موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
أضاعت دولٌ عربية عدة فرصاً كانت سانحةً للتقدم والازدهار. ليست فلسطين وحدها قضية الفرص الضائعة. هذا حال دول عربية أيضاً، خاصةً الدول التي يوجد فيها تنوع مجتمعي واسع. هذا التنوع الديني والمذهبي والعرقي يتيح فرصاً كبيرةً للاستفادة من كل مكونات المجتمع، بما يجعله مثل بستان كثرت فيه الزهور المختلفة ألوانها، إذا أُحسنت إدارته.
وهذا هو حال سوريا التي تدخل الآن مرحلة جديدة تحمل معها فرصة أخرى لإدارة التنوع المجتمعي فيها بطريقة خلاَّقة. ولعل نقطة البداية الضرورية للمضي في هذا الاتجاه هي وضع مسألة الهوية في موضعها الصحيح، بحيث يكون الانتماء الوطني فوق كل انتماء. فمن طبائع الأمور أن لكل إنسان انتماءات مختلفة، إذ يولدُ لعائلةٍ أو عشيرةٍ أو قبيلة، وفي قريةٍ أو بلدةٍ أو مدينة، ويدينُ بدين أهله وقد ينتمي إلى طائفةٍ أو مذهبٍ فيه، وربما ينحدر من أصلٍ أو عرقٍ معين أيضاً.
وفي العصر الحديث أخذ بعض البشر في الانتماء إلى جمعيات وروابط اجتماعية أو ثقافية أو فكرية شتى. وعندها بدأ الوعي بأن للإنسان انتماءاتٍ يولدُ بها يُطلق عليها أولية، وأخرى يكتسبها في حياته، وصولاً إلى الانتماء الأعلى إلى دولته الوطنية. فعندما يكون المجتمع ناضجاً، وينعم بنظام حكم ناجح وقادر على صنع أسباب تقدمه، يعلو الانتماء إلى الوطن ليس فوق كل الانتماءات الأولية فحسب، ولكن الانتماءات الحديثة أيضاً.
فالانتماء الوطني يشمل في إطاره الأوسع هذه الانتماءات كلها ويحتويها ويصهرها معاً. وكلما قوي الانتماء إلى الوطن، ارتقت التفاعلات بين أصحاب الهويات المختلفة في المجتمع، وتعاظمت قيم التعايش والتسامح، وتراجع التعصب والتطرف. أما إذا حدث العكس يتحول التنوع الثقافي-الاجتماعي إلى نقمة بدل أن يكون نعمة، ويبدو المجتمع كما لو أنه مصاب باختلال في التوازن.. مجتمعُ يدور حول نفسه، أو يتحرك بشكل دائري وليس خطياً، وينشغل بالبحث عن ذاته تحت وطأة انقسام بشأن هويته. ولهذا النوع من المجتمعات خطوط حركية خاصة به. فعندما نتأمل واحداً أو آخر منها، نشعر كأنه يتحرك بين طريق مسدودة وثانية خاطئة، أو كأنه ينتقل من طرف إلى الطرف المقابل تائهاً فاقد الاتجاه.
وربما يخالجُنا أيضاً إحساس بأن مثل هذا المجتمع يبدو كما لو أنه وقع في حقل مغناطيسي أحدث اختلالاً في بنيته الاجتماعية، فصار عاجزاً عن العثور على نقطة أو نقاط توازن بين هويات متصارعة لا يجد سبيلاً للتوفيق بينها، ولا يستطيع وضع حد لتمزق يترتب على التمترس وراء هذه الهوية أو تلك.
وتتوالى أجيالٌ دون أن يتحقق تراكم في الخبرة يقود إلى إدراك أن الهويات لا ينبغي أن تكون متصارعة، لأنها على العكس متكاملة أو ينبغي أن تكون كذلك. فلا تعارض بين الهويات المتعددة في وجدان الشخص السوي، وبالتالي في تفاعلات المجتمع الناضج أو قُل الطبيعي الذي يكون التنوع فيه نعمةً لا نقمة. وهذا ما يؤمل أن يكون المجتمع السوري عليه في الفترة المقبلة.
(الاتحاد الإماراتية)