موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ٢٢ يوليو / تموز ٢٠٢١

من أين نشتري خبزًا ليأكل هؤلاء؟

بقلم :
الأب منويل بدر - الأردن
من أين نشتري خبزًا ليأكل هؤلاء?

من أين نشتري خبزًا ليأكل هؤلاء?

 

أنّ عجائب يسوع هي تشكيلة شاملة، منها الرّوحية(طرد الشياطين وغفران الخطايا)، ومنها الجسدية المحسوسة (قيامة الموتى وشفاء المرضى)، كذلك عجائب في الطبيعة (تسكين عواصف البحر وتحويل الماء الطبيعي إلى خمر) واليوم تكثير خمسة أرغلفة وسمكتين، لإشباع خمسة آلاف شخص وجمع 12 قُفّة إضافيّة. فهذه العجائب، إمّا إنها شعوذة، كما اتّهمه رؤوساء الكهنة، بأنه يصنعها بقوّة بعلزبول، رئيس الشياطين، الّذي كان باع نفسه له، حتي يصنع تلك العجائب، أو أنّه النّبيُّ المنتظر، الذي أعْطِيَت له كل سلطة في السّماء والأرض، حتى يقضي على الشرَ. فبين هذين الإحتمالين، لا ثالث لهما: إمّا معه أو عليه. أعجوبة اليوم، المعروفة بأُعجوبة تكثير الخبر، هي من اكبر العجائب المذكورة في الإنجيل، وهي مهمة، لأنها أساس أعجوبة أعظم سيصنعها يسوع، سيأكل منها ليس فقط خمسة آلاف شخص، بل خيز دائم لا ينضب لكل العالم والبشر، ويعطيهم حياة جديدة: هذا الخبز سيكون جسده، ومن يأكل من الخبز الذي سأعطيه، سيحيا إلى الأبد. وبما أنّ موضوع الخبز مهم، فسيكون موضوع الآحاد الثلاثة القادمة.

 

هذه الأعجوبة هي من أشهر عجائب التوراة ولكن من أكثر العجائب المشكوك فيها، إذ لا نستطيع أن نتخيّل كيف أن قطعة خبز وبقلبها شريحة سمك، تتكاثر في الأيادي. قد نقول هذا مُحتمل وليس من عالم المستحيلات. خاصة وأنها لا تفسير لها في عالم الطبيعة: والبرهان هو الربط  بين وجود خمسة أرغفة وسمكتين، ورد التلاميذ أنّه 200 دينار لن يكفي لإشباع جمهور يزيد عدده على 5000 جائع. يمكن إذن القبول بها لأنها حالة طارئه

 

كما سمعنا في القراآت، أعجوبة تكثير الخبز ذُكرت أليوم مرّتين. أوّلا مع النبي أليشاع، والثانية مع يسوع. فالمهم في الحالتين هو ليس الكمّية، لكن الحاجة، أي حاجة الإنسان لتدخّل الله في حياته. فهل هنا يحقّ التّكلُّم عن أعجوبة؟ نعم يحق، إذا ما فهمنا ما هو المعني بأعجوبة. فإذا عنينا بأعجوبة شيئاً ممكنٌ تكرارُه، فهو حقّاً أعجوبة. أمّا إذا كان حال شعوذة، تجري تحت قوانين مخفيّة، فهي ليست أعجوبة، ما دام مشكوك بأمرها. ففكرة الشّعوذة غير واردة، إذ هو ليس كلُّ رغيف، الذي تكاثر منفصلا عن الأرغفة الأُخرى، وإنّما كل الأرغفة تكاثرت، وبشكلٍ متساوي. وأُعجوبتي اليوم ينتهيان بنفس الكلام: فأكل الجميع وشبعوا.

 

لذا فقد كانت هذه القصص للمسيحيين الأوّلين مهمّةً جدّاً، إذ كانوا يشعرون بأنهم ملزمون بتناقلها بين بعضهم البعض، ليُقوّا إيمان بعضهم البعض بالمخلِّص يسوع، ويُعاونوا بعضهم البعض، كما هو مذكور ي أعمال الرسل: (32:4) كان جمهور الّذين آمنوا، قلب واحد ونفس واحد. ولم يكن أحد يقول، إنَّ شيئا من أمواله له هو، بل كان كلُّ شيئ عندهم مشترك

 

في بداية الصوم، تهتم الكنيستان، أي الكاثوليكية والبروتستانتية، بموضوع الجوع والفقر في العالم، فتَفْتَتِح كلٌّ منهما مشروعا، من ضمن عملهما الرّسولي، لتنبيه أتباعهما على قضية الجوع في العالم، وتطلب منهم تبرّعاتٍ سخيّةً في أخر الصيام، ترسلها، كلٌّ منهما إلى أبرشيّاتها الفقيرة في العالم الثالث، لتقوم هذه بدورها، بتوزيع المعونات الغذائية، حيثما تراه مناسبا، خاصة تلك المناطق المتقعة، حيث نرى كلَّ صباح، المآت بل الآلاف من الأطفال يتهافتون على براميل الزبالة والنفايات، أمام الفنادق، يُجمِّعون ما يستطيعون تجميعه من مأكولات، حتى يسدّوا بها جوعهم في ذلك النهار. إن هذه المشاريع، وإن كانت جيّدة، وتُخفِّف من مآسي كثيرة، إلاّ أنها ليست، لا العلاج ولا الحل، للتخلّص من مشكلة الجوع والفقر في العالم. إنها فقط نقطةُ ماءٍ على حجرٍ ساخن.

 

كم وكم تنادي الكنيسة، في مثل هذه المناسبات، لخلق روح جديد في العالم، وذلك بالتفكير في توزيع خيرات العالم باعتدال، ومحاشات ما هو جاري وساري المفعول، وهو أنّ البلاد الغنية تزداد دوما غنىً، بينما الدول الفقيرة فتزداد من عام إلى عامٍ فقراً. الشيوعية كانت على حق في فكرتها، أي أن كل الخيرات كانت تُعتبر مشتركة، وعلى كلِّ فردٍ أن يحصل على نصيبه منها، لكنها بقيت حبراً على ورق. وهكذا أمنيات الكنيسة، فما هي إلا صوتٌ صارخٌ في البرّيّة، يصطدم صداه بستار حديدي منيع.

 

فلو فعلا يتعاون العالم ويهتم بالمشاكل الإنسانية قبل السياسية، ويُعطيها أولوية، ويعترف أن المحتاج هؤ أخٌ لي: إذ كل ما فعلتم لأحد هؤلاء فلي فعلتموه، فلكان وجه العالم يتجدد ، وما يعود أيُّ طفل أن يحتاج ليفيق باكرا في الصباح، ليُجمٍّع طعاما من النفايات. أعطوا تعطوا! أما يحترق قلب من يرى ذلك؟ أما قال صاحب المزامير: لا تُقسّوا قلوبكم! الفقر إذلالٌ لصاحبه، لكن ما ذنب الفقير إن يُبصِر النّورَ منذ مولده في عائلة فقيرة، وأمّا غيرُه فيلد في بحبوحة فوق التّخيُّل؟ من ينسى في هذا الصدد قصَّة أليعازر والغني؟ أو قصّةُ الفلاّح الّذي غلّت له أرضه؟ قال المثل: حيث الإرادة فهناك حلّ!

 

أو أيضا قصّة الكاريتاس، التي تقول. فتاة فقيرة، عليها لباس رث وأقدامها حافية واقفة على حافة الشارع تحت المظر. مرّ غنيٌّ من هناك فمدّا ييدها تطلب حسنة لها ولإخوانها الجياع في الخيمة، فأراد الغني رَكْلَها، محتجّا إلى الله لماذا خلقها؟ فيمع صوتا: ألا تعرف أني خلقتك غتيّاً من أجلها؟

 

لكن لو وُجِّهَ لنا السّؤوال: ماذا تعمل أنت للتخفبف من المجتعة والفقر في محيطك؟ هل قمنا بمقاسمة ما هو فائض عندنا، مع فقير أو جائعٍ أم عُريان؟ العالم يترقّب مرّةً في السنة، صدور مجلّةِ فوربس Forbes ليطّلع البشر على لائحة أغني مئة رجل في العالم، ونقرأ عن تكديس أموالهم الفائضة في البنوك. لكن السّؤال: ماذا يحتاج أغنى غنيٍّ ليومه، غير ما يحتاج الفقير، من خبزه وشربه ولبسه اليومي؟... المبشرين الذين بعثهم يسوع كان قد شرح لهم، أنهم ليسوا بحاجة لقميصين أو حذاء إضافيين. الثقة فضيلة مهمّة، لكن من يثق بها بدون تجفّظ؟. فإن لا تتكرّر اليوم أعجوبة تكثير الخبز في عالمنا، فليس هذا دلالةً على قلَّةِ الخبز، لكنه دلالةٌ على عدم توزيعها بعدلٍ ومساواة.

 

إننا لا نكاد نُصدِّق، كم وكم من المواد الغذائية الصالحة تُتلَف سُدىً، إما للمحافظة على السعر وجلب المرابح للتُجّار، أو لإيجاد مكان في الحوانيت للمواد الطازجة. هذا وقد كِدْتُ لا أُصدِّق ما قرأت، أن السويرماركت جمّع الخضار الباقية يوم السبت ورماها في برميل الزّبالة، على مرأى من طالبتي جامعة، احوالهما المادية على جدّها. فاستغنمتا الفرصة في الليل وفتحتا البرميل، وأخذتا ما كنا بحاجة ماسّة إليه. لكن يبدو أم كميرات المراقبة قد لكتشفتهما، وأقيمَت علييهما دعوة سرقة، إذ السوبرماركت قال: هذه المواد، ولو كانت محكمة في برميل الزبالة، فخي لا تزال ملكه، حتى تَطلع من حدود السوبرماركت. وللتقصير: حُكم على الطالبتين بجرم السرقة وتخريب قفل برميل الزبالة، بما معناه 3 أسابيع سجن ودفع 80 يورو تعويضا للتخريب. هذا هو مجتمع الرّفاهية التي نعيش فيها! هذا وماذا نقول عن كمّيّة الساندويشات والمواد الغذائية الأخرى، التي ينتهي مصيرها في ملاعب المدارس في سلات الأوساخ. قال عنها متخصص بمسألة الفقر في السودان، إنها تكفي لأشباع كل أولاد السودان. هذ وما يُذكر عن المواد الغذائية، تؤكِّده لنا الإحصائية العامة عن مواد أخرى، مثل الملابس. فلكثرة الإنتاج وكساد البيع، يُرمى منها بالتالي 20% جديدة كما خرجت من المصنع، بحجة أنها أصبحت من الموديلات القديمة أو لم تُباع بالمدّة المُقرّرة لها.يُمنع توزيعها على أيٍّ كان بل يُفضَّل إهفاؤُها، للمحافظة على السِّعر في السّوق العامة.

 

أما عاد الوقت، لخلق تفكير جديد فينا؟ أما عاد الوقت لنتعلّم الأخذ والعطاء ، وتحمّل مسؤولية بعضنا البعض؟. منذ طفولتي أثَّرَتْ في قصّة الأخوين المتهابي. الكبير منهما متزوج وعنده عدّة أطفال، والصّغير لا يزال أعزب. ولمّا صار نقل غلّة القمح من البيادر إلى البيوت. كانا يجتمعان ويتقاسمان الأكياس، يحمل كلٌّ منهما حصته على دابّته إلى بيته. ولكن في الطّريق، كان الكبير يقول في نفسه: أخي الصّغير لا يزال أعزب ويحتاج مالا كثيرا ليتزوج ويستقر، لذا سأرمي نصف غلّتي في مخازنه. وهكذا الصّغير ففي نصف الطريق، كان يقول لنفسه: أخي الكبير عنده مسؤولية كبيرة لعائلته، ويحتاج إلى غلّة أكبر، ليقوم بما عليه، فكان يعرّج إلى مخازن أخيه ويعطيه نصف حصّته. ويوما إذ تأخّرا في العمل، قال كل لنفسه سأقوم بنقل قمحي في الظلام. ويا للهجب تصادفا في نصف الطريق، فأفضى كلٌّ منهما بسرِّه لأخيه. فلنتصوّر الفرح الّذي اعترى كلاًّ منهما عندما اعترف لأخيه بما فعل.

 

أليس هذا عملا واقعيّا لحياتنا، أن نتعلّم القسمة باسم المحبّة المسيحية؟ التقاسم لا يعني التقليل بل التكثير، إذ إقتصام القليل الذي بين أيدينا، يكثِّر المستفدين منه. وهذا ما تؤكِّده جمعيات التوزيع الخيرية، حسب المثل العربي القائل: القليل هو كثير، خاصة إذا جاء من صديق.

 

فكما نرى، إن أعجوبة تكثير الخبز ليست شعوذة أو سحرا يتملَّكُها هذا أو ذاك، بل هي أعجوبة في حياتنا اليومية، تحدث أينما كان، حيثما يحدث تقسيم وتوزيع الخيرات على المجتاجين. أكلوا كلُّهم وشبعوا. آمين.