موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأربعاء، ١٠ يوليو / تموز ٢٠٢٤

خذ الصافي

بشار جرار

بشار جرار

بشار جرار :

 

هي من المقولات الرائجة المحببة أن يقال: خذ مني الصافي، بمعنى المعلومة الصحيحة الوافية أو النصيحة الخالصة، شكلا ومضمونا. في ثقافات عديدة ومنها الأمريكية وحدهما الوالدان من يقدمان كل شيء حبا وطواعية دون انتظار مقابل ممن يحبون ويعولون. وبطبيعة الأشياء، لا سبيل للحصول على ما هو صاف إلا من نبع أو مَعين أو ما هو جار بطهر دون روافد تكدر صفوه أو تلوث طهره.

 

ورغم وضوح الفارق بين طهر النهر المبارك في منبعه ومصبه وروافده وضفافه، أو البحر الهادر بملحه الأصيل، وبين تلك الأوساخ التي ترتع بالبرك الراكدة أو المستنقعات، يتراخى البعض في اتخاذ إجراءات احترازية وقائية تتطلب ضمان المباعدة بين كل ما هو صاف وسواه بكل الوسائل، بما فيها الاستئصالية الاجتثاثية التي لا تكتفي بالشكوى من الحشرات والقوارض أو مكافحتها، بل وتقطع دابرها من خلال تجفيف المراتع والمستنقعات، وتجريف وتحريق أراضيها حرصا على إبقاء مراعينا ومرابينا صافية الموارد بعيدة عن تطاول ولصوصية الدخلاء.

 

في الصناعات الغذائية تفرض المعايير والمقاييس، شطب كميات إنتاج قبل تعليبها، إن تبيّن وقوع أي شائب فيها. بعض الخلطات لا تذوب فيها تلك الشوائب -على ضآلتها- بل تفسدها وتضرب معها سمعة المُنتج بفتح التاء وكسرها.

 

ها هي الانتخابات في الجملة من حولنا تشير إلى قدرة الناخب الواعي على إحداث فارق نوعي يردّ البلاد إلى ثقافتها الصافية ردا جميلا حتى تتمكن من تصفية الخلافات داخليا وخارجيا، ويتحقق الصفو المطلوب في الأجواء الدفاعية والأمنية والسياسية التي بدورها تعبر عن نفسها اقتصاديا واجتماعيا.

 

«هرمنا» ونحن نسمع عبارات «صفو العلاقات» و «تصفير» النزاعات أو الاختلالات في الأداء الاقتصادي والمالي، ورغم ذلك ما زال البعض مترددا أو مقصرا أو للأسف مصرا على عدم الإتيان بالصافي فيما لا يختلف عليه عاقلان. كثير من المعضلات ما هي إلا مشاكل مزمنة أصلها تحديات لم يحسن الإعداد لمواجهتها وتحويلها إلى فرص.

 

استمرار التراخي في التصدي لنبرة الشكوى والتذمر والسلبية والاتهامية والاستقواء من المظاهر المزمنة للوهَن الواجب التعامل معها بحزم وحسم إن أردنا حقا التغيير، وإلا لن يكون إلا ترحيل للأزمات وإعادة تعليب لها. جوهر كثير من المعضلات لا تحله لا حكومات ولا برلمانات ما لم يبدأ الحديث بكل ما هو «صافي».. تصفية النوايا وبعدها الإرادات ومن ثم يأتي الحديث عن الإدارات وبعدها الإجراءات التي قد تصيب وقد تخطئ ولأنها «غير منزلة» لا قداسة لها ومن اليسير مراجعتها كلما تطلب الأمر، برؤوس وازنة لا «حامية». من السهل الانتقاد والتشكيك والتخوف من كل محاولة إصلاح، لكن من العجب العجاب أن يتم الحشد ضد الإصلاح -إداريا كان أم ماليا- باسم مراعاة مخاوف قد لا تكون سوى كوابيس صيف أو بارانويا موسمية عادة ما تكون ذات صلة بجمع الأصوات (انتخابيا) أو اللايكات (تيك توكيا)!,

 

في الظروف الصعبة للدول أو الحكومات أو الشركات أو الأسر -لا فرق «فكلكم راع وكل مسؤول عن رعيته»- يفرض الواجب على ذوي الضمائر والعقول أن يتحملوا المسؤولية في قرع الجرس، بحيث تكون مصارحة في التشخيص قبل المعاتبة في مسكنات العوارض التي -خذ مني- لن تشفي مريضا من سقم أو وهم.. ثمة اختلالات بحاجة إلى جراحة عضوية لا تجميلية.. قطاعنا العام صار عبئا على الجميع. كيميني -يميني مؤمن برأس المال الوطني الحر والاستثمارات المرصودة والمرعية بعناية- أؤمن بأن الخلاص في ترشيق القطاع العام لا ترشيده فقط. والأمر ينطبق على كثير من فعاليات القطاع الخاص التي ابتلي بعضها بما عانى منه القطاع العام للاعتبارات عينها الأمر الذي يتطلب إحداث ثورة بيضاء فكرية قبل أن يصار إلى تجسيدها تشريعيا ومن ثم تنفيذيا فيما عين القضاء ومن فوقه سيدنا ورب العالمين ترعانا جميعا إلى ما فيه الخير لنا في ديننا ودنيانا.

 

(الدستور الأردنية)