موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ١١ نوفمبر / تشرين الثاني ٢٠٢١

السماء والأرض تزولان وكلامي لا يزول

بقلم :
الأب منويل بدر - الأردن
السماء والأرض تزولان وكلامي لا يزول

السماء والأرض تزولان وكلامي لا يزول

 

الأحد الثالث والثلاثون (الإنجيل مرقس 13: 24-32)

 

بعد قراءة الإنجيل يختتمه الكاهن عادة بكلمة: إنجيل ربنا يسوع المسيح. أما بعد إنجيل الأحد الثالث والثّلاثين اليوم، فيجب أن نقول: بشارة إنجيل ربنا يسوع المسيح المُفرِحة! ولو أنّ إنجيلَ اليوم لا يُفرّح بل يخلق فينا الهلع! لكن نقول: من واظب على حضور صلاة الأحد كل السنة ووصل إلى هذا الأحد، يكون قد لاحظ، أن لهجة الإنجيل كانت تتزايد، حتى وصلت إلى نقطة اليوم، الّتي تبعث على الخوف. هذه اللهجة يستغلُّها شهود يهوى، إذ هي محور تعليمهم: أي نهاية العالم. وإنجيل اليوم يحمل عنوان: إنجيل نهاية العالم، الّتي نلاحظها سنويّا في تقلُّبِ الطّبيعة. هذا والعلامات السابقة لنهاية العالم هي كثيرة: منها الحروب، منها الفيضانات، منها الهزات الآرضية، منها انفجار البراكين، منها انتشار أمراض غير معروفة، كالطّاعون والحمّى الإسبانية والسّرطان والإيدز والكورونا، التي يروح ضحيّتُها آلاف الآلاف سنويا. بل العالم يعيش يومياً كوارث وظواهر طبيعية هائلة، تُطلِعنا عنها الجرائد اليومية. فهذا يقول لنا كذلك، مجيْ المسيح هو قريب. طبعا هذا كان أيضا اعتقاد المسيحيين الأوّلين.

 

ونقدر أن نقول، إنّ أسلحة الدّمار الشاملة، بإمكانها أن تعجّل بدماره، خاصّة وإن كانت تحت سيطرة حاكم، غيرِ راضٍ، لا من نفسه ولا من الحكام الأخرين، كرئيس أمريكا السابق ترامب، الّذي خسر انتخابات الرئاسة في نوفمبر 2020 ولم يرضَ أنْ يُقرَّ بذلك، فكان العالم كلُّه بالتّالي متخوِّفا منه، بأنّه سبنتقم وسيضغط على شيفرا صندوق القنابل الذّرّيّة، التي تحت تصرَّفه. هنا ونقدر أن نُؤكِّد، إن نهايتنا حتميّة، سواٌ بطريقٍ طبيعيّةٍ أو حتميّةٍ مُفتعلة. لكن الإنجيل يريد أن يقول لنا، أنّ من يؤمن لا يخاف، بل يفرح لأن الله معه. وإن كان الله معنا فمن علينا؟ لا تخافوا، فإن شعر رؤوسكم معدود، ولن تسقط منه شعرة بدون إذن أبيكم. أثبتوا فيَّ فتكون لكم الحياة الأبدية.

 

مَن يذهب للتّسوّق يوم السبت صباحاً، سواءٌ في المدن أو القُرى، على حدٍّ سواء، يتعجّب من كثرة انتشار شهود يهوى، على مفارق الشّوارع، حاملين بأيديهم مجّلتهم "برج المراقبة"، ويحاولون الحديث، ومحاورة مَن يُصغي لهم. مِحور حديثِهم هو هو: يبدأؤونه بما يُشاهدون من شرور ومصائب في العالم حوالينا، ويربطونها رأساً بقرب نهاية العالم المخيفة، ولن ينجو منها، إلا مَن انتسب إليهم ونقل أمواله وأملاكه على إسمهم. تُرى كم مِن مرّة صاروا متنبِّئين بنهاية العالم، ومعيّنين لها وقت حدوثها، وبالتّالي يُقرّون بخطأٍ حسابي بسيط. بكلمة، لِمَ لا يعترفون بأنهم الإنبياءُ الكذبة، الّذين قال عنهم يسوع: إنّهم سيأتون بعده ليُظِلُّوا تلاميذه. "وأمّا الأوقات والأزمنة، فلا يعرفها حتّى ابنُ البشر".

 

إنّ أكبر وأهمَّ تاريخ لنهاية العالم، تنبّأ به شهود يهوى، جاء في بداية الحرب العالمية الثانية. إذ كانت الناس، على أيّة حال متخوِّفة، فجاء خبر نهاية العالم ملائماً، للوصول إلى بعض أهدافهم، وهي أنهم أقنعوا المئآت والآلاف من النّاس أن يتنازلوا عن أملاكهم ووضعها باسم بدعة شهود يهوى. وإذ انتهت الحربُ والعالم لم ينتهِ، مثلما تنبّأوا، أقرّوا من جديد، بخطأ بسيط في حسابهم. وأمّا الأملاك التي كانوا استولوا عليها، فلم يعيدوها لأصحابها. هذا فقط تحذير لكلِّ قليلي الإيمان بأقوال يسوع، وتصديق نبوآت هذه البدعة. يا سامعين، نهاية العالم بعيدة، فلا تُصغوا للأنبياء الكذبة. وأما كلمات يسوع: إحذروا وانتبهوا، فما هي إلا تحذيرات، لأن لكلِّ شيء نهاية، فلا تنسوا.

 

في القرن الماضي وفي جلسة برلمان إحدى الولايات ألأمريكية، بينما كان عضو ٌيُلقي خطابا، حدث خسوفٌ للشمس، فأظلمت القاعة وأصابَ الجميعَ هلعٌ كبيرٌ وصرخوا بضجيج. فأوقف البرلماني خطابه وعلّق قائلاً: سيّداتي سادتي، لا يوجد عندي سوى حلاّن: إمّا أنَّ الرّب يأتي، فيجدنا في عملنا، أو أنه لا يأتي، فلا مبرِّر لنوقف عملنا. علامات طبيعية هائلة وكوارث لا توصف

 

معروف أن الإنجيل هو بشارة فرح، لكن أيَّ فرح نجد في نصوص اليوم؟ عند نهاية السنة الليتورجية، تُسمِعنا الكنيسة هذه النصوص، الّتي تتكلم نعم عن نهاية العالم، وبشكل مخيف مُرعب، حتى قبل أن يكون الإنسان نفسه قد اخترع الأسلحة الفتّاكة وآلات التّدمير التي لا توصف، والّتي بوسعها أن تُحوِّل العالم بلحظة إلى رماد، مثل قنبلة هيروشيما (1945.08.06)، التي أنهت الحرب العالمية الثانية، وقبل تلوّث الطبيعة وتهديدها الحراري بحيث مرضت مساحاتُ غاباتٍ كبيرة وتمرض يوميا، ولا ننسى استغلال كنوز الأرض، كأنها لجيل واحد فقط. فالعلامات، الّتي تُشير، أن نهاية العالم وشيكة، بل ليست بعيدة. أضف إليها ما يقوله الإنجيل: شدائد ستمرُّ على العالم، تتبعها علامات فلكية مخيفة، مثل خسوف الشمس والقمر وتساقط النجوم. الشمس والقمر والنجوم هي عوامل نظام العالم من حولنا، فإن زالت، زال العالم أيضاً. فواضح إذن، أنه حينما تحدث هذه الإشارات، تحدث معها أيضاً نهاية العالم. وعندها يظهر ابنُ البشر على السحب، كمنتصر على قوى الطبيعة، وعلى الموت. موت؟ أين شوكتك؟ وعندها سيجمع كلَّ الّذين بقوا ثابتين في الإيمان في ملكوته. فعند الله يوجد لنا مستقبل زاهر لا فناء، بل زمان جديد، زمن الحياة الأبدبة عند ومع الله. الحياة الأرضية لا تفنى بل تتبدّل، كما نصلّي في مُقدَّمة قداس ألأموات، أذ لا أحد يعلم، بما أعدّه الله لمُحبّيه : لم تره عين ولا سمعت به أذن، ولم يخطر على بال إنسان (1 كور 2: 9).

 

أما قالوا: الأمثال تعني أضدادها؟ فمن هو الله، ليسمح بخراب صُنع يديه، الذي وجده وما فيه جميلا، حينما خرج من يديه (تك 1: 31)؟ هذا ونحن موكلون عليه لحمايته ورعايته؟ والسّؤال الأهم هو: لماذا يريد الله أن يفني العالم بهذه السّرعة، فهو ما قال هذا، بل هم شهود يهوى الّذين يقولونه! أنا أعتقد وأومن بكل تواضع، أن العالم لن يزول ولن ينتهي، إلاّ عندما، بأعجوبة من الله، يكون البشر قد سكنوا كل الكواكب التي خلقها الله وليس فقط كوكب الأرض. وإلا لماذا هو خلق كلَّ هذه الكواكب؟ إذن يا شهود يهوى، نهاية العالم ليست قريبة، ولن تحدث قريباً، كما تفتكرون، ولو جدِّدتم الحساب والتّحسُّبات لها مئات المرّات، لأن الوقت والأزمنة، ليست بأيديكم أو تحت تصرُّفِكم، وهذه لا يعلم بها أحد، قال يسوع.

 

إنّ الإنجيل يطلب منّا أن نكون أوّلا واقعيّين. فهو يتكلّم بوضوح عن وقوع كوارث. هذا ومن هو مطّلعٌ أكثر من المسيحيين بالكوارث: من خراب أورشليم وهيكلُها الرّائع، التي لم يبقَ منهما حجر على حجر، كما تنبّأ يسوع، إلى الإضطهادات الدّمويّة في كلّ العصور: كما اضطهدوني سيضطهدونكم، كما يعرفون أيضاً، أنهم يعيشون في عالم مُهدًّدٍ بالإنقراض: وبالتالي نهايته الخراب.

 

وَصفُ الإنجيل لهذه النهاية، يبعث على الخوف، وعلى الرّغم من ذلك، فإنَّ الكنيسة لا تحذف هذه النّصوص، بل تحثُّنا سنويّاً على قراءتها والتّأمل فيها، لنكتشف  فعلاً، أنّها رغم الخوف الّذي تخلُقه في سامعيها أو قارئيها، نكتشف فيها أيضا بشارة مُفرِحة، تقول لنا، قي وسط علامات الهزع تلك، ستقف قوات الملائكة قربنا، وستغمرنا محبّة مخلِّصنا، والذين آمنوا به لا يمسَّهم ضرر، بل سيسمعون قوله من جديد: لا تخافوا، فإني قد غلبت العالم (أي إبليس وملائكتَه). المسيح سيظهر أمامنا وبيده علامة انتصاره، أي الصليب. هذا وكلُّ الّذين يرفعون أبصارهم إلى الصّليب سيخلصون، كما خلص كلُّ أفراد الشعب في الصحراء بالنظر إلى الحيّة التي رُفٍعَت أمامهم. أفليست هذه بشارة فرح تطغي على خوفنا من نهاية العالم؟ قصّة الله معنا هي دائما قصّة خلاص. هو رَبَط نفسه بنا وتعهّد بخلاصنا. هو يتمتّع بعمل يديه. في كل التاريخ تظهر آثارَ محبّته وفرحه بخلقه، إذ يجده دائما جميلا. فلماذا إذن نريد أن نعيش ونموت حزانى خائفين؟

 

نحن نعلم أنَّ لحياتنا، ولكلِّ حياة نهاية، حتّى وإن كنّا لا نعرف، متى ستكون. وقد قال المثل: كلُّ مَا له بداية، له أيضاً نهاية. كلّ ما هو بشري هو زائل، كل ما هو موجود اليوم، سيزول عن الوجود غداً، بما فيه الإنسان. "إنّ كلَّ عشب الحقل، الّذي يوجد اليوم، يُطرح غداً في النّار (متى 30:6). لكن لا احد يفتكر بأن النهاية هي غداً، لذا فيحاول حتى الإنسان المؤمن ألا يفتكر فيها، بل ألاّ يتكلّم عنها. وأما الأناجيل فلا تعرف هذا التّحفظ والحذر، بل تتكلّم بصراحة عن النهاية، الّتي تعني الإكتمال بعد الألم والموت، في المسيح يسوع.

 

عندما يلد إنسان ويموت، نقول عنه، أتى ولن يعود. إلاّ عن يسوع فنقول: أتى وسيأتي. فهاتان الحقبتان هما مُهمّتان. الحقبة الأولى ابتدأت في الفردوس، بعد ما وعد الله آدم وحواء بإرسال مخلِّص، هو ابنه ليبني الجسر الذي هدمته خطيئتهما، بينهما وبين خالقهما ونسلِهِم، هذا ودامت هذه الفترة إلى العام 33 حتى ساعة موت هذا المخلص على الصليب. وأما الفترة الثانية فتمتد من السنة 33 وحتى رجوعه في نهاية العالم، التي لا تاريخٌ مُحدّدٌ لها.

 

هذا وما وعده الله لآدم وحواء، بقي الأنبياء يُبشِّرون الشّعب به مئآت السّنين وبشّروا تاريخ ومكان ميلاده. فظهور يسوع على هذه الأرض هو حدث ما له شبيه. بهذا الصدد كتب عالِم الفلك الأمريكي جيمز آروين James Irvin الذي وصل القمر في سفينته أبوللو Apollo 15 اكبر يوم في تاريخ البشريّة ما كان يوم هبوط الإنسان على القمر، لكن يوم نزل يسوع اين الله على أرضنا.

 

المسيحيّون الأوّلون كانوا يفتكرون، أن رجوع يسوع لن يتأخر، وقد تسبقه علامات في الطبيعة. هذا وقد رأوا في نيرون، الذي باشر بالإضطهادات الدمويّة ضدّ المسيحيّين، المسيح الدّجال. وفي المناوشات والحروب، قد رأوا بداية علامات عودته، في تمام العزّةِ والمجد، كحاكم ومخلِّص. لذا كانت صلاتهم: تعال أيها الرّبُّ تعال! (رؤيا 20:22).

 

وأمّا مسيحيّو اليوم، فعقولهم وتفكيرهم، بعيدة كلَّ البُعد عن موضوع مجيء المسيح، بل هم يفتكرون أنهم راسخون على هذه الأرض، فلا يحتاجون إلى الإنشغال بهذه الفكرة، وما عاد هذا الخبر مُهمّاً لهم، أو يُزعجهم، لذا يقولون: ها قد مرّ أكثر من الفي سنة، والمسيح لم يأت، وإذن فهو لن يأتي أبدا. إنّ الجيّد في شهود يهوى، أنّهم يذكِّرون النّاس، بأن المسيح سيأتي. إذ الإيمان بأنه سيأتي، هو ليس خرافة أو اكتشاف من الكنيسة، لكنّه عقيدة إيمانية، كما تصلّي الكنيسة جمعاء كلّ أحد: سيأتي بمجدٍ عظيم، ليدين الأحياء والأموات.

 

إنَّ هذا لا يعني، أننا يجب أن نفزع ونخاف، ونعيش حياتَنا مكتوفي الأيدي، ننتظر هذا الحدث، بل كلُّ ما نحتاجُ إليه، هو أن نعرف أنَّ لحياتنا هدف واتجاهٌ معيّن، إذ في نهايته الخبر المُفْرِح. وهو أن  يسوع المخلِّص، الّذي أتى إلينا وخلّصنا، وأرانا الطّريق المُؤدّي إلى السّماء، هو بانتظارنا، ليكافئنا على ما نعمل في حياتنا. "حينئذٍ يجلس ابن البشر على كرسي مجده، ويجمع امامه جميع الشعوب، فيميِّز بعضَهم عن بعض. فيقول للذين عن يمينه: تعالوا يا مباركي أبي، رثوا المُلْك المُعَدَّ لكم منذ إنشاء العالم. وأمّا للّذين عن يساره: إذهبوا عني يا ملاعين إلى النّار الأبدية، المُعدَّة لإبليس وملائكته" (متى 31:25). فإنجيل اليوم يريد فقط أن يُذكِّرنا بهذه الحقيقة "فاسهروا إذاً، لأنّكم لا تعرفون اليوم ولا الساعة، التي يأتي فيها إبنُ الإنسان" (متى 13:25). آمين