موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأربعاء، ٢٧ يناير / كانون الثاني ٢٠٢١

الحق.. رسالة إنسانية سامية

بقلم :
المونسنيور بيوس قاشا - العراق
الحق.. رسالة إنسانية سامية

الحق.. رسالة إنسانية سامية

 

الحق في المسيح، إنه قول بولس الرسول لتلميذه طيمثاوس "أقول الحق في المسيح ولا أكذب" (1 طيموثاوس 7:2) فالحق أو الحقيقة، رسالة إنسانية سامية اعتمدها الرب يسوع في بشارته الإنجيلية إذ قال "أنا الطريق والحق والحياة" (يو 6:14)، ففي هذه الرسالة ندرك معيار المسيرة البشرية ومصداقيتها، ومن خلالها تظهر جلياً حقيقتنا، وسمو وجودنا، ورسالة إنسانيتنا، وأمام هذا كله نميز ونتعلم ما هو الحق الذي يعلنه المسيح الحي وما هو الباطل والفساد والزيف والدجل، كما يعلمنا ما هو الجميل وما هو القبيح ونحن في مجتمع يقدس الفساد ويقدم المصلحة والأنانية على القيم والأخلاق، ويكشف ما تفشى هذه الأيام من طرق الدجل والكذب وتصديقه وتزوير الحقائق لتضليل الآخرين البسطاء وفي جميع الأمور والمجالات، وفي طرقٍ لتدمير الإنسان العاقل وتشويه وجوه الآخرين وسمعتهم وحقيقتهم فنُفسد بذلك وصية الله ورب السماء الذي قال "لا تسرقوا، لا تكذبوا، ولا تغدروا احدكم بصاحبه" (سفر اللاويين 1:19)، وايضا "لا تكذبوا بعضكم على بعض" (كولوسي 9:3). وما ذلك إلا عدوان أثيم على أبرياء سلكوا سبل الله وسراط السماء و"طريق الرب" (متى 3:3 ومرقس 3:1).

 

نعم، نحن اليوم أمام أزمنة تفشى فيها الكذب والتلفيق والتضليل والغش من أجل رؤية أنانية فأصبحت مسيرتنا البشرية مسيرة كاذبة ودنيوية بحتة رباطها المصلحة ورايتها المصلحة وحقيقتها المصلحة ولا شيء غير ذلك، عفوا، فاليوم الكل يكذب، كبار الزمن ومسلَّطو الدنيا، أمراء الحياة ومتقدمو الشعوب وبسطاء المسيرة في نواحيهم المختلفة والمتعددة، وكذبهم يتوزع بين كذب خبيث ومبطَّن ومحشي ويصعب كشف بطانته وصعوبة حشوته من عداوات وتدمير الآخرين الأبرياء وتمشية المصالح الكبريائية فينعتونه مرة بالكذب الأبيض ويطلبون فيه سماح الله، ومرة ينعتونه بالكذب الأسود ويقدسونه إذ لا مجال للهرب منه. وبهذه العملية تضيع بوصلة مسيرة الحياة، وتصبح الحقيقة رهينة في أيادي جبابرة الزمان والدنيا وكبار المصالح والكراهيات وفي ذلك ينسون أن إله السماء هو "الرب الذي يميت ويُحيي" (صموئيل الاول 6:2) فتموت الإتجاهات الأخلاقية والمبادئ الإنسانية وتضيع الطرق السليمة وتوصيات السماء فيصبح البشر إلهة الزمان والرب يقول "لا تجعل لك إله غيري" (تثنية 7:5).

 

نعم، لم يعد عالمنا يميز بين الحقيقة السليمة والحقيقة المزوَّرة بسبب ابتعادنا الإرادي عن حقيقة الخير والشر، والأجوبة التي ملأت عالمنا بشرقه وربما بغربه أيضاً تجعلنا كلنا في عالم الضعفاء لنسير في اتجاهات متنوعة. فالشرير لن يقول يوماً عن نفسه أنه شرير ولكنه بدل ذلك يدّعي أن السماء انتجته وأنه عظيم المسيرة وحقيقة الزمن، شئنا أم أبينا، فتراه يبتهل إلى إله السماء فاتحاً ذراعيه بقدر عرض كتفيه وينشد بصوت رخيم دعاء الألسن ليطرب المستمعين وينسى أن قابل الدعاء لا يحتاج إلى ذلك بل إلى قلوب خاشعة وأفواه خافتة وأجسام متواضعة وصلاة لا يراه فيها إذ يقول "ادخل إلى مخدعك... وهو يراك في الخفية هو يجازيك" (متى 6:6). أمام ذلك أسأل: أين هو المعيار الحقيقي والثابت للشهادة الأمينة، هل في أن أحمي البوصلة التي سلكتُها؟ فالحقيقة تقول لا يمكن الوقوف بوجه الأقوياء لأنهم أقوياء ولا فائدة من ذلك لأننا ضعفاء في هذه الدنيا فلا يمكن أن نميز بين الحقيقة والتزييف وما هو جميل وما هو قبيح وما هو خير وما هو شر، لذلك يتسلط القائل أنْ لا فائدة من ذلك، ولكن ومن المؤسف أننا نيأس لكن الوفاء يقول لو سعينا نحن الضعفاء إلى معرفة قواعد الحقيقة والزيف وقواعد الخير والشر نجعل من أنفسنا نحن الضعفاء واعين لما يحدث من حولنا، ونعلم  ان ما ينقصنا هو وحدة الكلمة، و"بقدر ما أعطى الله من مواهب لكل واحد" (1بط 10:4) فالمسيح الحي يقول "الشجرة تُعرَف من ثمرها" (متى 33:12 ولوقا 44:6). فلماذا نفتش عن وسائل محرَّمة لنضيء حقيقتنا المزيفة مع علمنا أن ثمار الإنسان ليست بوضوح ثمار الشجرة لأن الإنسان كاذب ومخادع ويفتش عن هواه ومصلحته ولا يمكنه أن يقول الحقيقة، فرسالته عجزت عن أن تعطي جواباً حقاً بسبب التعقيدات التي طرأت حيث العديد منا أصبح يُخضع حقيقة السماء لمآربه في اجتهادات شخصية وفي شرائع دنيوية وهذا أوصلنا إلى درجة اليأس، فكل واحد منا أخذ يوجّه بوصلته وتوجهاته الروحية والأخلاقية والإنسانية ويجعلها هي الصحيحة،  فقد قال الشاعر أبو علاء المعرّي يوماً " في اللاذقية ضجّةٌ ما بينَ أحمدَ والمسيحْ، هذا بناقوسٍ يدقُّ وذا بمئذنةٍ يصيحْ، كلٌّ يمجّدُ دينهُ، ياليتَ شعري ما الصحيحْ؟".

 

نعم، ختامًا، إن حقيقتنا هي أن نتوجه نحو السماء لنسمع الكلمة الإلهية كي لا نسير في مختلف الاتجاهات ونحن لا ندري حقيقة سيرنا فهذا دليل العجز الكبير لكبار دنيانا وزماننا في قراءتهم المختلفة، وأصبحنا لا نعرف أين جوهر المسيرة وما هو الأصيل والدخيل والمزاج والمصلحة، وأين يمر درب الحقيقة ومسيرة الضمير والعدل والاستقامة والتراحم، فالرب أحبنا وعلمنا أن نشهد للحق إذ قال "قولوا الحق والحق يحرركم" (يو32:8) عبر ضمائر مستقيمة فهو يريد "كلنا أن نخلص" (أع 12:4) ولا يمكن ان ادخل السماء لوحدي، كما لا يمكن لربنا ان يفتح لي باب الفردوس لوحدي أو لي ولاصحابي وأصدقائي، بل يجب عليّ أن اصطحب العراة والعميان والعطاشى والمحبوسين والمرذولين والمهمشين و.. و.. فهؤلاء هم أهل الملكوت. فالرب دعانا أحباءه وليس عبيده وأعلمنا بكل شيء (يو15:15)، وهذا الحق (المظلوم) يدعونا أن نشهد له ونعمل لأجله شئنا أم أبينا، ولا شيء أخر، فهو رسالة سماوية. نعم وآمين.