موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ٩ يناير / كانون الثاني ٢٠١٤

زوبعة الرحيل

بقلم :
د. غاده البندك - الأردن

كانت مريم تخط بيد الله لوحة الخلاص الأبدي، يغمر قلبها السلام بعد أن وضعت طفلها المنتظر رجاء الأمم. وبينما الفجر يشق طريقه فوق سماء الأرض المغرورقة بأحزانها سمعت زقزقات العصافير في صباح اليوم الأول للميلاد. وإذ كانت تستنشق بهاء الله في الخليقة الجديدة كانت عواصف الرحيل قادمة إليها في الطريق إلى مصر. ظهر الملاك مجدداً ليوسف معلناً موسم الرحيل. ويوسف شاهد بطل وهب حياته لله وأصبح أداة في يد الملاك لإكتمال المسلسل الخلاصي. قم يا يوسف فبيت لحم انتهى دورها في المسلسل، قم، لا تبق متأملاً جمال الطفل وحلاوة السجود فثمة رحلة طويلة لا بد منها. قم، فالعاصفة قادمة وهيرودس المجنون عازم على ذبح الأطفال ولن يترك طفلاً يرضع في حضن أمهِ في مدينة داوود. ولن يفلح في إفشال خطة الله، فها قد غير المجوس طريقهم وأما أنت فاهرب حالاً وخذ معك الأمانة، وإلى مصر تذهب لا إلى مكان آخر. قام يوسف مرحباً بإرادة الله، وجاء إلى مريم وهي ترضع الكلمة المتجسد بين يديها وقال: شدي الرحال يا مريم، سنهاجر إلى مصر فالعالم يضيق بنا هنا ولا مكان في أرض فلسطين يحمل الأمان الآن لطفلك القدوس. إرتبكت مريم وهي ترضع إبنها، وبينما تستعمل الهروب سقطت حبات ذهبية من حليبها الثمين على أرض بيت لحم، وهناك تركت آثار خوفها وحبها وهروبها.* خرجت مريم مع يوسف في عتمة العالم حاملة معها النور. فبعد أن حملت يسوع في أحشائها تحمله الآن بيديها تحاور وجهه في الطريق ويحاورها. أسرة عجيبة تأسست في مغارة وبدأت حياتها بالسفر من مكان إلى آخر، وأب مشغول بهمّ عائلته يحمل معه التاريخ كله. الطريق إلى مصر أرض العبودية كان شاقاً محفوفاً بالمخاطر ويوسف حرص على رعاية الطفل وأمه من برد الشتاء ولصوص الطريق فكان مؤتمناً على السر المكتوم وحارس الكنيسة. هكذا كانت خطة الله فلكي يخفض من تشامخ الإنسان تجرد من ذاته متخذاً صورة العبد المشرد بلا مأوى الهارب في الطرقات والخائف في وطنه واللاجئ في أرض الشتات التي صنعناها له نحن البشر. دخل يسوع أرض الهوان ولم يعد مساواته لله غنيمة بل تغرب عن وطنه السماوي وعاش إنساناً عادياً بحسب عادات المجتمع وتقاليده ونشأ غريباً في أرض مصر، لكي يحقق العدل وليحكم لبائسي الأرض بالإنصاف. وأبدع في إخفاء شوقه المدفون حتى يحين موعد خروجه إلى أرض الموعد التي عطشت إليها أرواحنا فمن مصر سيدعوه أبوه السماوي لينطلق فيحمل في روحه النشوى كل حاجات البشر. وفي هجرته القسرية حمل معه كل المجبرين على ترك أوطانهم ليسير بهم نحو وطن أفضل وأرض جديدة. فيها يسكن الشبل مع الحمل ويرعيان معاً. *هناك كنيسة في مغارة تدعى مغارة الحليب بالقرب من مغارة الميلاد، حيث سقطت حبات من حليب مريم وهي هاربة إلى مصر وأصبح الصخر فيها أبيضاً وتذكر أعاجيب كثيرة لنساء أخذن من آثار الصخر وتمكن من الإنجاب والوضاعة.