موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الجمعة، ٢٤ سبتمبر / أيلول ٢٠٢١

من ليس معنا فهو علينا

بقلم :
الأب منويل بدر - الأردن
الأب منويل بدر

الأب منويل بدر

 

الأحد السادس والعشرون (مر 9 : 38-43 ،45، 47-48)

 

ممّا لا شك فيه، أنّ اختلاف الشعوب وكثرة اللغات والدّيانات، باشرت بعد بلبلة برج بابل، فما عاد بين البشر رابط مُشترك يُوحِّدُهم، فلا شعب واحد، ولا لغة، ولا ثقافة ولا ديانة واحدة، بل صارت لغات وديانات وثقافات، فرّقت لا وحّدَتْ. بفقدان الوحدة المشتركة الأصليّة، فظهرت الإختلافات والمنافسات، بل وعدم القبول بالآخر، كما في إنجيل اليوم.

 

إنني أقدر أن أفهم إنفعال التّلاميذ، المذكور لثاني مرّة. المرّة الأولى كان انفعالهم ضد السّامريّين، الّذين منعوا يسوع أن يدخل مدينتهم، فطلبوا من سيّدهم أن يسمح لهم بإنزال نار من السّماء كي يحرقهم ويحرق مدينتهم (لو 54:9). والمرّة الثانية هي اليوم، ضدَّ رجل غريب لهم، كان يُحاول أن يطرد الشّياطين باسم سيِّدهم، فأرادوا أن يمنعوه، لأنّه ليس منهم، إذ لهم وحدهم أُعطيت السّلطة من سيِّدهم أن يطردوا الشّياطين. فمن ليس معنا فهو علينا. وهذا يقودنا إلى سؤالٍ أهمٍّ وأبعد: يا ترى مسكن مَن ستكون السّماء؟ هل هم فقط طبقة مُعيّنة، ومُميّزة بالمولد والدّين، كما كان الفريسيّون يعلِّمون أنّ السماء فقط لهم ولأبناء إبراهيم؟ هل السّماءُ مكان محجوز للكاثوليك فقط؟ هذا كان تفكير الرّسل. وهذا ما ادّعاه اللاهوتيُّ الكبير، توما الأكويني، حيث قال: لا خلاص خارجا عن الكنيسة الكاثوليكية! وهذا خطأ، إذا ما تذكّرنا ما قاله يسوع لإبني زبدى، اللّذين طلبا من يسوع أن يجلس أحدهما عن يمينه والثاني عن يساره، فقال: الجلوس عن يميني أو يساري هو مهمّة أبي الذي في السّموات.

 

فهل يا تُرى سيوافِقُهُم يسوع في تفكيرِهم، ويمنع هذا الشاب أيضا من صُنع العجائب باسمه؟ بالطّبع بعد سؤالٍ مهمٍّ ومُحرجٍ مثلِ هذا، حبسوا جميعُهم الأنفاس، والتفّوا بسرعة حوله، ليسمعوا ردّة الفعل عنده، فتصبح أساسَ تعامُلِهِم في المستقبل.

 

إخراج الشّياطين كان معروفاً عند كلِّ الشُّعوب وبكثرة، إذ الإعتقاد السّاذج كان يَنْسِبُ كلَّ تصرُّفٍ شاذٍّ، لتسلُّط الأرواح الشّرّيرة، التي يجب طردُها من النفس. إذن، فما هو موقف يسوع من هذه الأحوال؟ كيف سيجيبُ على سؤال التّلاميذ، إذ سؤالهم ينتظر فعلاً جواباً! هل سيكون جوابه عِبرةً ودرساً لنا ولتصرّفاتنا مع مَن يُخالفُنا في رأيِنا؟

 

جواب يسوع كان حلاًّ مُتّزِناً للطّرفين، ككفّة الميزان، لتلاميذه كما للشّاب الغريب. بجوابه: لا تمنعوه، يدعم يسوع الشاب في عمله الصالح، مهما كانت ديانته، إذ في كلِّ ديانة مبادئ صالحة، إن مارسها مُؤمنها، ستقوده إلى الخلاص. فهم ليس فقط تلاميذه الصالحين، بل كل البشر هم مخلوقين من أبيه، وهو يُحبُّهم. ففيهم، كما في تلاميذه، ولو هم لا يعترفون به، أُناس يعملون الخير. كثيرون هم الّذين لا ينتسبون إلى الكنيسة، لكنهم أيضا سيخلصون، بطُرُقٍ أخرى، إذ طرق الله الخلاصية كثيرة. فالسّماء ليست فقط للمُعمّدين، والمُدَّعين أنّهم مسيحيّين صالحين، بل هناك كثيرون غيرهم، سيصلون الخلاص، كما يقول كتاب الرؤيا، من كلِّ أُمَّةٍ وشعب على وجه الأرض: "بعد هذا نظرت وإذا جمعٌ كبير، لم يستطع أحد أن يُحصيه، من كلِّ الأُمم والقبائل والشّعوب والألسنة، واقفون أمام العرش وأمام الحمل، مُتسربلين بثيابٍ بيض، وفي أيديهم سعف النّخل، وهم يصرخون بصوتٍ عظيم قائلين: الخلاص لإلهنا الجالس على العرش وللحمل" (رؤيا 9:7). هذا وإن بولس يَعِزُ الخلاص، لا لاستحقاقٍ شخصي، بل للضمير، قبل ان يصل وحيُ الله للإنسان. لذا نقول: كلُّ ديانة فيها طريق يوصل إلى الله، فكما يقول المثل العامّي: كلُّ الطّرقِ تقودُ إلى روما. لكن هذا لا يعني، كما يفتكر الغاشِمون، أنّ كلَّ الدبانات واحدة. لكن المطلوب، هو احترام كلِّ ديانة. فكل مؤمن بديانته، عليه هو أن يفتّش عن الحقيقة. إذ البوذي سيحاكمه الله كبوذي، واليهودي كيهودي، والمسلم كمسلم، إذا ما وجدوا الحقيقة في دياناتهم هذه، وإلا فعليهم البحث عن الحقيقة في ديانة أُخرى. المهم أنّ كل مؤمن عليه أن يشعر بالراحة الداخلية تحت سقف بيت صلاته.

 

فهذا الشاب، المشكوك بأمره، بل المرفوض من التلاميذ، يُمثِّل، بالنسبة ليسوع، نقطة تحوُّلٍ لأفكار التّلاميذ ولنا، أن الله، هو خالق الجميع، ويحبُّ الجميع، ولا يشكُّ بوجود الخير في الإنسان، الذي أوكله على رعاية العالم وحمايته. وفي جميع أنحاء العالم، هناك خلائق تعبد الله وتخافه، وتتصرّف بحسب ضميرها وتمارس المحبّة باسمه، وإن كانت لا تعرف الوحي عنه بعد. إذ من أعطى المحتاج ولو كأس ماء، الحق أقول لكم، إن أجره لن يضيع. فهذا ما كان خفى على التلاميذ: أنَّ هناك مسيحيين كثيرين بالخفاء، ولو كانوا فعلا بوذيين أو يهود أو مسلمين: إذ أعمالهم هي تتبعهم أمام العرش السماوي. قال قديس: إن دخلنا السّماء، فسنستغرب من ثلاثة أشياء: أن أُناسا، افتكرنا أنهم في السّماء، ليسوا هناك. واناسا ما افتكرنا أنهم لن يدخلوا السّماء، هم هناك. لكن أكبر أستغراب، أننا نحن الآن في السّماء. فمن له أذنان سامعتان، فليسمع. آمين!