موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الثلاثاء، ٢٣ فبراير / شباط ٢٠٢١

مسألة الأصالة في الفكر والعلم

د. رضوان السيد، أستاذ الدراسات الإسلامية بالجامعة اللبنانية

د. رضوان السيد، أستاذ الدراسات الإسلامية بالجامعة اللبنانية

د. رضوان السيد :

 

عندما أطلقت دولة الإمارات «مسبار الأمل» ووصل إلى مدار المريخ، اختلفت المقاربات لهذا النجاح الباهر. فكان هناك من قال إنّ هذا ليس غريباً على العرب الذين أبدعوا في علم الفلك. ولا حرج بالطبع في اعتبار هذا الأمر أصيلاً، بمعنى أنّ له سوابق. أما الواقع فهو أنّ غزو الكواكب والفضاء فكرة حديثةٌ تماماً، وقد خيضت فيها تجارب هائلة منذ خمسينيات القرن الماضي، واتخذت دولة الإمارات قراراً استراتيجياً، مثل قراراتها الاستراتيجية الأخرى حول الطاقة المتجددة والطاقة النووية، بالدخول في هذا المجال المستقبلي الواعد عن طريق المشاركة والتعلم ودفع المواهب الشابة لخوض هذا المضمار. فإذا قيل بعد ذلك إنّ للعرب ميراثاً مستمراً في العلوم الفلكية، فإنّ ذلك يكون صحيحاً مع الفارق، الذي هو فارق الأزمنة الحديثة والمعاصرة حيث تتتالى الثورات العلمية المذهلة التي تغير وجه الكون.

 

فما أقصده أنّ «الأصالة» ما عادت مأنوسةً حتى في العلوم التي تعرف تطورات وتطويرات على مدار عقودٍ وعقودٍ في العادة. لكنه زمانٌ استثنائيٌّ الآن. فإذا مضينا من العلم إلى الدين والفكر، يصبح الأمر مختلفاً تماماً، وتصبح الأصالة غطاءً لميولٍ وتوجهات تقصد للغوص في الجمود أو تبحث عن الانشقاقات. ففي أربعينيات القرن الماضي، أصدر الشيخ مصطفى عبد الرازق، أستاذ الفلسفة بالجامعة المصرية، والذي صار شيخاً للأزهر فيما بعد، كتابه «تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية»، والذي دعا فيه إلى أن تتبع الأصالة والإبداع الأكبر في المجال الفكري في ثقافتنا الكلاسيكية، يثبت أنه كان لعلماء أصول الفقه، ويأتي بعدهم المتكلمون فالصوفية، وأخيراً فلاسفة الإسلام مثل الفارابي وابن سينا وابن رشد. وكان يقصد من وراء تأخير الفلاسفة في الدرجة الإبداعية، أنهم فارقوا الأصيل إلى الدخيل لأنهم تأثروا كثيراً بالفلسفة اليونانية!

 

إنّ هذا التوجه الذي كان خاطرةً جرى من حولها نقاش كثير بالجامعة المصرية وخارجها، سرعان ما صار مذهباً مقفلاً تدور حوله ثقافة الهوية الأصيلة. باعتبار أنّ النهوض الذاتي إنما يتحقق بالتشبث بالأصالة والقفز فوق التاريخ إلى الزمن الأول. ثم ما جرى اعتباره أصيلاً في الفكر والدين، صار مطلوباً في الأدب والشعر والأخلاق والروايات والمسرحيات. لقد جرى الحديث حتى عن الأدب الإسلامي، وليس عن الأخلاق الإسلامية أو التفكير الإسلامي الأصيل فقط!

 

إنّ هذه النزعة التأصيلية المصطنعة، أي البحث عن قديمٍ ممكن إسناد الجديد إليه أو لا يكون مشروعاً، أحدثت ردات فعلٍ كبيرة لدى كثير من المفكرين العرب الذين مضوا باتجاه الدعوة للقطيعة بين الجديد والموروث من أجل الدخول في حضارة العصر وعصر العالم. وهكذا ظهرت نظريات عملاقة في التراث لا تصرّح بتقصُّد الدين، لكنها تتقصده في الحقيقة، في حين كان الأصاليون والتأصيليون يذهبون بعيداً في الرجوع التفصيلي إلى الأصيل ويسعون لنفي «الدخيل» ومحاصرته ويسمونه استعماراً ثقافياً.

 

والواقع أنّ معظم التراث الفكري والأدبي صار تاريخاً، وهو لا يستحق أن نتعبَّد له ولا أن نكفّره. ويبقى المطلوب مكون من ثلاث خطوات: الفهم والاستيعاب والتجاوُز. والفكرة تقاس بصحتها وفائدتها وليس بأنها جاءت من ماضينا أو من ماضي وحاضر غيرنا.

 

هناك أثرٌ منسوبٌ للنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «الحكمة ضالة المؤمن، يأخذها حيثما وجدها». وقد كان هذا شأن العرب والمسلمين لأزمنةٍ طويلة. إنما وسط زلازل الحداثة، اضطربت المقاييس والأنظار. وسيطرت المخاوف على الهوية من الدخيل ومن الاستعمار. ومن جهة أُخرى أراد تحديثيون الخروج من التقليد كله. وقد قال صلوات الله وسلامه عليه: إنّ المنبتّ لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى!

 

(الاتحاد الإماراتية)