَّ الخَاطِئينَ أَنفُسَهُم يُحِبُّونَ مَن يُحِبُّهُم.

 

تُشِيرُ عِبَارَةُ "فَإِنْ أَحْبَبْتُمْ مَنْ يُحِبُّكُمْ" إِلَى دَعْوَةِ يَسُوعَ لِلنَّزَاهَةِ فِي المَحَبَّةِ، بِحَيْثُ لَا يَكُونُ الدَّافِعُ لَهَا تَوَقُّعَ مُكَافَأَةٍ مِنَ النَّاسِ، بَلْ الانْتِظَارُ لِلْمُكَافَأَةِ مِنَ اللَّهِ وَحْدَهُ، كَمَا قَالَ يَسُوعُ: "إِذَا صَنَعْتَ غَدَاءً أَوْ عَشَاءً، فَلَا تَدْعُ أَصْدِقَاءَكَ وَلَا إِخْوَتَكَ وَلَا أَقْرِبَاءَكَ وَلَا الجِيرَانَ الأَغْنِيَاءَ، لِئَلَّا يَدْعُوكَ هُمْ أَيْضًا فَتَنَالَ المُكَافَأَةَ عَلَى صَنِيعِكَ" (لُوقَا 14: 12). يُرِيدُ يَسُوعُ أَنْ تَكُونَ مَحَبَّتُنَا نَقِيَّةً وَصَادِقَةً، لَا تَنْتَظِرُ مُقَابِلًا مَادِّيًّا أَوْ مَعْنَوِيًّا، كَمَا يَفْعَلُ الآبُ السَّمَاوِيُّ مَعَ خَلِيقَتِهِ. أَمَّا عِبَارَةُ "فَأَيُّ" فَتُشِيرُ إِلَى اسْتِفْهَامٍ إِنْكَارِيٍّ، بِمَعْنَى: "لَا فَضْلَ لَكُمْ!" فَإِذَا كَانَ المَسِيحِيُّ لَا يُقَدِّمُ فِي المَحَبَّةِ أَكْثَرَ مِمَّا يُقَدِّمُهُ الخُطَاةُ، فَهُوَ لَمْ يَبْلُغِ المَقَامَ الَّذِي يَدْعُو إِلَيْهِ المَسِيحُ.  فَمَنْ يُحِبُّ مَنْ يُحِبُّهُ فَقَطْ، لَيْسَ لَهُ فَضْلٌ عِنْدَ المَسِيحِ، لأَنَّهُ لَمْ يُضِفْ شَيْئًا جَدِيدًا فِي سُلُوكِهِ عَنْ سُلُوكِ أَهْلِ العَالَمِ. فَالمُكَافَأَةُ فِي المَحَبَّةِ عَدْلٌ بَشَرِيٌّ، وَلَكِنَّ المَحَبَّةَ لِلَّذِينَ يُبْغِضُونَنَا هِيَ مَحَبَّةٌ إِلَهِيَّةٌ، وَأَمَّا مَنْ يَبْغَضُ مَنْ يُحِبُّهُ فَهُوَ يَتَبَعُ طَرِيقَ الشَّيْطَانِ. عِبَارَةُ "فَضْلٌ" فِي الأَصْلِ اليُونَانِيِّ (χάρις) تَعْنِي "هِبَةٌ أَوْ نِعْمَةٌ"، وَتُوحِي بِالإِحْسَانِ وَالْمَنِّ بِدُونِ مُقَابِلٍ، وهي تَتَكرَّر ثَلاثَ مرَّات على فَمِ يَسوع (لوقا 6: 32، 33، 34). وَفِي نَظَرِ لُوقَا الإِنْجِيلِيِّ، هَذِهِ الكَلِمَةُ تُشِيرُ إِلَى الحُظْوَةِ عِنْدَ اللَّهِ وَرِضَاهُ (لُوقَا 1: 30)، وَإِلَى نِعْمَةِ اللَّهِ تِجَاهَ الخُطَاةِ (لوقَا 17: 9). وَيُبَيِّنُ يَسُوعُ فِي إِنْجِيلِ لُوقَا أَنَّ فَضْلَ اللَّهِ لَا يَخْضَعُ لِحِسَابَاتِ البَشَرِ، بَلْ يَعُودُ إِلَى عَطَائِهِ المَجَّانِيِّ، كَمَا قَالَ: "أَلَا يَجُوزُ لِي أَنْ أَتَصَرَّفَ بِمَالِي كَمَا أَشَاءُ؟" (مَتَّى 20: 15). وَهَكَذَا، يُبَيِّنُ يَسُوعُ أَنَّ اللَّهَ يُكَافِئُ حُبَّنَا وَعَطَاءَنَا بِمِقْدَارٍ أَعْظَمَ، لِأَنَّ مُكَافَأَةَ اللَّهِ تَفُوقُ مَقَايِيسَ البَشَرِ، كَمَا وَرَدَ فِي إِنْجِيلِ مَتَّى، حَيْثُ يُسْتَخْدَمُ اللَّفْظُ القَانُونِيُّ (μισθός) بِمَعْنَى "الأَجْرُ"، وَهُوَ المُصْطَلَحُ المُسْتَخْدَمُ فِي جِبَايَةِ الضَّرَائِبِ وَالمُكَافَأَةِ (مَتَّى 5: 46). أَمَّا عِبَارَةُ "الخَاطِئِينَ"، فَتُشِيرُ إِلَى أُولَئِكَ الَّذِينَ يَتَعَدَّوْنَ شَرِيعَةَ اللَّهِ وَأَحْكَامَهَا. وَيَضْرِبُ يَسُوعُ مَثَلًا بِجَابِي الضَّرَائِبِ (العَشَّارِ الخَاطِئِ)، الَّذِي كَانَ يَسْرِقُ، وَيَتَعَامَلُ مَعَ أَعْدَاءِ أُمَّتِهِ (مَتَّى 9: 10-11). فَمَا الفَرْقُ إِذًا بَيْنَ الخَاطِئِ وَالمَسِيحِيِّ الَّذِي يَتَّبِعُ حَقًّا تَعَالِيمَ المَسِيحِ؟ وَمَا الفَرْقُ بَيْنَ العَشَّارِ وَالمَسِيحِيِّ، كَمَا يَسْأَلُ يَسُوعُ: "فَإِنْ أَحْبَبْتُمْ مَنْ يُحِبُّكُمْ، فَأَيُّ أَجْرٍ لَكُمْ؟ أَوَلَيْسَ الجُبَاةُ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ؟" (مَتَّى 5: 47). فَكَمْ بِالحَرِيِّ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مَحَبَّةُ المَسِيحِيِّ أَعْظَمَ، لِتَشْمَلَ حَتَّى أَعْدَاءَهُ، كَمَا أَوْصَانَا يَسُوعُ. فَيَجِبُ عَلَى تَلَامِيذِ المَسِيحِ أَنْ يُحِبُّوا بِطَرِيقَةٍ أَعْمَقَ وَأَقْوَى مِنْ أَهْلِ العَالَمِ، وَلَا يَقْتَصِرُوا فِي مَحَبَّتِهِمْ عَلَى أَصْدِقَائِهِمْ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يُحِبُّوا أَعْدَاءَهُمْ كَمَا يُحِبُّ العَشَّارُونَ أَحِبَّاءَهُمْ.

 

33 وإِن أَحسَنتُم إلى مَن يُحسِنُ إِليكُم، فأَيُّ فَضْلٍ لَكُم؟ لأَنَّ الخاطِئينَ أَنفُسَهُم يَفعَلونَ ذلك.

 

تشيرُ عبارةُ "أَحسَنتُم" إلى لفظةٍ أخلاقيةٍ استخدمها لوقا الإنجيليُّ بدلَ التحيةِ الواردةِ في إنجيلِ متّى: "إِنْ سَلَّمْتُم على إِخْوَانِكُم وَحْدَهُمْ، فَأَيَّ زِيادَةٍ فَعَلْتُمْ؟" (متّى 5: 47). أمّا عبارةُ "الخاطِئِينَ" فيستخدمُها لوقا بدلَ كلمةِ "الوثنيين" الواردةِ في متّى (5: 46-47)، لأنَّ إنجيلَهُ موجَّهٌ إلى الوثنيين. وأمّا عبارةُ "لأَنَّ الخاطِئِينَ أَنفُسَهُمْ يَفعَلُونَ ذلك" فتشيرُ إلى مقدرةِ الخطأةِ على العيشِ فيما بينَهُم عيشةَ تضامنٍ، تعودُ عليهم بالرِّبحِ والمَنْفَعَةِ من جهةٍ، وبالضَّرَرِ بمَصْلَحَةِ الآخَرِينَ من جهةٍ أُخرى. وأمّا يسوعُ فينصحُ صاحبَ الدَّعوةِ قائلًا: "إِذا صَنَعْتَ غَداءً أَو عَشاءً، فَلا تَدْعُ أَصْدِقاءَكَ وَلا إِخْوَتَكَ وَلا أَقرِباءَكَ وَلا الجِيرَانَ الأَغْنِياءَ، لِئَلَّا يَدْعُوكَ هُمْ أَيْضًا فَتَنَالَ المُكَافَأَةَ على صَنِيعِكَ" (لوقا 14: 12). يدعو يسوعُ تلاميذَهُ إلى السَّخاءِ في إعطاءِ الفُقَرَاءِ والنَّزاهةِ في عَمَلِ الخَيرِ. وإنَّ فكرةَ يسوعَ الأساسيَّةَ في الصَّدَقَةِ هي أنْ تكونَ شُمُولِيَّةً، أي أنْ تتجاوزَ الجَماعَةَ المُبْنِيَّةَ على أواصِرِ القُرْبَى (القَبِيلَةِ، العائِلَةِ، العِرْقِ، اللَّوْنِ، الدِّيانَةِ، والمَذْهَبِ).

 

34 وإِن أَقرَضتُم مَن تَرجُونَ أَن تَستَوفوا مِنه، فأَيُّ فَضْلٍ لَكُم؟ فهُناكَ خاطِئونَ يُقرِضونَ خاطِئينَ لِيَستَوفوا مِثلَ قَرْضِهم.

 

تشيرُ عبارةُ "أَقْرَضْتُمْ" إلى عَوَائِدِ اليهودِ، مثلَ عَوَائِدِ الأُمَمِ في القَرْضِ (متّى 25: 27). وكانتِ القُرُوضُ العِبْرَانِيَّةُ لأَجَلٍ قَصِيرِ الأَمَدِ، وكانتِ الشَّرِيعَةُ المُوسَوِيَّةُ تَفْرِضُ على العِبْرَانِيِّ أَنْ يُقْرِضَ أَخَاهُ الفَقِيرَ بِدُونِ رِبَا (خُرُوج 22: 25). لكنَّ يسوعَ يَدْعُونَا إلى التَّجَرُّدِ في دَعْوَتِنَا المَسِيحِيَّةِ، والابْتِعَادِ عن القَوْلِ:"أُعْطِي الآخَرَ اليَوْمَ لِكَيْ يُعْطِيَنِي غَدًا"، إذْ طَالَبَ تَلَامِيذَهُ قَائِلًا: "أَقْرِضُوا غَيْرَ رَاجِينَ عِوَضًا" (لوقا 6: 35).

 

35 ولكِن أَحِبُّوا أَعداءَكم، وأَحِسِنوا وأَقرِضوا غَيرَ راجينَ عِوَضاً، فيَكونَ أَجرُكم عَظيماً وتكونوا أَبناءَ العَلِيّ، لِأَنَّهُ هو يَلطُفُ بِناكِري الجَميلِ والأَشرار.

 

تشيرُ عبارةُ "أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ" إلى دَعْوَةِ يَسُوعَ إلى عَدَمِ الأَخْذِ بِالثَّأْرِ، بَلِ التَّغَلُّبِ على الشَّرِّ بِالخَيْرِ، وذلكَ بِمَحَبَّةِ أَعْدَائِنَا وَالصَّلَاةِ لأَجْلِهِمْ، لا بِالانْتِقَامِ مِنْهُمْ. يَدْعُونَا يَسُوعُ إلى حُبٍّ بِلا حُدُودٍ، وذلكَ أَنْ نُحِبَّ كَمَا يُحِبُّ اللهُ، وَأَنْ نَكُونَ عَلامَةَ حُبِّ الآبِ الَّذِي يُحِبُّ كُلَّ النَّاسِ حَتَّى أَعْدَاءَهُ، وذلكَ بِاتِّبَاعِ وَصِيَّةِ يَسُوعَ: "لا تُدِينُوا، لا تَحْكُمُوا، اغْفِرُوا، أَعْطُوا". فَلا أَعْدَاءَ لِلمَسِيحِيِّ، لِأَنَّهُ يَعْتَبِرُ كُلَّ وَاحِدٍ قَرِيبَهُ (لُوقَا 10: 20-37)، وَلِأَنَّهُ يَقْتَدِي بِالآبِ السَّمَاوِيِّ الَّذِي لا يُمَيِّزُ بَيْنَ الأَخْيَارِ وَالأَشْرَارِ حِينَ يُشْرِقُ شَمْسَهُ أَوْ يُرْسِلُ مَطَرَهُ (مَتَّى 5: 45). فَعِنْدَمَا يُحَافِظُ المَسِيحِيُّ على العَلَاقَةِ مَعَ العَدُوِّ، فَإِنَّهُ يَجِدُ نَفْسَهُ غَنِيًّا بِالحُبِّ الَّذِي يَجْعَلُ الحَيَاةَ حَقِيقِيَّةً وَأَبَدِيَّةً. فَإِذَا أَحْبَبْنَا أَعْدَاءَنَا، فَإِنَّنَا نُثْبِتُ أَنَّ يَسُوعَ هُوَ سَيِّدُ حَيَاتِنَا.أَمَّا عِبَارَةُ "أَحْسِنُوا وَأَقْرِضُوا غَيْرَ رَاجِينَ عِوَضًا" فَتُشِيرُ إِلَى حُبٍّ مُنَزَّهٍ عَنِ المَصْلَحَةِ وَحُبٍّ مَجَّانِيٍّ. إِنَّ مَا نُعْطِيهِ مِنْ مَالٍ لِلآخَرِينَ يَنْبَغِي أَنْ نَعْتَبِرَهُ هِبَةً أَوْ عَطِيَّةً مِنْ أَجْلِ اللهِ، وَلَيْسَ عَلَى سَبِيلِ التَّعَالِي أَوِ القَرْضِ. أَمَّا عِبَارَةُ "فَيَكُونَ أَجْرُكُمْ عَظِيمًا وَتَكُونُوا أَبْنَاءَ العَلِيِّ" فَتُشِيرُ إِلَى أُجْرَةِ التَّلَامِيذِ العَظِيمَةِ، وَهِيَ بُنُوَّتُهُمْ لِلهِ العَلِيِّ، وَهَذِهِ البُنُوَّةُ تُلْزِمُهُمْ الاقْتِدَاءَ بِأَبِيهِمُ السَّمَاوِيِّ.

 

 36 كونوا رُحَماءَ كما أَنَّ أَباكُم رَحيم.

 

تشيرُ عبارةُ "كُونُوا رُحَمَاءَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمْ رَحِيمٌ" إلى دَعْوَةٍ لِلتَّشَبُّهِ بِرَحْمَةِ اللهِ العُظْمَى. فَالرَّحْمَةُ الإِلَهِيَّةُ مَا هِيَ إِلَّا مَحَبَّةُ اللهِ الوَاسِعَةُ اللَّامُتَنَاهِيَةُ، الَّتِي تَسْعَى دَائِمًا إِلَى خَلَاصِ جَمِيعِ النَّاسِ مِنَ الخَطِيئَةِ وَمِنَ المَوْتِ، لِنَيْلِ الحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ. أَمَّا عِبَارَةُ "رُحَمَاءَ" فَتُشِيرُ إِلَى المُسَاهَمَةِ فِي آلَامِ الآخَرِينَ، وَمُشَارَكَتِهِمْ مُصَابَهُمْ، وَالشَّفَقَةِ عَلَيْهِمْ، وَالتَّعَاطُفِ مَعَهُمْ. وَبِكَلِمَةٍ أُخْرَى، أَنْ نُظْهِرَ تُجَاهَ الآخَرِينَ الحَنَانَ، وَالشَّفَقَةَ، وَالرَّأْفَةَ، وَالحِلْمَ، وَالطِّيبَةَ. يُعَلِّقُ البَابَا فِرَنْسِيس قَائِلًا: "إِذْ نِلْنَا المَغْفِرَةَ لِكَيْ نَغْفِرَ بِدَوْرِنَا، وَإِذْ لَمَسَتْنَا المَحَبَّةُ لِكَيْ نُعْطِيَ المَحَبَّةَ بِدُونِ أَنْ نَنْتَظِرَ أَنْ يَبْدَأَ الآخَرُونَ، وَإِذْ خُلِّصْنَا بِمَجَّانِيَّةٍ لِكَيْلَا نَبْحَثَ عَنْ أَيَّةِ مَصْلَحَةٍ فِي الخَيْرِ الَّذِي نَقُومُ بِهِ" (عِظَةُ 23/2/2020). أَمَّا عِبَارَةُ "أَبَاكُمْ رَحِيمٌ" فَتُشِيرُ إِلَى اللهِ الرَّحِيمِ، وَهُوَ تَعْبِيرٌ تَقْلِيدِيٌّ مِنْ تَعَابِيرِ العَهْدِ القَدِيمِ (خُرُوج 34:6، وَمَزْمُور 78: 37). بَيْنَمَا يَتَكَلَّمُ مَتَّى الإِنْجِيلِيُّ عَنْ كَمَالِ اللهِ: "كُونُوا أَنْتُمْ كَامِلِينَ، كَمَا أَنَّ أَبَاكُمُ السَّمَاوِيَّ كَامِلٌ" (مَتَّى 5: 48)، يَرَى القِدِّيسُ لُوقَا البَشِيرُ أَنَّ الكَمَالَ هُوَ المَحَبَّةُ الرَّحُومَةُ: أَنْ نَكُونَ كَامِلِينَ يَعْنِي أَنْ نَكُونَ رُحَمَاءَ. يَكْمُنُ الكَمَالُ فِي الرَّحْمَةِ، وَإِنْجِيلُهُ هُوَ إِنْجِيلُ الرَّحْمَةِ. وَالمَطْلُوبُ مِنَ التَّلَامِيذِ الكَمَالُ عَلَى مِثَالِ الآبِ السَّمَاوِيِّ، فَكَمَالُ التَّلَامِيذِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُطَابِقًا لِكَمَالِ اللهِ الرَّحِيمِ، الَّذِي يَشْمَلُ حُبَّهُ "الأَبْرَارَ وَالأَشْرَارَ" (مَتَّى 5: 45). وَيُظْهِرُ اللهُ رَحْمَتَهُ تُجَاهَ الشَّقَاءِ البَشَرِيِّ مُنْذُ البِدَايَةِ حَتَّى النِّهَايَةِ. وَعَلَى الإِنْسَانِ، بِدَوْرِهِ، أَنْ يُظْهِرَ رَحْمَةً نَحْوَ قَرِيبِهِ، تَمَثُّلًا بِخَالِقِهِ. وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ المُؤْمِنَ لَا يَبْلُغُ بِسُهُولَةٍ الكَمَالَ الَّذِي يُقَدِّمُهُ يَسُوعُ لَنَا، وَلَكِنَّ كَلَامَ الإِنْجِيلِ يَبْقَى لِلمُؤْمِنِ النُّورَ الَّذِي يُوَجِّهُ طَرِيقَهُ. يُرِيدُنَا الرَّبُّ أَنْ نَتَشَبَّهَ بِهِ، يُرِيدُ قُلُوبَنَا نَابِضَةً حُبًّا وَحَنَانًا، يُرِيدُ أَنْ تَكُونَ أَيْدِينَا مُبَارَكَةً لَدَى إِخْوَتِنَا. وَيُعَلِّقُ البَابَا فِرَنْسِيس قَائِلًا: "قَدْ يَقُولُ لِي أَحَدُكُمْ: "لَكِنَّ هَذَا الشَّخْصَ يُدَمِّرُنِي!" - أَمَّا أَنْتَ فَلَا يُمْكِنُكَ أَنْ تُدَمِّرَهُ لِأَنَّكَ لَا يُمْكِنُكَ أَنْ تَدْخُلَ فِي مَنْطِقِ المُتَّهِمِ الكَبِيرِ. وَلَكِنْ يَا أَبَتِي، أَنَا أَيْضًا أُرِيدُ أَنْ أَتَّهِمَ، -اتَّهِمْ نَفْسَكَ إِذًا، فَهَذَا الأَمْرُ سَيُفِيدُكَ، لِأَنَّ الاتِّهَامَ الشَّرْعِيَّ الوَحِيدَ الَّذِي نَمْلِكُهُ كَمَسِيحِيِّينَ هُوَ اتِّهَامُ أَنْفُسِنَا. أَمَّا تُجَاهَ الآخَرِينَ، فَلَا نَمْلِكُ إِلَّا الرَّحْمَةَ، لِأَنَّنَا أَبْنَاءُ الآبِ الَّذِي هُوَ رَحِيمٌ".  كُلُّ رَحْمَةٍ نُمَارِسُهَا تُجَاهَ الآخَرِينَ تَجْعَلُنَا نَفْهَمُ رَحْمَةَ الرَّبِّ تُجَاهَنَا. وَيُوصِي القِدِّيسُ إِسْحَاقُ السِّرْيَانِيُّ: "لِتَمِلْ دَفَّةُ مِيزَانِكَ إِلَى الرَّحْمَةِ دَوْمًا، حَتَّى تَشْعُرَ بِالرَّحْمَةِ الَّتِي يَكِنُّهَا اللهُ لِلعَالَمِ".

 

37 لا تَدينوا فَلا تُدانوا. لا تَحكُموا على أَحَدٍ فلا يُحكَمَ علَيكم. أُعْفُوا يُعْفَ عَنكم".

 

تشيرُ عبارةُ "لا تَدِينُوا" إلى عَدَمِ انْتِقَادِ عُيُوبِ النَّاسِ، وَالحُكْمِ القَاسِي بِلَا تَرَوٍّ وَبِمُحَابَاةٍ دُونَ مَحَبَّةٍ. إِنَّهُ نَوْعٌ مِنَ النَّقْدِ المُتَطَرِّفِ الَّذِي يَهْدِمُهُمْ. كَانَ اليَهُودُ يُشَدِّدُونَ الحُكْمَ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنَ الأُمَمِ، وَكَانَ الفَرِّيسِيُّونَ يَحْكُمُونَ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنْ أُمَّتِهِمْ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ بِلَا شَفَقَةٍ وَلَا مَحَبَّةٍ وَلَا عَدْلٍ، وَهُمْ عُمْيَانٌ عَنْ عُيُوبِ أَنْفُسِهِمْ. يُعَلِّقُ القِدِّيسُ يُوحَنَّا الذَّهَبِيُّ الفَمِ قَائِلًا: "إِنْ كَانَتِ الرَّحْمَةُ تَدْفَعُنَا لِلتَّشَبُّهِ بِاللهِ الرَّحِيمِ نَفْسِهِ، فَإِنَّنَا إِذَا طَلَبْنَا الرَّحْمَةَ يَلْزَمُنَا أَنْ نَرْحَمَ إِخْوَتَنَا وَلَا نَدِينَهُمْ". وَيَرَى الأَبُ يُومِين أَنَّ:" مَنْ يَدِينُ أَخَاهُ يَنْشَغِلُ بِخَطَايَا الغَيْرِ لَا بِخَطَايَاهُ". يَطْلُبُ يَسُوعُ مِنَّا أَنْ نَفْحَصَ حَيَاتَنَا بَدَلًا مِنْ أَنْ نَنْتَقِدَ الآخَرِينَ: " أَيُّهَا المُرَائِي، أَخْرِجِ الخَشَبَةَ مِنْ عَيْنِكَ أَوَّلًا، وَعِنْدَئِذٍ تُبْصِرُ فَتُخْرِجَ القَذَى مِنْ عَيْنِ أَخِيكَ" (مَتَّى 7: 5)، لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْنَا التَّحَقُّقُ أَوَّلًا مِنْ أَنَّنَا نَسْتَحِقُّ نَفْسَ النَّقْدِ قَبْلَ أَنْ نَشْرَعَ فِي انْتِقَادِ شَخْصٍ آخَرَ. وَفِي هَذَا الصَّدَدِ يَقُولُ بُولُسُ الرَّسُولُ: "فَلَا عُذْرَ لَكَ أَيًّا كُنْتَ، يَا مَنْ يَدِينُ، لِأَنَّكَ وَأَنْتَ تَدِينُ غَيْرَكَ تَحْكُمُ عَلَى نَفْسِكَ، فَإِنَّكَ تَعْمَلُ عَمَلَهُ، يَا مَنْ يَدِينُ" (رُومَة 2: 1). وَيُضِيفُ يَعْقُوبُ الرَّسُولُ سَبَبًا آخَرَ لِإِدَانَةِ الإِنْسَانِ نَفْسَهُ عِنْدَمَا يَدِينُ الآخَرِينَ، فَيَقُولُ: "إِنَّ الَّذِي يَقُولُ السُّوءَ عَلَى أَخِيهِ أَوْ يَدِينُ أَخَاهُ يَقُولُ السُّوءَ عَلَى الشَّرِيعَةِ وَيَدِينُ الشَّرِيعَةَ. فَإِذَا دِنْتَ الشَّرِيعَةَ لَمْ تَكُنْ لَهَا حَافِظًا، بَلْ دَيَّانًا. لَيْسَ هُنَاكَ إِلَّا مُشْتَرِعٌ وَاحِدٌ وَدَيَّانٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ القَادِرُ عَلَى أَنْ يُخَلِّصَ وَيُهْلِك. فَمَنْ أَنْتَ لِتَدِينَ القَرِيبَ؟ (يَعْقُوب 4: 11-12). وَلَكِنْ لَيْسَتْ عِبَارَةُ "لَا تَدِينُوا" مُطْلَقَةً ضِدَّ كُلِّ أَنْوَاعِ النَّقْدِ، بَلْ هِيَ دَعْوَةٌ لِلتَّمْيِيزِ، لَا لِلسَّلْبِيَّةِ. لَيْسَ لَنَا أَنْ نُحَاوِلَ تَحْدِيدَ المَسْؤُولِيَّاتِ فِي مَوَاقِفِنَا أَوْ سُلُوكِيَّاتِنَا إِزَاءَ الآخَرِينَ، بَلْ أَنْ نُعَامِلَ الجَمِيعَ بِمِلْءِ المَحَبَّةِ. وَيُؤَكِّدُ البَابَا فِرَنْسِيس: "إِنَّهُ مِنَ الخَطَإِ أَنْ نَدِينَ وَنَحْكُمَ عَلَى الأَخِ الَّذِي يُخْطِئُ، لِأَنَّ إِدَانَةَ الخَاطِئِ تَكْسِرُ رِبَاطَ الأُخُوَّةِ مَعَهُ وَتَحْتَقِرُ رَحْمَةَ اللهِ الَّذِي لَا يُرِيدُ التَّخَلِّيَ عَنْ أَيٍّ مِنْ أَبْنَائِهِ. فَوَاجِبُنَا يَقْتَضِي أَنْ نُعِيدَ كَرَامَةَ الِابْنِ إِلَى هَذَا الأَخِ وَنُرَافِقَهُ فِي مَسِيرَةِ التَّوْبَةِ". أَمَّا الدَّيْنُونَةُ الحَقَّةُ فَهِيَ مِنْ شُؤُونِ العَائِلَةِ وَالكَنِيسَةِ لِتَنْفِيذِ التَّأْدِيبِ الكَنَسِيِّ، كَمَا جَاءَ فِي تَعْلِيمِ بُولُسَ الرَّسُولِ: "أَمَّا عَلَيْكُمْ أَنْتُمْ أَنْ تَدِينُوا الَّذِينَ فِي دَاخِلِهَا؟ أَمَّا الَّذِينَ فِي خَارِجِهَا (غَيْرُ المَسِيحِيِّينَ) فَاللهُ هُوَ الَّذِي يَدِينُهُمْ. أَزِيلُوا الفَاسِدَ مِنْ بَيْنِكُمْ" (1 قُورِنْتُس 5: 12). وَيُعَلِّمُ بُولُسُ الرَّسُولُ أَيْضًا ضَرُورَةَ القُدْرَةِ عَلَى تَمْيِيزِ المُعَلِّمِينَ الكَذَبَةِ (1 قُورِنْتُس 7: 15-23). إِنَّ اللهَ هُوَ الدَّيَّانُ الأَعْلَى (1 قُورِنْتُس 4: 3-5)، فَلَا يُمْكِنُنَا أَنْ نَأْخُذَ مَكَانَهُ، لِأَنَّنَا لَا نَعْرِفُ قَلْبَ الإِنْسَانِ وَنَوَايَاهُ. ويُشَدِّدُ البَابَا فِرَنْسِيس: "عَلَى ضَرُورَةِ أَنْ يَغْفِرَ المَسِيحِيُّ لِلآخَرِينَ، لِأَنَّهُ نَالَ المَغْفِرَةَ بِدَوْرِهِ، وَهَذَا مَا نُصَلِّيهِ يَوْمِيًّا فِي صَلَاةِ "الأَبَانَا" (متى 6: 12، 14-15).

 

38 أَعطُوا تُعطَوا: سَتُعطَونَ في أَحضانِكُم كَيْلاً حَسَناً مَركوماً مُهَزْهَزاً طافِحاً، لِأنَّه يُكالُ لَكم بِما تَكيلون.

 

تشيرُ عبارةُ "أَعْطُوا" إلى السَّخَاءِ دُونَ التَّمْيِيزِ بَيْنَ مَنْ هُوَ فَاضِلٌ وَمَنْ لَيْسَ فَاضِلًا. فَلْيَكُنْ جَمِيعُ النَّاسِ مُتَسَاوِينَ فِي نَظَرِكَ، لِتُحِبَّهُمْ وَتَخْدِمَهُمْ، فَتَتَمَكَّنَ عِنْدَئِذٍ مِنْ حَثِّهِمْ جَمِيعًا عَلَى عَمَلِ الخَيْرِ. أَمَّا عِبَارَةُ "سَتُعْطَوْنَ فِي أَحْضَانِكُمْ كَيْلًا حَسَنًا مَرْكُومًا مُهَزْهَزًا طَافِحًا" فَتُشِيرُ إِلَى تَشْبِيهٍ مَجَازِيٍّ مَأْخُوذٍ مِمَّا اعْتَادُوا فِي كَيْلِ الحُبُوبِ وَكُلِّ أَوْصَافِ الكَيْلِ. وَيَدُلُّ هُنَا عَلَى كَمَالِ الثَّوَابِ لِلْمُحْسِنِينَ إِلَى الفُقَرَاءِ وَالمُحْتَاجِينَ. وَالمَعْنَى أَنَّ النَّاسَ يُعَامِلُونَكُمْ بِالقَوْلِ وَالعَمَلِ كَمَا تُعَامِلُونَهُمْ. فَإِنْ كُنْتُمْ بُخَلَاءَ عَلَى غَيْرِكُمْ، مُنْتَقِدِينَ أَعْمَالَهُمْ، كَانُوا عَلَيْكُمْ كَذَلِكَ. وَإِنْ كُنْتُمْ لُطَفَاءَ بِهِمْ، وَمُسَامِحِينَ لَهُمْ، وَكُرَمَاءَ، كَانُوا عَلَيْكُمْ كَذَلِكَ. وَلَكِنَّ لُوقَا يَقْصِدُ أَيْضًا غَايَةً أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّ عَطَاءَ اللهِ أَكْثَرُ مِمَّا نَسْتَحِقُّ، وَهُوَ يَعْرِفُ كَيْفَ يَكُونُ سَخِيًّا مَعَ الأَسْخِيَاءِ. أَمَّا عِبَارَةُ "كَيْلًا" فَتُشِيرُ إِلَى القِيَاسِ، وَهُنَا هُوَ مَجَازٌ فِي كَلَامِ النَّاسِ عَنِ الجَزَاءِ وَأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ، أَيِ التَّعَامُلِ فِي العَدْلِ وَالمُسَاوَاةِ. أَمَّا عِبَارَةُ "أَحْضَانِكُمْ" فَتُشِيرُ إِلَى ثِيَابِ اليَهُودِ الطَّوِيلَةِ الوَاسِعَةِ، حَتَّى يُمْكِنَ أَنْ يُوضَعَ فِي العِبِّ كَثِيرٌ مِنَ الحُبُوبِ، كَالقَمْحِ وَالشَّعِيرِ وَغَيْرِهَا (خُرُوج 4: 6-7). وَهِيَ يَوْمَئِذٍ تُشْبِهُ ثِيَابَ كَثِيرِينَ مِنْ أَهْلِ الشَّرْقِ، الَّذِينَ كَانُوا يَجْمَعُونَ الحُبُوبَ بِرَفْعِ ذَيْلِ رِدَائِهِمْ وَوَضْعِهَا فِيهِ، كَمَا جَاءَ فِي رِوَايَةِ بُوعَزَ وَرَاعُوثَ، إِذْ قَالَ بُوعَزُ لِرَاعُوثَ: "هَاتِي الرِّدَاءَ الَّذِي عَلَيْكِ وَأَمْسِكِيهِ" فَأَمْسَكَتْهُ، فَكَالَ لَهَا فِيهِ سِتَّةَ أَكْيَالِ شَعِيرٍ وَجَعَلَهَا عَلَيْهَا" (رَاعُوث 3: 15). أَمَّا عِبَارَةُ "مَرْكُومًا" فَتُشِيرُ إِلَى مَا فِيهِ مَلْبَدٌ وَمَضْغُوطٌ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضِهِ الآخَرِ. أَمَّا عِبَارَةُ "يُكَالُ لَكُمْ بِمَا تَكِيلُونَ" فَتُشِيرُ إِلَى مِكْيَالِ المَحَبَّةِ الَّتِي نُعْطِيهَا لِلآخَرِينَ، فَهُوَ يُقَرِّرُ كَيْفَ سَنُدَانُ، وَبِمِقْدَارِ مَا نُعْطِي الإِخْوَةَ نَنَالُ مِنَ اللهِ!

 

 

ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (لوقا 6: 27-38) 

   

اِنْطِلَاقًا مِنْ هَذِهِ المُلاحَظَاتِ حَوْلَ وَقَائِعِ النَّصِّ الإِنْجِيلِيِّ (لُوقَا 6: 27-38)، يُمْكِنُنَا أَنْ نَسْتَنْتِجَ أَنَّ النَّصَّ يَتَمَحْوَرُ فِي القِسْمِ الثَّانِي مِنْ عِظَةِ يَسُوعَ الكُبْرَى حَوْلَ مَوَاقِفَ إِنْجِيلِيَّةٍ أَسَاسِيَّةٍ، أَهَمُّهَا: مَحَبَّةُ الأَعْدَاءِ وَالرَّحْمَةُ لِلْجَمِيعِ.

 

1) مَحَبَّةُ الأَعْدَاءِ

 

دَاخِلَ عَالَمٍ لَا رَحْمَةَ فِيهِ، يَدْعُو المَسِيحُ إِلَى مَحَبَّةِ الأَعْدَاءِ، وَيُعَلِّقُ البَابَا فِرَنْسِيسُ: "هَذِهِ هِيَ ثَوْرَةُ يَسُوعَ، الثَّوْرَةُ الأَكْبَرُ فِي التَّارِيخِ: مِنَ العَدُوِّ الَّذِي يَنْبَغِي كُرْهُهُ إِلَى العَدُوِّ الَّذِي عَلَيْنَا أَنْ نُحِبَّهُ" (عِظَةُ 23/2/2020). فَمَنْ هُمْ أَعْدَاؤُنَا فِي نَظَرِهِ؟ لَا يَتَكَلَّمُ يَسُوعُ هُنَا فِي صُورَةٍ نَظَرِيَّةٍ، بَلْ وَاقِعِيَّةٍ، وَوَصَفَ هَؤُلَاءِ الأَعْدَاءَ بِالتَّفْصِيلِ بِقَوْلِهِ: هُمُ الَّذِينَ "يُبْغِضُونَكُمْ"، الَّذِينَ "يَلْعَنُونَكُمْ"، الَّذِينَ "يَفْتَرُونَ عَلَيْكُمْ"، الَّذِينَ "يَضْرِبُونَكُمْ"، الَّذِي "يَنْتَزِعُ رِدَاءَكَ"، الَّذِي "يَسْلُبُكَ"، هُمُ الَّذِينَ يُلْحِقُونَ بِكُمُ الأَذَى بِطَرِيقَةٍ أَوْ بِأُخْرَى، وَدَسَائِسُهُمْ لَا تَعْرِفُ رَحْمَةً وَلَا شَفَقَةً. فَأَعْدَاؤُكَ هُمْ أَشْخَاصٌ يَرْفُضُونَكَ وَيَكْرَهُونَكَ وَيَحْتَقِرُونَكَ وَيَذْهَبُونَ لِأَبْعَدِ مَدًى لِإِيذَائِكَ عَاطِفِيًّا وَجَسَدِيًّا إِنْ أَمْكَنَهُمْ ذَلِكَ، أَعْدَاؤُكَ هُمُ الَّذِينَ يَسْعَدُونَ بِإِيذَائِكَ وَخِدَاعِكَ وَيَكْرَهُونَ الخَيْرَ لَكَ وَيَحْقِدُونَ عَلَيْكَ وَيُحَارِبُونَكَ طُولَ الوَقْتِ مِنْ ظَهْرِكَ وَفِي مُوَاجَهَتِكَ.

 

يُعْلِنُ المَسِيحُ لِلنَّاسِ وَصَايَاهُ: "أَنْ يُحِبُّوا مَنْ يَكْرَهُونَهُمْ، وَأَنْ يُبَارِكُوا مَنْ يَلْعَنُونَهُمْ، وَأَنْ يُصَلُّوا مِنْ أَجْلِ مُضْطَهِدِيهِمْ"، وَيَأْمُرُهُمْ بِالمُسَامَحَةِ الكَامِلَةِ. وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ أُوغُسْطِينُوسَ: "لَا تُفِيدُنَا الصَّلَاةُ مِنْ أَجْلِ الأَصْدِقَاءِ بِقَدْرِ مَا تَنْفَعُنَا لِأَجْلِ الأَعْدَاءِ. فَإِنْ صَلَّيْنَا مِنْ أَجْلِ الأَصْدِقَاءِ لَا نَكُونُ أَفْضَلَ مِنَ العَشَّارِينَ، أَمَّا إِنْ أَحْبَبْنَا أَعْدَاءَنَا وَصَلَّيْنَا مِنْ أَجْلِهِمْ فَنَكُونُ قَدْ شَابَهْنَا اللهَ فِي مَحَبَّتِهِ لِلْبَشَرِ". فَإِنْ أُصِيبَ الإِنْسَانُ فِي كَرَامَتِهِ - مَثَلًا بِالضَّرْبِ عَلَى الخَدِّ - يَنْبَغِي أَنْ يَسْتَعِدَّ لِاحْتِمَالِ أَكْثَرَ وَأَكْثَرَ مِنْ أَجْلِ كَسْبِ أَخِيهِ الَّذِي يُعَادِيهِ. وَإِذَا أُصِيبَ الإِنْسَانُ فِي مُمتَلَكَاتِهِ، عَلَيْهِ أَنْ يَحْمِلَ سِمَةَ سَيِّدِهِ يَسُوعَ المَسِيحِ، فَيَكُونَ مُحِبًّا لِلْعَطَاءِ أَكْثَرَ مِنَ الأَخْذِ، مَنْ يَسْأَلُهُ يُعْطِيهِ، وَمَنْ يُقْرِضُهُ لَا يُطَالِبُهُ بِرَدِّ الدَّيْنِ.

 

هَلْ مَنْطِقُ يَسُوعَ خَاسِرٌ؟ إِنَّهُ خَاسِرٌ فِي نَظَرِ العَالَمِ، وَلَكِنَّهُ رَابِحٌ فِي عَيْنَيِ اللهِ. لَقَدْ قَالَ لَنَا القِدِّيسُ بُولُسُ: "فَلَا يَخْدَعَنَّ أَحَدٌ نَفْسَهُ، لِأَنَّ حِكْمَةَ هَذَا العَالَمِ حَمَاقَةٌ عِندَ اللهِ" (1 قُورِنْتُس 18-19). يَطْلُبُ يَسُوعُ مِنَّا أَنْ نُحِبَّ الأَعْدَاءَ مِنْ خِلَالِ مَوَاقِفَ مَحْسُوسَةٍ وَوَاقِعِيَّةٍ: أَنْ نَرُدَّ العَدَاوَةَ بِالحُبِّ. هَذَا الحُبُّ يُتَرْجَمُ إِلَى عَمَلِ رَحْمَةٍ: "أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ"، "أَحْسِنُوا لَهُمْ"، "وَبَارِكُوهُمْ"، "وَصَلُّوا مِنْ أَجْلِهِمْ"، أَعْطُوهُمْ، لَا تُطَالِبُوهُمْ، "وَكَمَا تُرِيدُونَ أَنْ يُعَامِلَكُمُ النَّاسُ فَكَذَلِكَ عَامِلُوهُمْ". وَيُعَلِّقُ البَابَا فِرَنْسِيسُ: "إِنَّهَا الحَدَاثَةُ المَسِيحِيَّةُ، هِيَ الصَّلَاةُ وَالمَحَبَّةُ: هَذَا مَا يَنْبَغِي عَلَيْنَا فِعْلُهُ، وَلَيْسَ فَقَطْ تِجَاهَ مَنْ يُحِبُّنَا وَلَيْسَ فَقَطْ تِجَاهَ أَصْدِقَائِنَا وَلَيْسَ فَقَطْ تِجَاهَ شَعْبِنَا. لِأَنَّ مَحَبَّةَ يَسُوعَ لَا تَعْرِفُ الحَوَاجِزَ وَالحُدُودَ. إِنَّ الرَّبَّ يَطْلُبُ مِنَّا شَجَاعَةَ مَحَبَّةٍ بِلَا حِسَابَاتٍ، لِأَنَّ مِقْيَاسَ يَسُوعَ هُوَ المَحَبَّةُ بِلَا مِقْيَاسٍ" (عِظَةُ 23/2/2020).

 

لَكِنَّ مَحَبَّةُ الأَعْدَاءِ صَعْبٌ فِي المِعْيَارِ الإِنْسَانِيِّ المُبْنَى عَلَى الفِعْلِ وَرَدَّةِ الفِعْلِ، لَكِنَّهُ مُمْكِنٌ فِي المِعْيَارِ الإِنْجِيلِيِّ حَيْثُ لَا نَعْمَلُ لِوَحْدِنَا؛ إِنَّهَا نِعْمَةٌ يَنْبَغِي عَلَيْنَا أَنْ نَطْلُبَهَا وَنَقُولَ لِلرَّبِّ: "سَاعِدْنِي يَا رَبُّ لِكَيْ أُحِبَّ، عَلِّمْنِي أَنْ أَغْفِرَ. لَكِنَّنِي لَسْتُ قَادِرًا لِوَحْدِي، أَنَا بِحَاجَةٍ إِلَيْكَ".  نُلَاحِظُ هُنَا أَنَّ عَيْشَ الإِنْجِيلِ لَيْسَ سَهْلًا، وَطَرِيقَهُ لَيْسَ دَائِمًا مُفْرَشًا بِالوُرُودِ، فَهُوَ أَنْ نُقَابِلَ اللَّعْنَةَ بِالبَرَكَةِ، وَالحِقْدَ بِالحُبِّ، وَالكَرَاهِيَةَ بِالمَوَدَّةِ، وَالعُنْفَ بِاللِّينِ، وَالظُّلْمَ بِالرَّحْمَةِ. لَكِنْ لَا نَنْسَى أَنَّنَا أَبْنَاءُ اللهِ، وَلَنَا طَبِيعَةُ اللهِ. لِذَلِكَ قَدَّمَ لَنَا يَسُوعُ هَذِهِ الوَصَايَا. وَغَايَةُ هَذِهِ الوَصَايَا أَمْرَانِ: الِاقْتِدَاءُ بِالمَسِيحِ وَكَسْبُ الآخَرِ بِمَحَبَّةِ المَسِيحِ لِتَغْيِيرِهِ مِنْ عَدُوٍّ إِلَى صَدِيقٍ. وَيُعَلِّقُ أَحَدُ آبَاءِ الكَنِيسَةِ: "لَوْ لَمْ يَكُنْ شِرِّيرًا مَا كَانَ قَدْ صَارَ لَكُمْ عَدُوًّا. إِذًا، اشْتَهُوا لَهُ الخَيْرَ فَيَنْتَهِي شَرُّهُ، وَلَا يَعُودُ بَعْدُ عَدُوًّا لَكُمْ. إِنَّهُ عَدُوُّكُمْ لَا بِسَبَبِ طَبِيعَتِهِ البَشَرِيَّةِ، وَإِنَّمَا بِسَبَبِ خَطِيَّتِه".

 

وَيُقَدِّمُ لَنَا يُوحَنَّا الذَّهَبِيُّ الفَمِ تَدْرِيبَاتٍ رُوحِيَّةً لِكَيْ نَصِلَ إِلَى مَحَبَّةِ الأَعْدَاءِ، فَيَقُولُ: "مَنْ يُسِيءُ إِلَيَّ لَا أَرُدُّ لَهُ الإِسَاءَةَ، وَلَا أُفَكِّرُ فِي الِانْتِقَامِ. قَدْ وَرَدَ فِي الكِتَابِ: " قَالَ الرَّبُّ: لِيَ الِانْتِقَامُ وَأَنَا الَّذِي أُجَازِي (رُومَةَ 12: 19). أُصَلِّي مِنْ أَجْلِ المُسِيءِ إِلَيَّ، وَعِنْدَمَا أُصَلِّي مِنْ أَجْلِ المُسِيءِ كَيْ يَهْدِيَهُ الرَّبُّ، وَلِكَيْ أَهْدَأَ أَنَا أَيْضًا، وَيَقِلَّ غَضَبِي عَلَيْهِ، فَالصَّلَاةُ هُنَا لَهَا مَنْفَعَةٌ مُزْدَوِجَةٌ، مِنْ أَجْلِي وَمِنْ أَجْلِ المُسِيءِ إِلَيَّ. يُمْكِنُنِي أَنْ أُعَاتِبَ المُسِيءَ إِلَيَّ عَلَى إِسَاءَتِهِ بِلُطْفٍ فَتَنْتَهِي المُشْكِلَةُ، وَإِنْ لَمْ يَقْبَلِ العِتَابَ أَتْرُكُهُ بِدُونِ أَثَرٍ لِلزَّعَلِ. وَالمَسِيحُ لَهُ المَجْدُ عَاتَبَ مَنْ ضَرَبَهُ (مَتَّى 13: 37-39)".

 

ومثالنا في محبة الأعداء هو يسوع. فإنه تعرّض للأعداء كما صرّح "لم يُريدوني مَلِكاً علَيهم" (لوقا 19: 27). وقد سلّموه للموت، وهو، من فوق صليبه ومع ذلك غفر لهم "يا أَبَتِ اغفِرْ لَهم، لِأَنَّهُم لا يَعلَمونَ ما يَفعَلون"(لوقا 23: 34). ويعلق البابا "لم يوجّه يسوع إصبع الاتهام ضدّ الذين حكموا عليه ظلمًا وقتلوه بوحشية، ولكنه فتح لهم ذراعيه على الصليب، وسامح الذين صلبوه" (عظة 23/2/2020). وهكذا ينبغي أن يصنع التلميذ"، اقتداء بمعلمه الذي "شُتِمَ ولَم يَرُدَّ على الشَّتيمَةِ بِمِثلِها. تأَلَّمَ ولم يُهَدِّدْ أَحَدًا، بل أَسلَمَ أَمْرَه إلى مَن يَحكُمُ بِالعَدْل" (1 بطرس 2: 23). وقد سار إسطفانس أول الشهداء على خطى يسوع، إذ لمَّا أخذ الأعداء يرجمونه " سَجَدَ وصاحَ بأعلى صوتِهِ " يا ربّ، لا تَحسُبْ علَيهم هذهِ الخَطيئَة " (أعمال الرسل 7: 60). ولم يتردَّد بولس الرسول أن يصف خبرته "نُشتَمُ فنُبارِك، نُضطَهَدُ فنَحتَمِل، يُشَنَّعُ علَينا فنَرُدُّ بِالحُسْنى" (1 قورنتس 4: 12-13).

 

يطبّق المسيحي بتصرفه هذا مع عدوه وصيّة بولس الرسول: "لأَنَّكَ في عَمَلِكَ هذا تَرْكُمُ على هامَتِه جَمْرًا مُتَّقِدًا" (رومة 12: 20). وليس في الأمر انتقاماً؛ قد تتحوّل هذه النار إلى حب إذا ما تقبل العدوّ ذلك. فالإنسان الذي يحب عدوّه، يستهدف تحويله إلى صديق، ويتخذ الوسائل المؤدية لذلك بحكمة. ويعلق مارتن لوثر كنج "الحب هو الشيء الوحيد القادر على تحويل العدو إلى صديق". وقد سبقه الله في هذا المضمار" صالَحَنا اللهُ بِمَوتِ َابِنه ونَحنُ أَعداؤُه" (رومة 5: 10). الآب السماوي الذي سامح بأبنه يسوع كل شيء، يقدر أن يعلم أبناءه كيف يغلبون اللعنة بالغفران "المحبة لا تَحنَقُ ولا تُبالي بِالسُّوء" (1 قورنتس 13: 5) وبالمحبة "أَحِبُّوا أَعداءكم، وأَحسِنوا إلى مُبغِضيكُم" (لوقا 6: 27) وبالصفح " واصفَحوا بَعضُكم عن بَعضٍ إِذا كانَت لأَحَدٍ شَكْوى مِنَ الآخَر. فكما صَفَحَ عَنكُمُ الرَّبّ، اِصفَحوا أَنتُم أَيضًا" (قولسي 3: 13) وبالصلاة "صلُّوا مِن أَجْلِ المُفتَرينَ الكَذِبَ علَيكُم" (لوقا 6: 28) وهنا تمتزج المحبة بالعبادة؛ فنشتهي خلاص المسيئين إلينا وشركتهم معنا في المجد بالصلاة عنهم لتوبتهم.

 

لا يقدر المسيحي أن يلعن كما جاء في تعليم القديس بطرس الرسول "لا ترُدُّوا الشَّرَّ بِالشَّرّ والشَّتيمَةَ بِالشَّتيمَةَ، بل بارِكوا، لأَنَّكم إلى هذا دُعيتُم، لِتَرِثوا البَركة" (1 بطرس 3: 9). بالأحرى ينبغي على المسيحي أن يبارك لاعِنيه على مثال الرب (لوقا 6: 28). فالمسيح لم يأتِ ليلعن ويدين (يوحنا 3: 17) فهو بالعكس يحمل البركة. وخلال حياته لم يلعن أحداً ابدأ، لكنه لم يتردَّد على التفوه بالتهديدات والإنذارات والنبوءات المؤلمة للكتبة والفِرِّيسيُّينَ "الوَيلُ لَكم أَيُّها الكَتَبَةُ والفِرِّيسيُّونَ المُراؤون فإِنَّكم تُؤَدُّونَ عُشْرَ النَّعْنَع والشُّمْرَةِ والكَمُّون، بَعدَما أَهمَلتُم أَهَمَّ ما في الشَّريعة: العَدلَ والرَّحمَةَ والأَمانة " (متى 23: 23)، كما وجّه إنذارات لمدن الجليل غير المؤمنة "الوَيلُ لَكِ يا كُورَزين! الوَيلُ لَكِ يا بَيتَ صَيدا!" (متى 11: 20)، وتنبأ للإنسان الذي يُسلم ابن البشر "الوَيلُ لِذلِكَ الإِنسانِ الَّذي يُسلَمُ ابنُ الإِنسانِ عن يَدِه. فلَو لم يُولَدْ ذلكَ الإنسانُ لَكانَ خَيراً له" (متى 26: 24). ولن تظهر كلمة لعنة على شفتي يسوع إلاّ في مجيئه الأخير "يقولُ لِلَّذينَ عنِ الشِّمال: إِليكُم عَنِّي، أَيُّها المَلاعين، إلى النَّارِ الأَبَدِيَّةِ المُعدَّةِ لإِبليسَ وملائِكَتِه " (متى 25: 41).

 

تقوم رِبْحُ الآخَرِ بِمَحَبَّةِ المسيحِ على مَحَبَّةٍ شاملةٍ ومَجَّانِيَّةٍ وبِلا حُدُودٍ وَلا شُرُوطٍ. المَحَبَّةُ المسيحيَّةُ شاملةٌ، تَتَجَاوَزُ الجَماعَةَ المَبْنِيَّةَ على أَوَاصِرِ القُرْبَى الدَّمِ وَالعائِلَةِ، العَشِيرَةِ، القَبِيلَةِ، والعِرْقِ، والقَوْمِيَّةِ، وَالدِّينِ. والمَحَبَّةُ المسيحيَّةُ مَجَّانِيَّةٌ، لا تَقُومُ على الرِّبْحِ وَالمَنْفَعَةِ وَالمَصْلَحَةِ أَوْ على إِلْحَاقِ الضَّرَرِ بِمَصْلَحَةِ الآخَرِينَ. والمَحَبَّةُ المسيحيَّةُ أَخِيرًا هِيَ بِدُونِ حُدُودٍ، فَهِيَ تَتَخَطَّى جَمِيعَ السُّنَنِ النَّفْسِيَّةِ وَالاجْتِمَاعِيَّةِ الَّتِي هِيَ طَبِيعِيَّةٌ، وَهِيَ تُطَالُ جَمِيعَ البَشَرِ بِمَا فِيهِمُ الأَعْدَاءُ وَالخُصُومُ. إِنَّهَا رَحْمَةٌ مِنْ أَجْلِ المسيحِ، لا تَعْرِفُ حَدًّا وَلا تَضَعُ شَرْطًا.

 

مَطْلُوبٌ أَنْ تَنْمُوَ المَحَبَّةُ كَمًّا وَنَوْعًا. نَقْصِدُ "كَمًّا" بِأَنْ نُحَاوِلَ أَنْ نُحِبَّ كُلَّ يَوْمٍ أَشْخَاصًا أَكْثَرَ فَأَكْثَرَ فِي هَذَا العَالَمِ الوَاسِعِ، أَمَّا "نَوْعًا" فَنَقْصِدُ بِهَا أَنْ نُحِبَّ كَمَا يُحِبُّ اللهُ فَنَقْتَدِيَ بِالحُبِّ اللَّامَحْدُودِ وَأَنْ نَكُونَ عَلَامَةَ حُبِّ الآبِ الَّذِي يُحِبُّ كُلَّ النَّاسِ حَتَّى "أَعْدَائِهِ". وَفِي هَذَا الصَّدَدِ قَالَ العَلَّامَةُ أُوغُسْطِينُوس: "مَنَعَنَا اللهُ أَنْ نُحِبَّ الرَّذِيلَةَ الَّتِي فِي العَدُوِّ، بَلْ أَنْ نَرْتَبِطَ بِمَحَبَّةٍ طَبِيعِيَّةٍ مَعَهُ".

 

قَدْ يَعْتَرِضُ البَعْضُ بِقَوْلِهِ: "كَانَ المسيحُ إِلَهًا أَمَّا أَنَا فَإِنْسَانٌ ضَعِيفٌ". فَيُجِيبُ القِدِّيسُ كِيرِلُّسُ الأَوَّلُ: "أَيُّهَا الإِنْسَانُ، اِعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَمْ يُجَرِّدْكَ مِنْ رُوحِ رَأْفَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ، فَهُوَ بِجِوَارِكَ، لا بَلْ فِي دَاخِلِكَ، هُوَ فِيكَ بِالرُّوحِ القُدُسِ، لأَنَّنَا نَحْنُ مَسْكَنُهُ وَهُوَ يَسْكُنُ فِي نُفُوسِ مُحِبِّيهِ، هُوَ الَّذِي يُعَضِّدُكَ بِيَمِينِهِ، فَلا تَتَزَعْزَعْ، وَيُمْسِكُ بِكَ فَلا تَسْقُطَ". إِذًا: "لا تَدَعِ الشَّرَّ يَغْلِبُكَ، بَلِ اِغْلِبِ الشَّرَّ بِالخَيْرِ" (رُومَةَ 12: 21).

 

خُلاَصَةُ القَوْلِ: نَحْنُ أَمَامَ اِحْتِمَالَيْنِ مِنْ مَطَالِبِ الرَّبِّ: فَإِمَّا أَنْ نُعَادِيَ أَعْدَاءَنَا، وَبِالتَّالِي لا نَسْتَطِيعُ أَنْ نُطَبِّقَ وَصَايَا الرَّبِّ، لأَنَّنَا فِي هَذِهِ الحَالَةِ لا نُحِبُّ حَقًّا أَيَّ أَحَدٍ، بِاسْتِثْنَاءِ نُفُوسِنَا، وَإِمَّا نُحِبَّ أَعْدَاءَنَا كَنُفُوسِنَا، حَيْثُ نَضَعُ الآخَرَ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ وَلا نَسْمَحُ لِأَيِّ شَيْءٍ أَنْ يَمْنَعَنَا مِنَ البَقَاءِ عَلَى عَلاقَةٍ جَيِّدَةٍ مَعَ العَدُوِّ وَنُحِبَّهُ كَمَا هُوَ، لَكِنْ لا نُحِبُّ أَعْمَالَهُ الشِّرِّيرَةَ. اللهُ يُحِبُّ الإِنْسَانَ وَلَكِنَّهُ يَشْجُبُ الخَطِيئَةَ أَيْنَمَا وُجِدَتْ.

 

2) الرَّحْمَةُ

 

الرَّحْمَةُ مِنْ أَجْلِ المسيحِ مَا هِيَ إِلَّا المَحَبَّةُ المسيحيَّةُ لِوَجْهِ اللهِ. وَيَطْلُبُ يَسُوعُ مِنَّا الكَمَالَ: "فَكُونُوا أَنتُم كَامِلِينَ، كَمَا أَنَّ أَبَاكُمُ السَّمَاوِيَّ كَامِلٌ" (مَتَّى 5: 48). وَالكَمَالُ الَّذِي يَتَطَلَّبُ المسيحُ مِنْ تَلَامِيذِهِ يَقُومُ فِي إِبْدَاءِ الرَّحْمَةِ: "كُونُوا رُحَمَاءَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُم رَحِيمٌ" (لُوقَا 6: 36). يَطْلُبُ يَسُوعُ مِنَّا الرَّحْمَةَ مِنْ خِلَالِ مَوَاقِفَ مَحْسُوسَةٍ وَوَاقِعِيَّةٍ: "لا تَدِينُوا"، "لا تَحْكُمُوا عَلَى أَحَدٍ"، "أَعْفُوا".

 

الرَّحْمَةُ شَرْطٌ أَسَاسِيٌّ لِدُخُولِ مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ: "طُوبَى لِلرُّحَمَاءِ، فَإِنَّهُمْ يُرْحَمُونَ" (مَتَّى 5: 7). وَيُنَادِي يَسُوعُ بِالرَّحْمَةِ (مَتَّى 6: 13) مُرَدِّدًا كَلِمَاتِ هُوشَعَ النَّبِيِّ: "إِنِّي أُرِيدُ رَحْمَةً لاَ ذَبِيحَةً وَمَعْرِفَةَ اللَّهِ أَكْثَرَ مِنْ مُحْرَقَاتٍ" (هُوشَعَ 6: 6). وَهَذِهِ الرَّحْمَةُ تَجْعَلَنِي شَبِيهًا بِالسَّامِرِيِّ الصَّالِحِ (لُوقَا 10: 30-37)، قَرِيبًا مِنَ الشَّخْصِ البَائِسِ الَّذِي تَجْمَعُنِي بِهِ الصُّدْفَةُ، وَرَحِيمًا بِمَنْ يَكُونُ قَدْ أَسَاءَ إِلَيَّ، لِأَنَّ اللهَ قَدْ مَنَحَنِي رَحْمَتَهُ: "أَفَمَا كَانَ يَجِبُ عَلَيْكَ أَنْتَ أَيْضًا أَنْ تَرْحَمَ صَاحِبَكَ كَمَا رَحِمْتُكَ أَنَا؟" (مَتَّى 18: 33). فَالرَّحْمَةُ تَجْعَلُ البَشَرَ يَتَعَامَلُونَ كَمَا يَتَعَامَلُ اللهُ. وَلَكِنْ طَالَمَا الإِنْسَانُ يَسْعَى إِلَى العَمَلِ بِقُوَاهُ الذَّاتِيَّةِ بِدُونِ نِعْمَةِ اللهِ فَهُوَ عَاجِزٌ عَنِ الرَّحْمَةِ.

 

فِي الوَاقِعِ، مِنْ سِمَاتِ الإِنْسَانِ العَادِيِّ أَنَّهُ يُحِبُّ الَّذِينَ يُحِبُّونَهُ، وَيُقْرِضُ الَّذِينَ يَتَوَقَّعُ أَنْ يَسْتَرِدَّ مِنْهُمْ، أَيْ يَتَعَامَلُ بِالمِثْلِ. أَمَّا الإِنْسَانُ المسيحيُّ فَهُوَ الَّذِي يَتَّخِذُ مِنْ شَخْصِ يَسُوعَ المسيحِ مِثَالًا لَهُ فِي الرَّحْمَةِ وَالعَطَاءِ، لِأَنَّ الرَّبَّ يُنْعِمُ أَيْضًا عَلَى غَيْرِ الشَّاكِرِينَ وَالأَشْرَارِ. فَالمسيحيُّ تَمْتَدُّ مَحَبَّتُهُ فَتَشْمَلُ الأَعْدَاءَ، وَإِحْسَانُهُ يَشْمَلُ المُبْغِضِينَ، وَصَلاَتُهُ تُرْفَعُ لأَجْلِ المُسِيئِينَ إِلَيْهِ أَيْضًا. وَبِدَافِعٍ مِنْ هَذِهِ المَحَبَّةِ غَيْرِ المُحَدَّدَةِ، لا يَدِينُ أَخَاهُ، بَلْ يَغْفِرُ لَهُ، وَيَفْعَلُ الخَيْرَ وَهُوَ لا يَنْتَظِرُ شَيْئًا، وَلا يَحْكُمُ فِي أَحَدٍ، وَيُعْطِي بِسَخَاءٍ. فَسِلاَحُ المسيحيِّ هُوَ الرَّحْمَةُ وَالمَحَبَّةُ، بَدَلَ الشَّرِّ وَمُسَبِّبَاتِهِ: "أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ". فَالسِّلاَحُ الَّذِي يَسْتَعْمِلُهُ المسيحيُّ لِحَلِّ مَشَاكِلِهِ، لا صِلَةَ لَهُ بِالسِّلاَحِ الحَرْبِيِّ، بَلْ هُوَ سِلاَحُ الصَّلاَةِ وَالالتِجَاءِ إِلَى رَحْمَةِ اللهِ وَمَحَبَّتِهِ.

 

من هذا المُنْطَلَقِ، إنْ كانتِ الرَّحْمَةُ تَدْفَعُنا لِلتَّشَبُّهِ بِاللهِ الرَّحيمِ نَفْسِهِ، فَهِيَ تَلْزَمُنا أَنْ نَرْحَمَ إِخْوَتَنا وَلا نَدِينَهُمْ: "لا تَدينوا فَلا تُدانوا، لا تَحكُموا على أَحَدٍ فَلا يُحكَمَ عَلَيكم" (لوقا 6: 37).  فَمَنْ يَدِينُ أَخاهُ يَنْشَغِلُ بِخَطايا الغَيْرِ لا بِخَطاياهُ، وَيَفْقِدُ القُوَّةَ عَلى إِصْلاحِ نَفْسِهِ، مُتَطَلِّعًا عَلى الدَّوامِ نَحْوَ أَخِيهِ. لِذٰلِكَ يَقولُ المَسِيحُ: "أَيُّهَا المُرائي، أَخْرِجِ الخَشَبَةَ مِن عَيْنِكَ أَوَّلًا، وَعِندَئِذٍ تُبْصِرُ فَتُخْرِجُ القَذى مِن عَيْنِ أَخِيكَ" (متى 7: 5). وَيُؤَكِّدُ ذٰلِكَ قَوْلُ بُولُسَ الرَّسُولِ: "لا عُذْرَ لَكَ أَيًّا كُنْتَ، يا مَنْ يَدِينُ، لِأَنَّكَ وَأَنْتَ تَدِينُ غَيْرَكَ تَحْكُمُ عَلى نَفْسِكَ، فَإِنَّكَ تَعْمَلُ عَمَلَهُ، يا مَنْ يَدِينُ" (رومة 2: 1).

 

وَفِي قِصَّةِ المَرْأَةِ الزَّانِيَةِ، أَدَانَ يَسُوعُ الخَطِيئَةَ وَلا الإِنْسانَ، فَقَالَ لَهَا: "وأَنا لا أَحكُمُ عَلَيْكِ. اِذْهَبِي وَلا تَعُودِي بَعْدَ الآنَ إِلى الخَطِيئَةِ" (يوحنا ٨: ١١). فَيَدْعُونا يَسُوعُ إِلى كُرْهِ الخَطِيئَةِ وَمَحَبَّةِ الخاطِئِ.  هٰكَذَا سَوْفَ نُدانُ بِقَدْرِ الرَّحْمَةِ الَّتِي نَكُونُ أَظْهَرْناها لِشَخْصِ يَسُوعَ نَفْسِهِ، فِي الإِنْسانِ الجائِعِ وَالغَريبِ، وَالمَريضِ المَنْبُوذِ، وَلَوْ عَلى غَيْرِ عِلْمٍ مِنَّا، كَما جاءَ فِي تَعْلِيمِ يَسُوعَ عَنِ الدَّيْنُونَةِ العُظْمَى: "يُجيبُهُ الأَبْرارُ: "يا رَبّ، مَتَى رَأَيْناكَ جائِعًا فَأَطْعَمْناكَ، أَو عَطْشانَ فَسَقَيْناكَ؟ وَمَتَى رَأَيْناكَ غَريبًا فَآوَيْناكَ، أَو عُرْيانًا فَكَسَوْناكَ؟ وَمَتَى رَأَيْناكَ مَريضًا أَو سَجِينًا فَجِئْنا إِلَيْكَ؟) فَيُجيبُهُمُ المَلِكُ: الحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: كُلَّما صَنَعْتُمْ شَيْئًا مِنْ ذٰلِكَ لِواحِدٍ مِنْ إِخْوَتِي هٰؤُلاءِ الصِّغارِ، فَلِي قَدْ صَنَعْتُمُوهُ" (متى 25: 37-40).  لٰكِنَّ الغَضَبَ الإِلٰهِيَّ يَنْصَبُّ عَلى الَّذِينَ تَجَرَّدُوا مِنَ الرَّحْمَةِ، الَّذِينَ "لا فَهْمَ لَهُمْ وَلا وَفاءَ وَلا وُدَّ وَلا رَحْمَةَ" (رومة 1: 31).

 

بِمَا أَنَّ حُبَّ الآبِ السَّمَاوِيِّ يَحْيَا فِينَا، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِينَا بِفَضْلِ الرُّوحِ القُدُسِ، يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نُبْدِيَ المَحَبَّةَ وَالعَطْفَ (فيلبي 2: 1)، وَأَنْ يَكُونَ قَلْبُنَا عامِرًا بِالرَّحْمَةِ، كَما يُوصِينَا بُطْرُسُ الرَّسُولُ: "كُونُوا مُتَّفِقِينَ فِي الرَّأْيِ، مُشْفِقِينَ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ، مُتَحَابِّينَ كَالإِخْوَةِ، رُحَمَاءَ مُتَوَاضِعِينَ" (1 بطرس 3: 8). فَلا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نُغْلِقَ أَحْشاءَنا لِأَخٍ يَقَعُ فِي عَوْزٍ، لِأَنَّ مَحَبَّةَ اللهِ لا تَسْتَقِرُّ إِلَّا فِيمَنْ يُمَارِسُونَ الرَّحْمَةَ، كَما وَرَدَ فِي رِسَالَةِ يُوحَنَّا الحَبِيبِ: "مَنْ كانَتْ لَهُ خَيْرَاتُ الدُّنْيَا وَرَأَى بِأَخِيهِ حَاجَةً فَأَغْلَقَ أَحْشاءَهُ دُونَ أَخِيهِ، فَكَيْفَ تُقِيمُ فِيهِ مَحَبَّةُ اللهِ؟" (1 يوحنا 3: 17).

 

تَمْشِيًا مَعَ تَوْصِيَةِ يَسُوعَ بِالرَّحْمَةِ، أَعْلَنَ البَابَا بُولُسُ السَّادِسُ عَامَ 1965 عَنْ اِفْتِتَاحِ سَنَةِ رَحْمَةٍ فِي العَالَمِ كُلِّهِ، وَهٰكَذَا يَشْتَرِكُ مَسِيحِيُّو العَالَمِ بِالصَّلَاةِ وَطَلَبِ الرَّحْمَةِ، بِقَلْبٍ وَاحِدٍ، وَصَوْتٍ وَاحِدٍ. وَبِالمُنَاسَبَةِ طَلَبَ البَابَا الِاحْتِفَاظَ بِهٰذَا الأَحَدِ تَحْتَ اسْمِ "أَحَدِ الرَّحْمَةِ" قائلا: "أَبْوَابُ الكَنَائِسِ الآنَ مَفْتُوحَةٌ، فَبَقِيَ عَلَيْنَا أَنْ نَفْتَحَ قُلُوبَنَا لِرَحْمَةِ اللهِ وَمَحَبَّتِهِ، إِذْ اللهُ بِالذَّاتِ فَتَحَ قَلْبَهُ لَنَا، وَبِالأَخَصِّ لِكُلِّ خَاطِئٍ. هُوَ فَتَحَ لَنَا قَلْبَهُ، فَيَجِبُ عَلَيْنَا نَحْنُ أَنْ نَفْتَحَ لَهُ قُلُوبَنَا. يَجِبُ أَنْ يَحْدُثَ فِينَا تَغْيِيرٌ، يَجِبُ أَنْ يَحْدُثَ رُجُوعٌ إِلَى اللهِ".

 

 

الخُلاصَة

 

يتمحورُ النَّصُّ (لوقا 6: 27-38) عَلَى مَوَاقِفَ إِنْجِيلِيَّةٍ أَسَاسِيَّةٍ، أَهَمُّهَا: مَحَبَّةُ الأَعْدَاءِ وَالرَّحْمَةُ لِلْجَمِيعِ.

 

1. مَحَبَّةُ الأَعْدَاءِ - دَعْوَةٌ إِلَى الحُبِّ غَيْرِ المُشْرُوطِ: يَدْعُو يَسُوعُ تَلَامِيذَهُ إِلَى مَحَبَّةِ الأَعْدَاءِ، لَيْسَ فَقَطْ كَتَصَرُّفٍ أَخْلَاقِيٍّ سَامٍ، بَلْ كَوَسِيلَةٍ لِعَيْشِ رُوحِ الإِنْجِيلِ، حَيْثُ يَكُونُ الحُبُّ غَيْرَ مَحْدُودٍ وَغَيْرَ مُشْرُوطٍ. فَالمَحَبَّةُ الَّتِي يُوصِي بِهَا المَسِيحُ لا تَعْتَمِدُ عَلَى اِسْتِحْقَاقِ الآخَرِينَ، بَلْ تُمارَسُ كَمَا يَفْعَلُ الآبُ السَّمَاوِيُّ، الَّذِي يُشْرِقُ شَمْسَهُ عَلَى الأَبْرَارِ وَالأَشْرَارِ. فَهَذِهِ المَحَبَّةُ تَدْعُونَا إِلَى تَجَاوُزِ مَنْطِقِ العَالَمِ الَّذِي يَقُومُ عَلَى رَدِّ الإِسَاءَةِ بِالمِثْلِ، وَاسْتِبْدَالِهِ بِمَنْطِقِ النِّعْمَةِ وَالمُسَامَحَةِ.

 

2. الرَّحْمَةُ لِلْجَمِيعِ - التَّشَبُّهُ بِالآبِ السَّمَاوِيِّ: يُشَدِّدُ يَسُوعُ فِي هَذَا المَقْطَعِ عَلَى أَهَمِّيَّةِ الرَّحْمَةِ كَصِفَةٍ جَوْهَرِيَّةٍ فِي حَيَاةِ المُؤْمِنِ، إِذْ يَقُولُ: "كُونُوا رُحَمَاءَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمْ رَحِيمٌ" (لوقا 6: 36). الرَّحْمَةُ هُنَا لَيْسَتْ مُجَرَّدَ عَاطِفَةٍ، بَلْ أُسْلُوبُ حَيَاةٍ يَتَجَلَّى فِي التَّعَامُلِ اليَوْمِيِّ مَعَ الآخَرِينَ، بِغَضِّ النَّظَرِ عَنْ خَلْفِيَّاتِهِمْ أَوْ تَصَرُّفَاتِهِمْ تُجَاهَنَا. وَكَمَا أَنَّ اللهَ يُظْهِرُ رَحْمَتَهُ لِلْجَمِيعِ، هَكَذَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَوْقِفُنَا نَحْوَ الآخَرِينَ، فَنَحْنُ مَدْعُوُّونَ لِلرَّحْمَةِ بَدَلَ الإِدَانَةِ، وَلِلْغُفْرَانِ بَدَلَ الاِنْتِقَامِ، وَلِلْعَطَاءِ بِسَخَاءٍ.

 

3. نَبْذُ الإِدَانَةِ وَالتَّحَلِّي بِرُوحِ الغُفْرَانِ: يَطْلُبُ يَسُوعُ مِنْ تَلَامِيذِهِ عَدَمَ إِدَانَةِ الآخَرِينَ، لِأَنَّ الإِنْسَانَ غَيْرُ مُؤَهَّلٍ لِإِصْدَارِ الأَحْكَامِ عَلَى قَرِيبِهِ، إِذْ إِنَّ الإِدَانَةَ تَقُودُ إِلَى الكِبْرِيَاءِ وَالقَسْوَةِ. فِي المُقَابِلِ، يَدْعُونَا المَسِيحُ إِلَى مُمَارَسَةِ الغُفْرَانِ وَالعَفْوِ، لِأَنَّنَا نَحْنُ أَنْفُسُنَا بِأَمَسِّ الحَاجَةِ إِلَى رَحْمَةِ اللهِ. وَكَمَا عَلَّمَنَا فِي الصَّلَاةِ الرَّبِّيَّةِ: "أَعْفِنَا مِمَّا عَلَيْنَا، فَقَدْ أَعْفَيْنَا نَحْنُ أَيْضًا مَنْ لَنَا عَلَيْهِ (متى 6: 12).

 

4. العَطَاءُ بِسَخَاءٍ - مَنْطِقُ مَلَكُوتِ اللهِ: يُؤَكِّدُ يَسُوعُ عَلَى مَبْدَإِ العَطَاءِ السَّخِيِّ، الَّذِي لا يَتَوَقَّفُ عِنْدَ حُدُودِ البَشَرِ، بَلْ يَمْتَدُّ لِيَشْمَلَ عِلَاقَةَ الإِنْسَانِ بِاللهِ. فَيَقُولُ: "أَعْطُوا تُعْطَوْا، سَتُعْطَوْنَ فِي أَحْضَانِكُمْ كَيْلًا حَسَنًا، مَرْكُومًا، مَهْزُوزًا، طَافِحًا" (لوقا 6: 38). هَذَا المَبْدَأُ يُذَكِّرُنَا بِأَنَّ اللهَ لا يُكَافِئُنَا حَسَبَ مَقَايِيسِ البَشَرِ، بَلْ بِسَخَاءِ يَفُوقُ تَوَقُّعَاتِنَا. فَكُلُّ عَطَاءٍ نُمارِسُهُ بِرُوحِ المَحَبَّةِ يَقُودُ إِلَى بَرَكَةٍ مُضَاعَفَةٍ، لَيْسَ فَقَطْ مَادِّيًّا، بَلْ رُوحِيًّا أَيْضًا.

 

5. المِقْيَاسُ الإِلٰهِيُّ فِي التَّعَامُلِ مَعَ الآخَرِينَ: يُنْهِي يَسُوعُ هَذَا المَقْطَعَ بِتَحْدِيدِ قَاعِدَةٍ ذَهَبِيَّةٍ لِلتَّعَامُلِ مَعَ الآخَرِينَ، حَيْثُ يَقُولُ: "بِمَا تَكِيلُونَ يُكَالُ لَكُمْ" (لوقا ٦: ٣٨). فَطَرِيقَةُ تَعَامُلِنَا مَعَ الآخَرِينَ سَوْفَ تَنْعَكِسُ عَلَيْنَا، لِأَنَّ اللهَ يَقِيسُنَا بِنَفْسِ المِقْيَاسِ الَّذِي نَسْتَخْدِمُهُ مَعَ إِخْوَتِنَا. فَإِنْ تَعَامَلْنَا بِرَحْمَةٍ وَكَرَمٍ وَغُفْرَانٍ، سَيَنْعَكِسُ ذٰلِكَ عَلَيْنَا بِرَحْمَةِ اللهِ وَبَرَكَاتِهِ.

 

خُلاصَة القَول: يَدْعُونَا يَسُوعُ فِي هَذَا النَّصِّ إِلَى التَّمَثُّلِ بِهِ وَبِالآبِ السَّمَاوِيِّ فِي المَحَبَّةِ وَالرَّحْمَةِ وَالغُفْرَانِ وَالعَطَاءِ. فَمَلَكُوتُ اللهِ لا يَقُومُ عَلَى مَنْطِقِ العَالَمِ الَّذِي يَقْتَصِرُ عَلَى العَدَالَةِ البَشَرِيَّةِ، بَلْ عَلَى مَنْطِقِ النِّعْمَةِ الإِلٰهِيَّةِ الَّتِي تَدْعُونَا إِلَى تَجَاوُزِ ذَوَاتِنَا وَالعَيْشِ بِرُوحِ المَحَبَّةِ المَجَّانِيَّةِ.

 

 

دعاء

 

يا ربِّ، اِسْتَخْدِمْنِي لِسَلامِكَ،
فَأَضَعَ الحُبَّ حَيْثُ البُغْضُ،
وَالمَغْفِرَةَ حَيْثُ الإِسَاءَةُ،
وَالاتِّفَاقَ حَيْثُ الخِلَافُ،
وَالحَقِيقَةَ حَيْثُ الضَّلَالُ،
وَالإِيمَانَ حَيْثُ الشَّكُّ،
وَالرَّجَاءَ حَيْثُ اليَأْسُ،
وَالنُّورَ حَيْثُ الظُّلْمَةُ،
وَالفَرَحَ حَيْثُ الكَآبَةُ.

وَأَيُّهَا الرُّوحُ القُدُسُ،
اِشْفِ جِرَاحَنَا بِبَلْسَمِ حُبِّكَ الإِلٰهِيِّ. آمِين.

 

 

قصة: مَحبّة الأعْداء وضَابِطُ شُرْطَةٍ

 

اِنْتَقَلَ ضَابِطُ شُرْطَةٍ إِلَى قَرْيَةٍ نَائِيَةٍ، وَكَانَ قَلِقًا مِمَّا فِيهَا مِنْ عَائِلَتَيْنِ بَيْنَهُمَا ثَأْرٌ، يَتَرَبَّصَانِ بَعْضَهُمَا، سَعْيًا لِلاِنْتِقَامِ. لَمْ يَكُنْ مُسْتَعِدًّا لِأَنْ يَقْضِيَ كُلَّ وَقْتِهِ فِي تَحْقِيقَاتٍ لا تَنْتَهِي، فَفَكَّرَ فِي عَمَلِ مُصَالَحَةٍ بَيْنَ العَائِلَتَيْنِ. وَبِالفِعْلِ، ذَهَبَ إِلَى زَعِيمِ إِحْدَاهُمَا، وَالَّذِي اِسْتَقْبَلَهُ بِتَرْحَابٍ شَدِيدٍ. فَتَحَدَّثَ مَعَهُ عَنِ الصُّلْحِ لِتَفَادِي الخَسَائِرِ المُسْتَمِرَّةِ فِي الأَرْوَاحِ وَالأَمْوَالِ. وَافَقَ الرَّجُلُ، فَطَلَبَ مِنْهُ الضَّابِطُ الذَّهَابَ إِلَى زَعِيمِ العَائِلَةِ الأُخْرَى.

 

تَرَدَّدَ وَخَافَ، فَشَجَّعَهُ الضَّابِطُ وَحَثَّهُ أَنْ يُظْهِرَ شَجَاعَتَهُ وَيَكُونَ هُوَ الأَشْجَعَ وَالأَكْرَمَ. وَبِالفِعْلِ، ذَهَبَ مَعَهُ، فَشَعَرَ زَعِيمُ الأُسْرَةِ الأُخْرَى بِالحَرَجِ أَمَامَ الضَّابِطِ وَضَيْفِهِ. وَدَارَ حَدِيثٌ بَيْنَهُمَا عَنِ الصُّلْحِ، وَكَشَفَ كُلٌّ مِنْهُمَا لِلآخَرِ مَدَى خَسَارَتِهِ فِي الأَرْوَاحِ وَالأَمْوَالِ، فَتَعَهَّدَا بِالصُّلْحِ. طَلَبَ مِنْهُمُ الضَّابِطُ أَنْ يَخْرُجَا مَعًا وَيَسِيرَا فِي طُرُقَاتِ القَرْيَةِ، فَهَدَأَتِ النُّفُوسُ، وَتَرَكَتِ الأَيْدِي الأَسْلِحَةَ، وَاتَّجَهَتْ نَحْوَ العُمْرَانِ وَالخَيْرِ وَالسَّلَامِ.

 

عَرَفُوا قَدْرَ الضَّابِطِ وَحِكْمَتَهُ، إِذْ مَنَحَهُم فُرْصَةَ العَيْشِ فِي سَلَامٍ، فَقَرَّرُوا أَنْ يُبَادِلُوهُ حُبًّا بِحُبٍّ، وَيَعْمَلُوا عَلَى رَاحَتِهِ، وَأَنْ لا يَسْمَحُوا لأَحَدٍ أَنْ يُزْعِجَهُ. أَصْبَحُوا حُرَّاسًا عَلَى أَمْنِهِ وَسَكِينَتِهِ. وَجَدَ الضَّابِطُ الرَّاحَةَ، وَازْدَادَ إِيمَانًا بِأَنَّ المَحَبَّةَ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصْنَعَ الكَثِيرَ. وَتَلَقَّى التَّقْدِيرَ وَالمُكَافَأَةَ مِنْ رُؤَسَائِهِ، عِنْدَمَا وَجَدُوا الأَمْنَ مُسْتَقِرًّا تَمَامًا... أَعْطَاهُمُ السَّلَامَ... فَأَعْطَوْهُ الإِيمَانَ.

 

 

قصة: مَحَبَّة الأعَداء والدرَّة الثمينَة

 

كان لأبٍ ثلاثةُ أبناء، وكان يمتلكُ درَّةً ثمينةً جدًّا، فأراد أن يُقدِّمها لأحدهم، بشرط أن يقومَ بعملٍ إنسانيٍّ لا يستطيع أيُّ إنسانٍ آخر القيام به. وعندما عَلِمَ الأبناءُ بذلك، انطلق كلٌّ منهم في رحلةٍ بعيدة، واتَّفقوا على الرجوع بعد مُدَّةٍ مُحَدَّدة.

 

وبعد انقضاء المُهلة، عاد الأبناءُ إلى والدهم، ووقفوا أمامه، فسأل الأبُ الابنَ الأول قائلًا:

 

"ماذا فعلتَ في رحلتك؟"

 

فأجاب الابنُ الأولُ بحماسٍ: "ذهبتُ إلى بلدٍ بعيد، وعشتُ مع رجلٍ كريم، فأَحْسَنَ إليَّ، حتى وثِقَ بي وتركَ كلَّ ما يملك أمانةً في عُنقي، دونما شاهدٍ أو سندٍ أو كفالةٍ، فحفظتُ له مالَهُ حتى عاد، وسلَّمتُهُ إليه كما هو."

 

فقال الأب: "حَسَنًا فعلتَ، ولكنَّ هذا يفعله كثيرٌ من الناس الأُمَناء!"

 

ثم التفتَ إلى الابنِ الثاني وسأله:"وأنت، ماذا فعلتَ في رحلتك؟"

 

فقال الابنُ الثانيُ بفخرٍ: "كُنتُ سائرًا بجوارِ الشاطئ، وسمعتُ في مكانٍ ناءٍ صوتَ طفلٍ يصرخُ: (أنقذوني، إنني أغرق!). فأسرعتُ دون تردُّد، وألقيتُ بنفسي في البحر، وأنقذتُهُ من الغرق."

 

فقال الأبُ مُبتسمًا: "لقد فعلتَ أمرًا عظيمًا، ولكن هذا يفعله كلُّ إنسانٍ يحملُ في قلبه الرَّحمةَ والإنسانيةَ."

 

وأخيرًا، توجَّه إلى الابنِ الثالث، وسأله: "وأنت، ماذا فعلتَ في رحلتك؟"

 

فأجاب الابنُ الثالثُ بصوتٍ هادئٍ لكنَّه مُفعمٌ بالقوَّة: "كنتُ أسيرُ في الجبلِ باحثًا عن عملٍ أُؤدِّيه، فإذا بي أفاجأُ بألدِّ أعدائي يرعى الأغنامَ هناك، وكان نائمًا على حافَّة هوَّةٍ عظيمةٍ، وعلى وشكِ السقوطِ فيها ليلقى حتفَهُ. كانت هذه فرصتي الوحيدة لأتخلَّصَ منه، إمَّا بأن أدفعه في الحفرة، أو على الأقل أتركه يسقطُ بنفسه، ولكن حين أدركتُ أنَّ حياتهُ كلَّها في يدي، أَبَتْ نفسي أن أتركَهُ يموت. تحرَّكَت عواطفي على الفور، واندفعتُ إليه، وحملتُهُ من على حافَّة الهوَّة، وسِرتُ به إلى مكانٍ آمنٍ. وحين استيقظ، أدركَ ما كان سيحدثُ له لولا تدخُّلي، فتأثَّر بشدَّةٍ، وتعانقنا، وقال لي: (أنا على استعدادٍ لأن أُقدِّمَ لكَ كلَّ ما أملكَ في سبيل رضاكَ، فقد كنتُ بالأمسِ عدوَّكَ، وأصبحتُ اليومَ صديقَك المخلصَ!)."

 

عندها، ابتسمَ الأبُ بفخرٍ وقال له: "لقد فعلتَ أعظمَ ما يمكنُ أن يفعلهُ إنسانٌ، لأنَّكَ لم تكتفِ بمساعدةِ الغريب، بل أنقذتَ ألدَّ أعدائِكَ من الهلاكِ، وحوَّلته إلى صديقٍ. أنتَ تستحقُّ الدُّرَّةَ الثَّمينةَ."

 

العبرة من القصة: المحبَّةُ الحقيقيةُ ليست مُجرَّد عطاءٍ أو تضحياتٍ لأجلِ من نُحبُّ، بل تتجلَّى في محبَّةِ الأعداءِ، والغفرانِ لمن أساءَ إلينا، والتصرُّفِ بإنسانيةٍ حيثُ يختارُ الكثيرونَ الانتقامَ. فالمحبةُ قُوَّةٌ قادرةٌ على تحويلِ الأعداءِ إلى أصدقاءٍ، تمامًا كما علَّمنا السَّيِّدُ المسيحُ.