موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الإثنين، ٩ سبتمبر / أيلول ٢٠٢٤

العروبة المسيحية والفتوحات الإسلامية: ما هي طبيعة العلاقة؟

أستاذ بعلم الأديان، جامعة جورج تاون، استاذ زائر بالجامعة الأردنية

أستاذ بعلم الأديان، جامعة جورج تاون، استاذ زائر بالجامعة الأردنية

بول هيك :

 

في زيارة لي قبل بضعة أيام الى المتحف الوطني الأردنّي للفنون الجميلة، وذلك للاطّلاع على معرض تُجسّد صوره الفوتوغرافية تاريخ المسيحية في الأردن من أواسط القرن التاسع عشر الى أواسط القرن العشرين، سحرتني ملامح المسيحيين في الصور، وملابسهم على وجه الخصوص، لِما تدلّ عليه من الانتماء الى العروبة بالدرجة الأولى.

 

وذكّرني ذلك كلّه بما كنت قد قرأته في أيام الدراسة عن الفتوحات الإسلامية ودور القبائل العربية المسيحية فيها، وذلك الى جانب المسلمين، في الجهاد ضد القوى الكبرى آنذاك، وعلى رأسها الدولتان البيزنطية والساسانية. قد يصعب على الكثير فهم هذا الأمر. هل احتضنت صفوف الفتوحات مسيحيين جاهدوا الى جانب المسلمين؟ في هذه المقالة، بعد لمحة خاطفة الى الفتوحات من هذه الناحية، أدعو القارئ الى التفكّر في الأمر وما قد يهمّنا منه نحن اليوم، فإن الماضي للمقيم عبرة والميت للحي عظة.

 

ومن الأخبار التي تدلّ على الأمر الذي نحن بصدده خبر من تاريخ الرسل والملوك لأبي جعفر الطبري ورد في أخبار العام 13 للهجرة/ 634 للميلاد. ويروي الخبر قصّة من الفتوحات تخصّ معركة نشبت في بلد بالعراق اسمه البُوَيب. وما يلفت النظر هو أن الخبر لا يتجاهل الاختلاف في الدين بصفوف الفتوحات إلا أنه يشدّد على انتماء الجميع الى قوم واحد.

 

على سبيل المثال، حين رأى العرب المسيحيون في المنطقة جنود الدولة الساسانية يستعدّون للقتال قالوا: «نقاتل مع قومنا». ذلك وتعاون قائدان للعرب المسيحيين هما وعشيرتاهما مع مُثَّنَى بن حارثة الذي ترأّس جيش المسلمين، الأول هو أنس بن هلال النَمَري والآخر هو ابن مردى الفهر التغلبي. قدم كلٌّ منهما مثنى، وأمدّه أنس بخيل ورجال «من نمر نصارى» كما أمدّه ابن مردى بخيل ورجال «من بني تغلب نصارى». وعندما اشتدّ القتال عمد مثنى الى أنس فقال: «يا أنس إنك امرؤ عربي، وإن لم تكن على ديننا، فإذا رأيتَني قد حملت على مهران بن باذان الهمذاني وهو من كبار المقاتلة بجيش الدولة الساسانية فاحمل معي». وقال لابن مردى مثل ذلك. وحصل هذا الأمر فحملا معه في قتال الجبّار. ذلك والتحق بصفوف العرب رجالٌ من مسيحيي التغلب بعد نشوب المعركة قائلين: «نقاتل العجم مع العرب». كذلك نقرأ في الخبر أن «غلام من التغلبيين نصراني» هو الذي قتل مهران الجبّار، ما غيّر موازين المعركة لصالح جيوش العرب.

 

من الجدير بالذكر أن مملكة كندة كانت قد مثّلت العروبة الى حين سقوطها في أواسط القرن الخامس للميلاد، ما ترك فراغاً سياسياً في جزيرة العرب. لذلك تحالفت القبائل العربية المسيحية إما مع المملكة البيزنطية الى الغرب وإما مع المملكة الساسانية الى الشرق. ولكن الإسلام أتى بكيان سياسي جديد ليمثّل العروبة بالإضافة الى ما حمله من رسالة دينية. ولم يلبث العرب المسيحيون حتى أدركوا الأمر. فإن بعضهم قبلوا برسالة الإسلام الدينية ولكن بعضهم الآخر تمسّكوا بالمسيحية إلا أنهم وقفوا مع المسلمين باعتبارهم قومهم.

 

بالتأكيد ليست ظروفنا اليوم ظروف الفتوحات. مع ذلك غنيت هذه القصّة بأمور تستحقّ التفكّر فيها اليوم. وههنا أذكر ثلاثة منها. أولاً، في نظر العرب المسيحيين، شاركهم المسلمون القومية نفسها. ثانياً، لم يرَ المسلمون في العرب المسيحيين غرباء ولا وافدين. ثالثاً، لم يستطع العرب آنذاك أن ينصروا سيادة العروبة في ديارها إلا بالتعاون بين عرب الديانتين.

 

ليست مثل هذه الأمور بجديدة ولكن فكرة القومية لا بدّ من إعادة النظر فيها اليوم حين تطفو على السطح عدّة إشكالات حول معاني القومية ومقاصدها، أكانت عربية أو أمريكية أو صينية أو روسية أو غيرها.

 

وفي مقالات لاحقة أهدف الى إثارة النقاش عن العروبة تركيزاً على مفهوم السيادة إذ أن العروبة لا يمكن اختزالها في مجموعة من العادات والتقاليد دون ما يتجلّى فيها من معالم السيادة ومقاصدها، مثلها في ذلك كمثل بقية القوميات. هكذا أختم هذه المقالة بطرح السؤال: ماذا يكمن في العروبة من معالم السيادة ومقاصدها، تجمع بين عرب الديانتين، بالحاضر كما بالماضي، وتدفعهم جميعاً الى الالتفاف حولها والاطمئنان اليها؟

 

(الرأي الأردنية)