موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١ نوفمبر / تشرين الثاني ٢٠٢٥

الواهمون الجدد

رمزي الغزوي

رمزي الغزوي

رمزي الغزوي :

 

لا أحد يعرف من أين تنبع أنهار الثقة التي تجري في صدور بعض الناس في هذه الأيام، ولكننا نراها بأعيننا كيف تتدفق، وبماذا تهدر، وأين تصب، حتى تمنح أصحابها تلك القدرة العجيبة على الحديث في كل شيء، وبنبرة تعلو على أنفاس العلماء والخبراء. إنهم يفهمون ويفقهون في كل ما يخطر أو لا يخطر على بال. من وصفة العوامة المدعومة بالبطاطا المهروسة، إلى كيفية تخمير كعكة اليورانيوم الصفراء في المفاعلات النووية.

 

هؤلاء المتفوقون الجدد، خبراء في كل شأن: يفسرون ركائز الاقتصاد الياباني والفنزويلي والغيني، ويتحدثون في علم النفس الأسري وتربية المراهقين بثقة العارفين، ويفكون جدائل الحامض النووي DNA كما لو كانوا يعملون في مختبرات فايزر.

 

كما أنهم ساسة محنكون، يشرحون خفايا التوتر بين باكستان وأفغانستان، وبين مالي وبوكو حرام، ويفهمون تركيبة الشعوب التركية في آسيا الوسطى، وعلاقة الفرس بالجنس الآري، ويعرفون ما يُباع في سوق دوشانبه الطاجيكي حتى آخر إبرة وخيط.

 

لم تعد مجالسنا تشهد ذلك الإنصات الذي يورث علماً ومعرفة، حين يتحدث من هو أدرى وأخبر. صرنا نغالب المتحدثين، ونكاسرهم، ونخطف حبال الكلام منهم استعراضاً للقوة والفهلوة، كأن المعرفة حلبة مصارعة. وإن أصغينا أحياناً، فليس رغبة في الفهم، بل استعداداً لردٍّ يمدغدغ الوهم ويشبع الغرور.

 

في مواقع التواصل الاجتماعي بلغت الظاهرة ذروتها. فالجميع أصبح يملك منصة يبث منها ما يشاء، والجميع مطالب بأن يدلي بدلوه في كل قضية. لم يعد ثمة صف للمنصتين المتعلمين السائلين، بل جموع من المفتين والمفسرين والمحللين الذين يملأون الفضاء ضجيجاً. وماذا ينقصهم؟ لديهم لوحة مفاتيح، وثقة لا تنضب، ووقت طويل للجدال.

 

نحن نردد حكمة: أعطِ الخبز لخبازه. لكننا لا نأخذ بها إلا للتندر. صرنا نقوم بدور الخباز والعجان والطحان والبياع خلف الميزان. فاللافت أن أصحاب الاختصاص والعلماء والخبراء، أولئك الذين يعرفون حدود المعرفة، يتريثون قبل أن يبدوا رأياً، أو يخوضوا في حديث. يطلبون وقتاً للتحليل والمراجعة، لأنهم يدركون أن العلم يبدأ بالشك، وينضج بالتواضع. أما الواهمون الجدد، فينطقون بثقة من لا يعرف أنه لا يعرف، ممتلئين باليقين حتى يوافيخ رؤوسهم.

 

نيسان