موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الثلاثاء، ١٤ يونيو / حزيران ٢٠٢٢

البابا فرنسيس... لا الهرب ولا السيف أفادا شيئًا

بقلم :
المونسنيور بيوس قاشا - العراق
المونسنيور بيوس قاشا

المونسنيور بيوس قاشا

 

"لا الهرب ولا السيف أفادا شيئاً"... قالها البابا فرنسيس يوم زيارته للعراق الجريح في خطابه أثناء إقامته القداس الإلهي في كاتدرائية مار يوسف للكلدان عصر يوم السبت 6 آذار 2021.

 

إن تاريخ المسيحية مجبول منذ ولادته بالإضطهاد والقتل والمجازر والصلب والطرد، ذلك كان شأن كل التلاميذ ثم الكنيسة الأولى المضطَهَدة (لوقا12:21-19)، ونسير في تاريخ الإضطهاد في شرقنا حتى نصل إلى مذابح سيفو والإبادة التي حصلت على يد العثمانيين. كما ولا زالت اليوم تُكمّل الإبادة مسيرتَها بطرق متنوعة وبخطط عديدة في قلع الأصلاء من أرضهم وطردهم من حقيقة ترابهم وإفراغ الشرق منهم ومن بلاياهم، إنها جراثيم ضد الإنسانية تجعل من الدين (داعش) إعلاماً لتدمير الآخر بتشويه التفسير وجعله علامة في رفض المختلف ورفض الآخر وإنْ كان كتابياً، والبابا فرنسيس يقول "لا نجوز أن نقتل إخوتنا باسمه" (حوش البيعة، الموصل 7/3/2021) وهذا ما يجعل أنْ يقال أنّ المسيحيين على وشك الإنقراض وضحايا للإبادة الجماعية المخيفة وسلوك سيئ لمسيرة الإنسان المتحضر، لذا فعلى المسيحيين أن يعودوا إلى الأصل وإلى الينبوع الذي لا ينضب، إنه المسيح الحي. فالتنوع مطلوب، وقبول الآخر المختلف ضرورة، وتلك خبرة كنسية إيمانية عاشها قبلنا مسيحنا الحي مع تلاميذه بخبرته وخبراتهم، ولكن ما جمعهم هو "المحبة الكاملة" (يوحنا34:13) التي ملكت على قلوبهم دون محاباة.

 

فالإيمان بالله يعني الإيمان بأن المحبة أقوى من كل شيء "وأعظمهنّ المحبة" (1كورنتس13:13) حتى من الإنسان نفسه لأنها هبة من العلي، فهي أقوى من الموت وهي ركيزة الحقائق كما إنها حقيقة الإيمان وبها إجتاز المسيح وتلاميذه كل الحدود دون تحديد صعوبة الحياة وعمق الألم، وما ذلك إلا نداء لمسيرة مسيحيتنا كي يكون المسيح الحي حاضراً في كل لقاء ومع كل إنسان، لأن الموقف المسيحي نابع من موقف المسيح الحي ولا يجوز أن تسود الإنسانية إلا المحبة. فالمسيحيون يشعرون بالألم من مسيرة بعض كبار الزمن والدنيا الذين لا يسألون إلا عن مآربهم ومصالحهم ومنافعهم، ولم يكن بإمكانهم أن يردّدوا إلا بعض البيانات والإستنكارات والكلام الصارخ والتأوّه تجاه ما إرتكبه تنظيم الدولة الإسلامية حيث الدواعش وما هم إلا قادة أشرار لمسيرتها. كما إن الغرب لم يتّخذ إلا موقفاً متفرجاً مما حصل حتى أدرك أن ذلك ربما سيمزقهم في دورهم، فكانت الحرب ضد الدواعش الأشرار. وأمام هذين الموقفين أتساءل: هل المسيحية ستختفي، تلك التي عُرفت وسبقت حضارات عديدة؟ أليس ذلك إجحاف بحق المسيحيين في أن يبادوا في بلدانهم؟ وهل لا يمكن للكوتا الخاصة بالمسيحيين أن تُدرك ما رسالتها أمام هذا الضياع؟ فإنني أخاف أن أقول الحقيقة في مجال كبار الزمن الذين يتنازعون من أجل مصالحهم ولكي تكون الكتل جزءاً منها.

 

 

عنف وقتل

 

كَثُرَ الكلام عن التشدد الإسلامي والإرهاب الداعشي، وعن حركات تكفيرية تقود المجتمع إلى زعزعة وحدته وإداء مكوناته في إختلافاتهم، كما إن الحديث عن هيمنة المجتمع السلفي على المجتمع الإسلامي إضافة إلى ما يحمله من العنف والقتل والإبادة، هذه العناوين وأخرى مثلها عناوين مخيفة لا تحمل إلا الدمار والعنف وإهانة الآخر مختلفاً كان أم لا. إنه تشدد وتعصب وتكفير في حق مَن يخالف الآراء والمعتقد، والمسيحيون ليسوا في منأى عن هذه العناوين المرهبة، فهم ضحاياها شئنا أم أبينا، لذلك تراهم يخافون من الآتي وينامون بقلق ويصبحون بخوف على مصيرهم ومصير عوائلهم وأموالهم وممتلكاتهم وإنْ كانت حال كل الناس هذه الأيام من مسلمين ومسيحيين، وإنْ كان الفكر الديني المتشدد والمتطرف ما عاد حكراً على أتباع دين من دون آخر، فالكل في باحة الخسارة، والكل يعيش واقعاً مريراً. فما نحتاج إليه خطاباً دينياً معتدلاً من على المنابر يقبل الآخر المختلف ويقرّ بحقوق كل إنسان في العيش وعدم التكفير في دولة مدنية تصون المواطن في حقوقه وتضمن مستقبله بغضّ النظر عن إنتمائه، فآية الكهف (سورة الكهف؛ آية29) تقول (مَن شاء فليؤمن ومَن شاء فليكفر). فلنعمل ضد الشر والإرهاب ولكن لا تستسلموا لليأس رغم أنكم تألمتم كثيراً (البابا فرنسيس، كلمته قبل زيارة العراق، 3/3/2021) من أجل مشاركة فاعلة في محاربة كل داعش لوقف هذا الجنون، ليس فقط في الميدان وساحة العمل بل في مجالات الإعلام والمدارس والجامعات لوقف كل سلاح ومال عن إرهاب الزمن وأشرار آخر الزمان، والعمل على البقاء في الوطن شهادة لأصالتنا ومسيرة إيماننا. وهنا نسأل أنفسنا: هل نتفاعل من أجل مستقبلنا وبالذات في وطننا الجريح، وأنا في ذلك لستُ بسيطاً وساذجاً وإنْ كان ما نراه لا يمكن أن نتفاعل مع كل ما يحدث حولنا وأمام عيوننا ومسمع آذاننا ومرأى أبصارنا، ولكن ما أدركه أن الكلمة الأخيرة هي لله وليس للشرّ. ولنتذكر التجربة الثالثة للمسيح الحيّ بعدما صام أربعين يوماً وأربعين ليلةً قال للشرير:"اذهب يا إبليس، للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد" (لوقا8:4).

 

نعم، إن هذا الإيمان سبيلنا في عيش الرجاء "والرجاء لا يخيب" (رومية5:5) وإنْ كان الوضع الراهن لا يشير بأي حلّ قريب أو نهاية الفاسد الشرير فإن الذي هو أقوى من الموت لا يمكن أن يقتله أحد في داخلنا لأن إيماننا رسالة سامية من أجل وجودنا، فلا ننغلق على ذواتنا وعلى مصالحنا الخاصة (البابا فرنسيس، حوش البيعة، 7/3/2021) ورجاؤنا ما هو إلا في يد الله القدير، وتلك دعوة كي نقف ونستمر في مقاومته وليس للتنازل له. فطريق الجلجة كان طويلاً ولم يكن مريحاً بل متعباً، فلننهض إذا ما سقطنا، فمعلّمنا ومسيحنا سقط ثلاث مرات ولم يتراجع عن الوصول الى جبل الجلجلة (متى32:27) فما بلانا؟ وإن كان كبار معابدنا ودنيانا يفتشون عن مصالحهم وغاياتهم فالعزيمة هي إيماننا في قيم سامية والثبات في مواقفنا والشهادة لحقيقة وجودنا وليس رحيلنا في حمل حقائبنا واختفائنا وإن كان الأمر أمرهم في استعبادنا واستبعادنا، وهذا ربما يثلج صدورهم.

 

نعم، إن الكنيسة تحافظ على وديعة الإيمان كما إنها تسهر عليها وعلى نموّها حيّة في نفوس المؤمنين لتكبر يوماً بعد آخر إنطلاقاً من واقعها ورسالتها. وإذ تؤمن المسيحية بأن الله قادر على كل شيء وهو الذي يُخرج الحياة من الموت ويُحيي العظام بكثرة رحمته فهو يقودنا إلى العمل والصمود وتحدّي الصعاب وبرجاء أكيد في العزيمة. فالمسيحيون أبناء القيامة، وبسبب ذلك يجب أن يبقوا شهوداً في الشرق ولا يمكن الرحيل عنه أو تركه، ومسؤوليتهم دعوة إلى الصمود والثبات كي لا نصبح كلنا من المهجَّرين قسراً والنازحين والراحلين لأنه دون ذلك تكون سياستنا وبياناتنا لعبة أمم ولا أكثر. وتلك حقيقة توصلنا إلى الله الرحمن، ونمتلكها كشهادة لمسيرتنا، فقد كانوا في زمن مضى يفرضون علينا قوميتنا بدكتاتوريتهم، وكانوا يسجّلون تاريخنا ولغتنا من أهل الأعراب، والحقيقة لم تكن لمصلحتنا بل لمصالح سياسية آنية في حينها، واليوم وإن تغيّرت الصورة - فالملقى واحداً - فكل واحد منا يفتش عن قومية تأويه ليسكن في تاريخ الحياة ومن المؤسف لحد الآن لم نعرف سبيلنا ولا مصالحنا الأصيلة، بل أنانياتنا في مصالحنا وحركاتنا وطائفيتنا. ولم نكن ندري عنوان قوميتنا التي ورثناها من آبائنا وأجدادنا بل من أرضنا وأصالتنا، كما كنا في ذلك اليوم عبيداً مطيعين لِمَن يقودنا في الخوف والتهديد من أجل المصالح والمدائح، وكنا نهتف لكبيرهم وقائدهم ورئيسهم "يحيا الرئيس" و"بالروح والدم نفديك"، واليوم نحن أحرار مضطَهَدون ولا زلنا نهتف "تحيا أنانيتنا وقوميتنا المنغلقة في عزلتنا وطائفيتنا الانفرادية"، ولكن الحقيقة إننا نسبح في بحر هائج وأمواجه ترتطم في صخرة تاريخنا. ومن المؤسف نحن سعداء حينما نكون لها ولكن بئس تلك السعادة، فلو سألت اليوم أحد أبسط أبناء شعبنا ورجالاته عن قوميته وطائفيته، فيجيبك وبكل بساطة وسذاجة "أنا إنسان" ولا شيء آخر.

 

 

زوال وشدة

 

نعم، إننا نعيش في محنة لا توصف بقساوتها وفسادها وأولها من كبار زمننا ومعابدنا، كما إن أوقاتنا مصيرية وحاسمة تجاه شعبنا ووجودنا، ولعلّ ذلك إمتحان من ربّ العُلا كي يطهّرنا من الداخل وينقّينا وينزع من قلوبنا كل ما من شأنه يعيق مسيرة إيماننا ووفائنا، حاملين روح المحبة رغم مسيرة العداوة التي نلاقيها، وإنْ كانت أحياناً تضعنا على المحك، فأمّا أن نبقى ونشهد لحقيقة وجودنا أو نزول مع أجيالنا وأحفادنا. فزوالنا هو زوال شعبنا، فما علينا إلا أن ندافع بعضنا عن بعض، والشدّة التي تلاقينا تعكس ظلّها على الجميع في أماكننا المقدسة وفي عقر دورنا وتقودنا إلى ثقافة بائسة في إقصاء الآخر والتعالي، وترافقها مسيرة زرع الأحقاد والسلبيات المدمِّرة.

 

وأقول خاتماً: إننا نحن المسؤولون أمام العالم لنشهد معاً للتاريخ والوقوف في وجه كل مَن يريد أنْ يشوّه هذا التاريخ. ولا نستسلم أمام انتشار الشر (كلمة البابا فرنسيس في روما قبل زيارته العراق، 3/3/2021) فالعالم يتفرج علينا أكثر مما ينظرنا بحنيّة ويستهزء بنا وبانقساماتنا وبطائفيتنا وعشائريتنا وقوميتنا، بمصالحنا المزيّفة وكراسينا الزائلة، فيزرع الفتنة والخصام ويقودنا إلى الإقتتال فنفني بعضنا بعضاً شئنا أم أبينا، وما ذلك إلا نفاق وخبث ورياء. ولكن نحن نرفض الموت عبيداً من أجل حياة شوهها الفاسدون وأصحاب المصالح والأصوات العالية، وما علينا إلا أن نقف صدّاً منيعاً أمام ثقافة الخوف والعزلة، ونرفض المبدأ القائل أن هناك أقليات دينية بحاجة إلى حماية، فنحن كلنا جزء من تراب هذه الأرض، والقانون العادل دستورنا، وكلنا شعب هذه الأرض، لنا ما نعمل فيها، ولنا فيها ماضينا، ونحيا حاضرنا من أجل مستقبلنا ومستقبل عيالنا وأجيالنا، عند ذاك لا نخاف من العناوين التي تُسمّى لنا أو نُنعت بها من أجل طردنا ونكران إيماننا، والحقيقة في وحدة كلمتنا، وكلمة في شهادة مسيرتنا.

 

لذلك يقول البابا فرنسيس: أشجعكم كي لا تنسوا مَن أنتم ومن أين أتيتم. فحافظوا على الروابط التي تجمعكم معاً، وحافظوا على جذوركم (كنيسة الطاهرة، قره قوش، 7/3/2021) وأيضاً: لهذا أتيتُ إليكم حاجّاً لأشكركم ولأثبّتكم في الإيمان والشهادة اليوم وإن الكنيسة في العراق حية (في قداس أربيل، 7/3/2021) فلستم وحدكم فالكنيسة بأكملها قريبة منكم (كنيسة الطاهرة، قره قوش، 7/3/2021). فلا الهرب ولا السيف أفادا شيئاً معلناً أن يسوع غيّر التاريخ بقوة المحبة المتواضعة (كنيسة مار يوسف للكلدان، 6/3/2021).

 

فيا رب، أعطنا أن نصغي إلى صوت رجال الله الصادقين، فنصحّح مسارنا قبل فوات الأوان حتى لا نهلك مرة أخرى في الدمار والموت (البابا فرنسيس، قداس أربيل، 7/3/2021)... نعم وآمين.