موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
تتلاشى في زمننا الحدود بين الواقع والافتراض مع مرور الساعة. وسائل التواصل الاجتماعي، التي صُممت في الأصل لتكون جسرًا يصلنا بالآخرين، أصبحت شبكةً تستهلك انتباهنا ووقتنا، بل وحتى إحساسنا بذواتنا. تحولت الشاشات المضيئة لهواتفنا وأجهزة الكمبيوتر إلى حدود سجن، زجاج أمامي، نراقب من خلاله الحياة، ونادرًا ما نشارك بها، ونبتعد عن بعضنا أكثر لنصبح سجناء خلف الشاشات تحجبنا عن العالم الحقيقي.
عقل الإنسان، ذلك العضو الذي تطور عبر آلاف السنين لمعالجة المشاعر المعقدة، وتكوين الروابط، والتكيف مع تحديات الحياة الواقعية، أصبح الآن تحت الحصار الالكتروني. يحذر علماء الأعصاب من التحفيز المفرط الذي تسببه منصات التواصل الاجتماعي، التي سببها دفعات من الدوبامين (المادة الكيميائية في الدماغ المسؤولة عن الشعور بالسعادة)– من الإعجابات والتعليقات والمشاركات – تجعلنا نبحث بشكل دائم عن الصداقة الافتراضية. وهذا ليس مجرد افتراض؛ فالدراسات تشير إلى أن الإفراط في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي يعيد تشكيل الدماغ، ويقلل من مدى الانتباه، ويضعف الذاكرة.
لقد أصبحنا عبيدًا للمتابعة المستمرة، والتصفح، ومتابعة تحديثات لا تقدم لنا أي شعور حقيقي بالرضا.
بعيدًا عن التأثير العصبي، فإن العواقب الاجتماعية لإدماننا الرقمي واضحة. المنصات التي تزعم أنها تقربنا من بعضنا البعض تتركنا غالبًا أكثر وحدة من أي وقت مضى. كم منا جلس في غرفة مليئة بالأصدقاء أو العائلة، لتتسمر وجوه الجميع على شاشات الهواتف المضاءة؟ فالحضور الجسدي لم يعد مرادفًا للاتصال العاطفي. المحادثات تُقاطعها الإشعارات، والعشاء والتجمعات تطغى عليها جلسات تصوير، والضحكات الصادقة تحل محلها الرموز التعبيرية.
في عالمٍ أصبح الاتصال فيه على بُعد نقرة، أصبحت الروابط الحقيقية نادرة بشكل مقلق.
التدفق المستمر لأخبار الحروب والاضطرابات السياسية التي تعصف بالدول المحيطة بنا، والحرب المتصاعدة على المخدرات، ربطتنا بهواتفنا الذكية، واستنزفت أفكارنا ومشاعرنا. وبينما تزدهر شركات الاتصالات وتجني أرباحًا طائلة، نجد أنفسنا، نحن الأفراد، أكثر قلقًا واضطرابًا. ومن ثم نتفاجأ بكمية الجرائم التي تحدث وبشراستها.
يمتد خطر تأثير وسائل التواصل الاجتماعي إلى ما هو أبعد من حياتنا الشخصية؛ كونه يعيد تشكيل إدراكنا للواقع. المنصات تقدم نسخًا مصطنعة من الحقيقة، وتخلق معايير غير واقعية للجمال والنجاح والسعادة. فخ المقارنة لا مفر منه، مما يغذي مشاعر النقص والقلق. وحتى اللحظات التي كنا نعتبرها خاصة أصبحت مادةً للاستهلاك العام، مصّفاة ومؤطرة بهدف الحصول على الإعجابات والموافقة.
أُدرك تماماً بأن الوضع ليس سوداويًا بالكامل. لقد أحدثت وسائل التواصل الاجتماعي ثورة في التواصل والتعليم والدفاع عن القضايا. وُلِدت حركات على الإنترنت أعطت صوتًا لمن لا صوت لهم، وسلطت الضوء على قضايا كانت ستظل في الظل. ومع ذلك، وبينما نحتفي بفوائدها، علينا أن نواجه تكلفتها أيضًا.
السؤال يبقى: هل يمكننا الهروب من هذا السجن؟ الخطوة الأولى هي الوعي والاعتراف بالسيطرة التي تفرضها وسائل التواصل الاجتماعي على حياتنا وتأثيرها على صحتنا العقلية والاجتماعية ووضع حدود– كتخصيص مناطق وأوقات خالية من التكنولوجيا، ومقاومة الرغبة في التحقق من الهاتف كل بضع دقائق. ويقال أيضاً بأن الانخراط في أنشطة مثل قراءة كتابًا والمشي في الطبيعة أو أجرِاء محادثة غير مقاطعة أمر في غاية الاهمية.
التغيير الحقيقي قرار ذاتي بأن نحافظ على عقولنا و روابطنا ونستعيد وقتنا الذي من ذهب، فإن ذهب فلا عودة له . لقد حان الوقت للنظر إلى ما وراء الزجاج الأمامي، لنرى الحياة ليست سلسلة من المنشورات والقصص، بل نسيج غني من التجارب الحقيقية غير المصطنعة.
هذه دعوة إلى الحرية من القيود الالكترونية ومنها سنكتشف جمال العيش بكل حواسنا في اللحظة الراهنة مع من حولنا، فهذه العودة إلى التواصل الحقيقي ليست فقط سبيلًا لإعادة اكتشاف الذات، بل هي أيضًا خطوة نحو بناء سِلم مجتمعي قائم على الفهم والتفاعل الإنساني الصادق و رفض بأن نكون سجناء خلف الشاشات.
حمى الله الوطن
(الرأي الأردنية)